يقام عرض تاريخي لأعمال الفنان رينيه ماغريت 1898 - 1967 في أنحاء مختلفة من بروكسل، احتفاءً بذكراه المئوية وذلك بين 6 آذار مارس و28 حزيران يونيو، تحت رعاية المتاحف الملكية للفنون الجميلة في بلجيكا. في صالة عرض الفن الحديث، المالكة لأكبر مجموعة من أعمال ماغريت في العالم يقام المعرض الرئيسي. وسيتم في هذه المناسبة عرض لأكثر من 200 عمل فني متنوع للفنان، والعديد منها يعرض للمرة الأولى أمام الجمهور. "أُظهر الأشياء في لوحاتي ضمن موضع تصعب مصادفته في الواقع، وهذا إشباع لرغبة صادقة أو أقلّه مُدركة ...، تبعاً لإرادتي بوصف الأشياء الأكثر حميمية، أرى ان لا بد من إقامة نظام حديث لاكتساب حسيّة مؤثرة" هذا ما قال عن نفسه ماغريت، الرسام السريالي البلجيكي الأصل، الذي ينحدر من أُسرةٍ لا تقل سريالية عن لوحاته. عاش ماغريت ما بين والد مضطرب امتهن تجارة الأقمشة والأعمال، ووالدة انتحرت وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره، والوجود الدائم لعلبة غامضة على منضدة سريره، لم يدرك محتواها اطلاقاً. منذ صغره، اجتذبه الرسم، وهو الذي أحسَ بوجود هالة ضبابية تغلف فن الرسم وكأنه ممارسة سحرية، وكأن الرسامين ذو قدرات خارقة. التحق ماغريت بأكاديمية الفنون الجميلة في بروكسل العام 1916، حيث ساد آنذاك تيار الرمزية، الا أنه لم يجد نفسه في هذا التيار. وعندما اكتشف الفنانين المستقبليين الإيطاليين في العام نفسه، ونعرّف على عالمهم المبني على التصورات والافكار الحديثة، شَّكَلَ الأمر صدمة لماغريت: "رأيت أمام عيني تحدًّ صارخٍ للحس السليم الذي طالما أضجرني، الضوء نفسه الذي اعتدت مشاهدته في صِغري لحظة خروجي من دهاليز المقابر في المدفن العتيق، حيث كنت أمضي عطلي". لم يمتلك ماغريت الحِس الجمالي الشمالي. على الرغم من إغراق مواضيعه بجو حالم ضبابي وبمناخ أيلولي أوروبي، رغب بتسليط ضوء الشمس على موضوعاته مذعناً لدقة تفاصيل الأشياء وتكوينها البصري. عند رؤيته صدفة لنتوءات زخرفية على باب مصنع جعة جاء قراره حاسماً، إذ تملكه الإحساس بأن للباب عالماً قائماً بذاته وحضوراً خفياً. ومذاك قرر الفنان الرسم بطريقة مغايرة. في العام 1925 شاهد ماغريت لوحة الفنان جورجيو دي شيريكو "ترنيمة العشق"، فاضطربت أحاسيسه "لدرجة عجزي عن احتباس دموعي"، ورسم أول لوحتين سرياليتي له: "النافذة" و"الجوكي الضائع". في العام 1927 اتخذ اختيار ماغريت لمواضيعه منحىً عشوائياً حيث اختمرت تجربته السريالية، فأتت موضوعاته مما انتقاه من عليّة المنزل في طفولته الجلجل، الرماثة: آلة موسيقية، وعناصر مستقاة من المشهد العائلي الجدار، الستائر، الباب، النافذة، ومن غرفة الطفولة ورق الجدران، نتوءات زخرفية، مقبض الباب، خطوط الأرضية الخشبية الهاربة الى الأفق في شكل منظوري، هذه الاشياء التي تملكته منذ الصغر وشكلت جزءاً أساسياً من رؤيته للواقع. وفي العام نفسه أقام ماغريت معرضه الفردي الأول في بروكسل. وباستثناء بعض الأصدقاء الذين أبدوا حماستهم لأعماله، ووجِهَ المعرض بعدائية شديدة. أحد النقاد كتب بهذه المناسبة: "إنه نتاج مخّ حضري بلا دم، واهن بما لا يتيح له بلوغ الحسية ... نحن هنا في أقصى البرودة، الصمت والموت". وكتب قارىء مساهم في مجلة "الراية الحمراء" التابعة للحزب الشيوعي البلجيكي، "ماذا