} رسم رينيه ماغريت عام 1966 غليوناً وكتب أسفل اللوحة: "هذا ليس غليوناً". هل تنقل الصورة الواقع أم تنقل نسخة خيالية منه؟ منذ ثلاثة أشهر وصور الدمار الأميركي والحرب الأفغانية تملأ عيون المشاهدين في العالم. بين صورة أطلال برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك والصورة الخضراء القاتمة للغارات الجوية على أفغانستان ليلاً مسافة تبدو مستحيلة التجاوز. الكاتب العراقي المقيم في المانيا نجم والي يقدم هنا مقاربة للمسألة: الصورة تبدو مثل صدرية تُلبس في المطبخ: دوائر وردية اللون وقصبات صغيرة ذات خلفية بيضاء. تلك هي الصور المكبرة لجرثومة الحمى الخبيثة. في ما أطلق عليه "الحرب ضد الإرهاب" وصلت سلطة الصور إلى بعد يعرفه الجميع، على رغم أن لا أحد يستطيع ترجمة مضمونه. وعندما قال المتحدث باسم البيت الأبيض، آري فلايشر: "على الأميركيين أن ينتبهوا إلى ما يقولونه"، كان عليه في الحقيقة أن يلحق بجملته جملة أخرى، أكثر أهمية: "وما يرونه". في زمن حرب فيتنام، كانت هناك صورة واحدة، حملت الرأي العام العالمي كله على الوقوف ضد الغزو الأميركي لفيتنام: صبية فيتنامية عارية، تهرب راكضة من قصف حاملة القنابل B-52 وهي تصرخ. خلال "عاصفة الصحراء" العام 1991 سُمح فقط لقنال الCNN الأميركية بنقل الصور من بغداد. في ذلك الوقت كنا نرى شاشة تلفزيونية سوداء، تُرمى عبرها بين الحين والآخر ومضات بيضاء. من الواضح أنها كانت مجرد صواريخ، وكانت تبدو مثل نجوم ذائبة. في أيامنا هذه، في أيام حرب "العدالة المطلقة"، نرى صوراً شبيهة بالنوعية ذاتها، صوراً غير واضحة وغير حادة. بكتريا الحمى الخبيثة المكبرة آلاف المرات، لا يُمكن رؤيتها بالعين المجردة. لكن ذلك لا يمنع أن نعتبر بالفعل تلك الصورة مجرد صدرية قماش تلبسها النساء في المطبخ، إن لم يكن الموضوع المطروح هو الأنثراكس "الجمرة الخبيثة" والحرب والهجوم الإرهابي والموت. الإرهابيون يعرفون ذلك، وهم استخدموا سلطة الصور في الأيام الأخيرة مثلهم مثل أي طرف آخر، كما لو كان التلفزيون، الوسيلة الإعلامية المهمة في العالم الغربي، سلاحاً يستخرجونه من مستودعاتهم العسكرية. التلفزيون ينقل كل ما يفعلونه عبر كل العالم. وإذا كان الهجوم الإرهابي موجهاً ضد البرجين وبناية البنتاغون، باعتبارها بنايات تشكل رموزاً أميركية معينة اقتصادية وعسكرية، وضد الناس الذين كانوا فيها، فإن استخدام الجهاز الإعلامي يتوجه ضد وعي الناس وإخافتهم لاحقاً، وبالذات أولئك الناس الذين لم يكونوا في البنايات العالية. انها عجلة شيطانية تلك التي تدور في هذا السياق. لأن طالما هناك تلفزيون فإن الإرهابيين سيستخدمون هذا الجهاز. وطالما هناك إرهابيون يقومون بالهجوم، طالما هناك تلفزيون سيقوم بنقل كل ما يفعلونه. طبعاً يظل بث الأخبار في النقل الحي، أمراً مختلفاً عن