} بعد 11 أيلول سبتمبر الفائت تكاثرت صور الخراب في وسائل الاعلام. بين الصور الفوتوغرافية الأشهر لأطلال مركز التجارة العالمية، ما يذكر بلوحات زيتية ألمانية من القرن التاسع عشر. صحيفة "هامبورغر آبند بلانت" الألمانية حولت احدى هذه الصور الى ايقونة للدمار. الكاتب العراقي المقيم في ألمانيا نجم والي يقارن هذه الصور بلوحات الألماني كاسبار فريدريش: كل شيء يعدي، فما أن يروِّج الإعلام لشيء ما، حتى نراه في كل مكان. كل شيء يعدي، فالصور تنتشر ليس بسرعة فقط، إنما تُصنع أيضاً بسرعة. بعد وقت قليل من انهيار برجي التجارة في نيويورك، تحول الهيكل المجوف للخرائب الآيلة للسقوط، إلى أيقونة عالمية تقف على الأرض في شكل مائل: نصب تذكاري أو حجارة قبر رمزية ترتفع 400 متر، حتى أن التجويف المرتفع للبنايتين المرتفعتين عن كل البنايات المجاورة لهما، تحول بالفعل إلى قبر. هذا التجويف الذي يمثل بقايا برجي مركز التجارة العالمية المنهار شاهدناه في صورة ظهرت على شكل بوستر على كامل الصفحة الأولى لصحيفة "هامبورغر آبند بلات" الصادرة في هامبورغ، حمل عنواناً كُتب بخط عريض فوق الصورة: "Amerikaner wir sind bei euch أيها الأميركان نحن معكم"، بينما كُتب تحته نداء يطالبنا بالتظاهر والتعبير عن مشاركتنا: هذه الصفحة الصورة صُنعت كي تُعلق على الشباك، على الباب، أو على زجاج السيارة. في اليوم الثاني رحنا نرى الصورة أينما ذهبنا في هامبورغ بعد يومين أو ثلاثة راحت تختفي شيئاً فشيئاً، الآن اختفت تماماً. المسؤولون أكدوا أن الصورة هي لقطة حقيقية. من الصعب تصديق ذلك، لأن الصورة تبدو مُصممة بشكل واعٍ، لإيصال رسالة واحدة، تعبر عن صعقة المرء ودهشته أمام هذا الحدث غير القابل للتصديق. الخرابة تقع إلى يسار الصورة في الخلفية. يميناً للأمام يخفق على سهم خشبي، العلم الأميركي. تعبير الصورة يمكن فهمه في العالم كله. لكن في الجريدة المحلية، يظل هذا التعبير رسالة ألمانية في اتجاه أميركا، يتجسد ضمن تقليد الصور، الذي يحمل جذوره عند البلدين الحليفين: تقليد صور مرحلة الرومانسية الألمانية، التي يمثلها الرسام الألماني كاسبار دافيد فريدريش، بعلاقتها مع صور مرحلة الرومانسية الأميركية التي بدأت في القرن التاسع عشر. مصور رويترز أمسك بوعي أو من دون وعي، بالقوة التعبيرية لصور كاسبار فريدريش فريدريش، التي ترتكز غالباً على حطام خرابة، والتي تكون عادة كنيسة غوطية. وحتى عندما نرى في أشهر لوحاته "سفينة في بحر من الجليد"، مجرد هيكل لسفينة توشك على التحطم، فان رسالته "الدينية" تظل ذاتها. ففي هذه اللوحة التي أُطلق عليها في البدء اسم "الأمل الخائب"، نرى صليباً شبه مائل على متن السفينة المحطمة وسط العواصف البحرية. في صورة وكالة رويترز نرى العلم الأميركي يخفق لوحده في الفراغ. في الصورة أيضاً استعارات أخرى يُمكن الاستشهاد بها هنا. مثلاً الدعائم المنتصبة مثل جذوع أشجار تُذكرنا بصور الحرب التي أخذها المصور الفوتوغرافي المشهور أوتو ديكس في بدايات القرن الماضي. وحتى وإن ادعى أحدهم أن معظم الصور المعاصرة المشهورة تُصنع من قبل ماكنة هوليوود، وليس لها علاقة بصور تنتمي لتاريخ الفن، فإن الجواب على ذلك ببساطة: صحيح أن من الممكن أيضاً أن يذكرنا مصور رويترز بصور ساحات المعارك المجدبة في الأفلام الحربية وأفلام الكوارث. لكن من ناحية أخرى يعتمد تجسيد المعارك السينمائية صورياً في غالبه على الرسم الرومانسي. لم أعلق صفحة الجريدة لا على الشباك ولا في مكان آخر، لأن الصورة تريد إيصال رسالة واحدة فقط: إعلان المساندة والتضامن، انها لا تطالبني بالفهم مثل لوحات العصر الرومانسي. وتلك هي نقطة افتراقها الأساسية. وعند التمعن بالصورة بشكل عميق، نكتشف أنها تريد اللعب بمن ينظر إليها: إذ يتحول مكان الهجوم الإرهابي إلى ساحة قتال كلاسيكية لحرب تدور رحاها في البرية، ومركز التجارة العالمية إلى كنيسة، بينما يلعب العلم الأميركي دور الصليب المسيحي. بهذا المعنى تريد الصورة أن تقول لنا، ان ما ضُرب هناك ليس قلب أميركا التجاري والعسكري إنما مركزها