يمكن القول أمام هذه اللوحات المدعية، والخالية من أي رابط حي، وذات الرخاوة المنطوية على جَدْبٍ كئيب، الفاضحة بلا حياء لتفسخ وسط غارق في الفردية". عانى ماغريت الكثير من سوء تفسير البعض لوحاته، وضاقت به بروكسل فانتقل وجورجيت بيرجيه قرينته منذ العام 1922 والمرأة الوحيدة في حياته في العام نفسه الى باريس حيث استقر هناك، وارتبط فكرياً بالمجموعة السريالية الباريسية وشعرائها مثل أراغون وبروتون وإيلوار، وانغمس في أجواء باريس البوهيمية. كان ظهور ماغريت في العدد الأخير من منشورة "الثورة السريالية ذا دلالة، سواء في الفوتو مونتاج الذي يمثل السرياليين مشكّلين، وهم نائمون، إطاراً لنص استبدلت فيه الكلمة الرئيسية برسم امرأة عارية، أو في مجموعة لوحاته "الكلمات والصور"، وهي تعداد لِعِبَر تتضمنها الرسومات، وكأنها مبحث في الجبر. "إن المادة لا ترتبط بإسمها كثيراً، لدرجة العجز عن إيجاد اسم آخر اكثر ملاءمة لها"، يقول ماغريت. وهو لذلك، على سبيل المثال، يطلق تسمية مدفع على رسمة تمثل ورقة شجرة، الأمر الذي يجعلنا نفكر في عدم وجود رابط وثيق بين الشيء وما يمثله في التعبير. وفي إحدى أشهر لوحاته "خيانة الصور" يكتفي ماغريت برسم دقيق وبسيط لغليون مع تعليق "هذا ليس بغليون". وتعقب تلك الفترة لوحة "مفتاح الأحلام"، وهي كناية عن سلسلة من الرسومات، أشبه بشريط مصور، ذيّلت بكلمات متنافرة مع الاشكال. فهو يطلق على رسمة بيضة تسمية أكاسيا، وعلى رسمة قبعة تسمية الثلج... إذا كان من المفترض إدراك عشوائية اللغة وعبثيتها أو التعبير عن رغبة دفينة للغة بديلة أكثر انسجاماً مع الواقع، فالأهمية عند ماغريت معطاة للنموذج المختار، لا للإغواء أو لِغنى التعبير اللغوي، والهدف هو "إجبار الأشياء على امتلاك وقع خاص مؤثر، وخلق اتصال عميق بين الوعي والعالم الخارجي". مذهل الفارق بين ماغريت وزملائه السرياليين، فقلما نجد في لوحاته مسوخاً أو أشكالاً غير واضحة، وهو غير ممسوس برغبة التكيف مع عالم خاص مُبْتَكَر بالرغم من خصوصية أجوائه. وماغريت بعيد عن دفعنا في أغوار دغل تملؤه كائنات غير مألوفة، فغالباً ما تتشكل لوحته من عنصر حميم أو عنصرين: وردة، شجرة، منزل، حذاء، جسد... معزولة في فراغ مطلق، فتأتي لوحاته كتهيؤات غريبة يعجز اللسان عن وصفها أو كحلم شاذ لا نملك مفاتيح تفسيره. "الملك المهاجر"، "عبور صعب"، "رجل الفسحة" جميعها عناوين تبرز الهم الرئيسي للموضوع الماغريتي، وهو الإكتشاف. يهجر ماغريت المساحة المفروضة عليه، ليغور في أعماق واقع آخر، لا حدود فيه للفراغات، فجميع عناصر النافذة والباب ترمز الى الهروب خارج الواقع وتخطي المظهر البصري بغية خوض تجربة غير مُختبرة، تفتح النافذة على سماء تضيع فيها الأوزان وتطرح أحجية على المشاهد. تعود أعمال ماغريت في حقبة الثلاثينات تلك، الى تجربته السريالية الصاخبة في باريس، لكن العلاقة بينه وبين بروتون سرعان ما تتصدع بسبب حادثة طفيفة، فبريتون الأكثر راديكالية من ماغريت في عدائه للكاثوليكية، يقوم بتوبيخ جورجيت لإرتدائها صليباً ذهبياً ورثته عن جدتها. فتعنّف هذه الأخيرة بريتون بشدة، ومن دون ان ينبس ماغريت بحرف واحد، يخرج مصطحباً زوجته. يحاول أراغون اصلاح الأمور بين الرسام والشاعر، دون جدوى. امتنع ماغريت عن حضور الاجتماعات السريالية، وبعد