نقل الأخبار المسجلة. في هذه الحال يركز المشاهد ذهنه أكثر على جمع المعلومات، سواء من طريق منح الخبر إضافات جديدة أو تغذيته بالتكهنات والتفسيرات الخاصة الجديدة. تلك هي فائدة التلفزيون: السرعة. على رغم ذلك فإن المعنى يظل غائباً، لأن المعلومات بلا علاقة مع بعضها هي في النهاية مثل حال اللغات الكثيرة في بابل - تشوش الناس وتثير عندهم البلبلة، إن لم تشل المجتمع كله. ذلك أن الصور وحدها لا تمنح أكثرية الناس شكلاً منطقياً موحداً. انها تقف بمواجهة واجب مُحكَم، لا تستطيع التغلب عليه. ليس لأنها غير مؤهلة للقيام بهذا الواجب، إنما لأن هناك الكثير من الأشياء غير المفهومة عند المقارنة. آري فلايشر كان عليه أن يقول "اقرأوا الصحف"، لأن وسائل الإعلام المطبوعة، سواء أراد المرء أم لا، تجسد عبر شكل بُعدَيها علاقة ذات معنى خاصة بها. ويكفي أن بإمكان المرء تصفحها، إذا أراد ذلك. القارئ هو الذي يحدد الوقت، الذي يتعلم فيه ما هو جديد، وليس محرر التلفزيون، الذي يقطع الأخبار المصورة. قبل أسابيع راحت الناس تشاهد نموذجاً جديداً في جهاز التلفزيون. ندبة خضراء رصاصية وبقع بيض تتركز في مربع صغير. في العناوين التحتية لإحدى الصور، كان يُمكن قراءة بعض الجمل، وإلى جانب الصورة وقف أحد المحررين التلفزيونيين وراح يتكلم. عبر العلاقة بين المحرر والبقع باستطاعة المرء تفسير الديكور: يمكن أن تكون البقع البيض صاروخاً!؟ أما البقع الغامقة، فهي بلا شك مدينة، بلد، نهر. بإمكان المرء أن يتكهن بأن الخلفية الخضراء الرصاصية هي أفغانستان. الأمر المضاد للخبر هو المعرفة التي يمكن أن يملكها المشاهد. لكن الأمر أعقد من ذلك. ومفارقة المعرفة أنها أحياناً غير واضحة مثل ضباب، وغير مفهومة مثل نظرية غوديل: جملة متعادلة، لا يمكن استخلاص أي حكم منها، لكي يستطيع أحد أن يقول، ما إذا كانت صحيحة أو مغلوطة. "هذه الجملة غير قابلة للاستدلال"، وهذا يعني بحسب منطق غوديل: إذا كانت الجملة خطأ فعلى المرء أن يقدر على إثبات ذلك، وهذا يولد تناقضاً. أما إذا كانت الجملة صحيحة، فليس باستطاعة المرء الاستدلال عليها، أيضاً يولد هذا تناقضاً. عند طرح السؤال على الكومبيوتر، عما إذا كانت الجملة صحيحة أم لا، يصفن الكومبيوتر لثوان، ثم تُشل حركته بعدها بثوان تماماً. خبراء علم الرياضيات يقولون، هذا ما يفرق الإنسان عن الآلة: الإنسان يتعرف على المشكلات التي لا تحل، وعلى رغم ذلك لن يظل بسببها مشلولاً. ذلك ما يقولونه هم على الأقل. يبقى من أكثر الأمور إثارة للفضول، أنه عند شروع المرء بطرح الأسئلة على نفسه، لا يستطيع هو بالذات الإجابة عنها. منذ 11 أيلول سبتمبر تحول الذين يملكون بريداً الكترونياً إلى "محطة راديو بمحرر". إذ راحت الأخبار التي يحصل عليها كل واحد تُرسل بصورة أوتوماتيكية إلى الآخرين، أسماء غلط وصور