الديني. وإذا ذهبنا أبعد، فإن دعوة أميركا لبلدان حلف الأطلسي للوقوف معها عسكرياً و"النهوض من الخرائب"، لا يعني رد الدَيْن الذي قدمته أميركا لهذه البلدان في الحرب العالمية الثانية، إنما يجب القيام بذلك بسبب "حب الآخر". وضمن الإشارات التي تحملها الصورة، على كل شخص أن يفهم أن ردود أفعال أميركا الانتقامية هي تعبير عن حرب مسيحية مقدسة. وإذا بالغنا أكثر، فهي تريد أن تقول لنا أيضاً في النهاية، ان الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن هو نتيجة لصراع الثقافات، انه هجوم على الحضارة الغربية وقيمها. أنا أبالغ بتعمد، من أجل توضيح الدور الذي يلعبه نشر صور تحمل تقنية جمالية عالية في مناسبات مثل هذه. آلاف الناس كان عليهم أن يموتوا، لأن البنايات التي كانوا فيها، كانت تمثل رموزاً معينة، لكن لا حديث عنهم، وكأن ما تعرضوا إليه ضئيل وتافه، لا يستحق ذكره، قياساً لما تعرض له البناء المعماري، لأنه يجسد فكرة أكبر من الناس. تفسير الرموز يبدو في حرب الإرهاب أكثر أهمية وتأثيراً مما هو عليه عادة في الحروب التقليدية. مركز التجارة العالمية كان رمزاً، وعندما تحطم، تحول مباشرة إلى رمز من جديد. لكن إذا كان فقط موضوع التعبير عن الرمز هو الجديد وليس المعنى الذي يشكله الحدث كله بالنسبة إلينا، فمن المستحيل أن يستطيع المرء الاشتغال عليه من جديد. لكن الأمر كان مختلفاً عند كاسبر دافيد فريدريش، فالخرائب تعني عنده، أن ليس هناك ما هو أبدي، والبنايات هذه التي نراها الآن خرائب، لا تعني الشيء نفسه كما كانت عليه قبل 200 عام. النظر اليها وهي تسقط يؤكد ببساطة على زوالها. الرسام يبدع بتعمد خرائب "فنية" واضحة، لكي يحمل المشاهد على الاستغراق بالتفكير الفلسفي. في الخرابة تتجسد دورة الحياة، التي تسترجع في دورتها من جديد البشر، الأشياء وكل ما تنتجه الطبيعة يومياً. أما السؤال، في ما إذا كان نشوء الخرائب نتيجة للحروب أو لكوارث طبيعية، لم يكن بالأحرى مهماً. ليس على المرء أن يكون يابانياً لكي يفهم صور ريوجي مياموتوس، الذي حملته الهزة الأرضية في اليابان على اخراج صور بالأسود والأبيض مباشرة بعد الهزة الأرضية. ان كيفية إدراكنا للصور لها علاقة بكيفية فهمنا لسبب نشوء الخرائب. الأمر هنا يتعلق بكارثة طبيعية، وبهذا الشكل نرى الصور بمشاعر أخرى، غير تلك التي تثيرها صور تعرض حطام الحرب. في جنوب شرقي آسيا أخذت في السنوات الأخيرة تنتشر صور أشكال "مسالمة" للخرائب، لا يعرفه المرء في "الغرب". انها تلك البنايات غير المنتهية البناء، المتروكة على النصف، بنايات لمكاتب وبنايات سكنية، مراكز للتسوق أو بنايات تشير لها قطع خشبية، كان بناؤها من الاسمنت عند الطريق السريع. قبل سنتين عندما حدثت ما أطلق عليه الأزمة الاقتصادية في آسيا، أفلست مئات الشركات، بينما أوقف مئات المستثمرين استثماراتهم، اضافة إلى إفلاس عدد من دول المنطقة. هكذا تحولت الخرائب إلى الرمز وإلى ما كان يجب أن يكون هناك، وما أصبح خراباً بالفعل. الفنان التايلاندي المشهور مانيت سريوانيشبوم صور في ألبومه خرائب الأزمة الآسيوية، وسماها "Dream interruptus الحلم المقطوع". أيضاً مركز التجارة العالمية المحطم يرمز الى حلم مقطوع. لكن هل هو فقط حلم الحرية، الديموقراطية، والأمن، الذي أيقظتنا منه حفنة من الإرهابيين؟ تحطيم مركز التجارة العالمية كان حدثاً مفاجئاً، ممارسة حربية للعنف. لكن الخرائب أيضاً، التي عرضها التايلاندي، هي ثمرة حدث مفاجئ. صحيح أنه لم يكن هجوماً عسكرياً أدى الى موت الآلاف، لكنه كان حدثاً كبيراً صاعقاً، حدثاً لم يتكهن به أحد من كان يتكهن بالهجوم على برجي التجارة العالمية؟، أطلق عليه المصور التايلاندي "الحرب من دون دم": الحرب من طريق المصالح الاقتصادية التي انتقلت إلى تايلاند بأكثر الأشكال عنفاً، هناك أيضاً سلسلة صور قديمة للتايلاندي معروفة تحت اسم صور "حرب الاستهلاك"، حيث يصور ساحات، كانت تمثل مراكز اقتصادية، هي الآن أثناء التصوير مجدبة. ويبدو أن التساؤل ببساطة، كيف تنشأ الخرائب، يحتاج إلى علم جمال جديد بفن الخرائب.