مزورة تُرمى كل يوم في بريد الآخرين الإلكتروني. "في الحرب تصبح الحقيقة ثمينة إلى درجة أنها يجب أن تُحاط بحراس من الكذب"، يُقال ان وينستون تشرشل قال تلك الجملة ذات يوم. لو كان تشرشل الآن على قيد الحياة، فمن المحتمل أنه سيطلب إحاطة الحقيقة دائماً بحراس من محرري التلفزيون. أحد العاملين في وزارة الخارجية البريطانية صرح قبل أيام في لندن، "في كل الأحوال، إذا تحدث توني بلير في كل مؤتمر صحافي، عما يسمعه عند الفطور في راديو القاهرة، فبالتأكيد ان ليس هناك أحداً سيصدقه بعد اليوم". سبعة أشهر قبل الهجوم الإرهابي ظهر في مقال صحافي كان يُستشهد به أكثر من مناسبة، أن بن لادن ومنظمته "القاعدة" يخفون رسائلهم في صور البورنو الخلاعة. هذا التكنيك يسمى "ستاغنوغرافي". رسالة مشفرة تُخفى في صورة أو في قطعة موسيقية، فيحتاج المرء الى الشروع ببعض الخطوات الصغيرة بتغيير نظام الشفرة العام. بالنسبة الى المراقب الجاهل بهذه الأمور، تظل هذه الرسائل أشياء غير مرئية. الآن يتكهن الآخرون بأن في كل صورة وفي كل حركة هناك شفرة مخفية. رأيت ذات مرة أحد الأخصائيين بالستاغنوغرافي يتحدث في التلفزيون الإنكليزي عن أحد الجنرالات الأميركيين الأسرى، كيف أنه نقل من طريق حركة التماع بعينيه بمواجهة الكاميرا الوضع الذي خضع إليه:"التعذيب". يُقال أيضاً إن بن لادن نقل رسائله عبر الشاشة: قبل الهجوم على البارجة كول في ميناء عدن، في اليمن الجنوبي، حمل في مقابلة تلفزيونية الخنجر اليمني. وفي الفيديو الأخير له، لبس معطفاً عسكرياً أميركياً. يمكن النظر إلى هذه الملاحظات كمزحة، لكن من غير المهم درجة المزاح، فإنها تقود بلا شك إلى شدّ المرء إلى شاشة التلفزيون أكثر، على رغم أنه كلما أطال المرء مشاهدة التلفزيون، كلما زادت دوخة رأسه. كلما رأى المرء صوراً كثيرة، كلما زادت رغبته بمعرفة الترابط الذي يجمعها. طبعاً يظل السؤال العالق: إلى أي عمق على الإنسان أن يرى، لكي يحل مفاتيح صورة تلفزيونية ما؟ هذه المشكلة دوخت الرسام رينه ماغريت أيضاً. أعتقد أن كل رسمه تركز في تجسيد هذه المفارقة. من لوحاته التي تعبر بشكل عميق عن هذه المعضلة، تلك اللوحة التي رسم فيها غليونين، كتب تحت غليون منهما: "هذا ليس غليوناً". كان يريد أن يحطم عبر ذلك مغزى العلاقة بين الصورة والواقع، وتوضيح الأمر للمشاهد، بأن ليس هناك صورة واقعية مضبوطة أكثر من الموضوع ذاته. من يبحث بإلحاح عن شيء ما، عليه أن يدبر حاله. في الفيلم المشهور "علامة بي" يبحث أحد العلماء عن نموذج موحد في الرياضيات وفي الطبيعة. يحذره معلمه: "إذا كنت تبحث عن نموذج معين فستجد في كل مكان مقياساً واحداً فقط!!". السؤال لم يعد ما هو حقيقي وما هو غلط. السؤال الآن هو: عندما يصبح الواقع مختلفاً بعض الشيء عن الصورة، فما هو الشيء الذي على المرء أن يبحث عنه؟