فترة قصيرة عاد الى بروكسل هاجراً باريس. علماً أنه لم يتردد، بعد مرور ثلاث سنوات على تلك الحادثة، في رسم السيدة العذراء غامزة وهي تثني طرف تنورتها. استمر ماغريت وبريتون مع ذلك، في تبادل الإعجاب واحدهما بشخصية الآخر، والمشاركة بالآراء ذاتها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. عند عودة ماغريت الى بروكسل في العام 1930، ينكفىء الرجل في المنزل الزوجي وكأنه بحاجة الى ايجاد بيئة طفولته من جديد والإحساس برفاهة المنزل البرجوازي المريح، والمناخ الهادىء لمدخن الغليون ضمن ديكور آمن هيأته له زوجته. في هذا الجو المفارق لفنّه ظاهرياً، هذا العالم المنظّم والملمع، ستتفجر ريشة ماغريت بأكثر اللوحات اللامنتظرة، وسينضج الأفق الماغريتي. وهكذا فإن لوحة "الاغتصاب"، وهي اللوحة الأكثر اضطراباً في اعماله، تعود الى هذه الحقبة. في العام 1936 يُوقع ماغريت على منشور العمل الثوري الثقافي المسمى ب"ضد الحرب" وينظم المعرض الفردي الأول له في نيويورك ويلقى نجاحاً ساحقاً. وفي محاضرة عن سيرته ألقاها ماغريت عام 1938، تحت عنوان "خط الحياة"، يقول ماغريت: "لسنا سوى مواضيع في هذا العالم المتفكك والعبثي حيث يتم تصنيع الأسلحة لحفظ السلام فيه، ويستخدم العلم في التدمير، والبناء، والقتل لاستمرارية حياة بشر على شفير النهاية. عالم يتم فيه الزواج من أجل المادة، وتشيد فيه قصور تُهجر لتتعفّن على شاطىء البحر". تفرد ماغريت بشخصيته كمنظّر في الفن، وكتب الكثير من النصوص الجميلة حول فنه. وفي وصف تأملي للشجرة، يقول ماغريت: "في اندفاعها من الأرض نحو الشمس، تشكل الشجرة مثالاً للغبطة، ولإدراك هذا المثال لا بد من السكون في مكاننا دون حراك، تماماً مثل الشجرة. عندما نكون في حركة، تصير الشجرة في موضع المشاهد. حتى وهي على شكل طاولة، او كرسي او باب، تساهم الشجرة في حضور استعراض حياتنا المبلبلة الى هذا الحد او ذاك". كمعظم زملائه، انخرط ماغريت في الحزب الشيوعي البلجيكي عام 1945، حيث بدأت حقبة جديدة من حياته يملؤها الاضطراب والصخب، ان على الصعيدين الفني والسياسي. في العام 1946 ينشر ماغريت ثلاثة مناشير من اجمل النصوص السريالية: "الغبي" أغبياء هم الخوارنة، جاهلون في أمور الدين، التي سوف نلقنهم إياها، "المنكّد" عبيدنا عمال المناجم يتصببون عرقا من أجلنا، والنص الثالث شديد العنف. يرسل ماغريت للجرائد رسائل استفزازية، ويقوم بتنظيم المقالب وإرسال دعوات خاصة مزيفة لكبار شخصيات بروكسل. تضج بروكسل بأفعاله، مما يضطر الحزب الشيوعي البلجيكي لمطالبته الإلتزام بالجدية والنظام، وهو أمر غير وارد بتاتاً عند ماغريت. وفي العام 1947، يجن جنون ماغريت عند قيام مجلة "الراية الحمراء" بتخصيص مقال كامل يغطي زيارة الملكة لمعرض نظمه دار النشر الشيوعي، ويوجه رسالة تعنيف شديدة للمجلة معبراً عن سخطه. وعاد من شبابه الفائر الى حياة هادئة بجانب زوجته كارهاً للسفر. سكن منازل شبيهة بتلك المرسومة في لوحاته، وارتدى ربطات مماثلة لما في لوحاته. الى جانب الرسم أمضى ماغريت وقته في الدردشة والنقاش ولعب الشطرنج مع أصدقائه حتى ساعات الفجر الأولى، ولم يُشكل له الديكور الكلاسيكي جداً، من طراز لويس الخامس عشر أي نفور، ولم تمنعه اهتماماته من ممارسة الطبخ من وقت الى آخر، وغالباً ما طلب من زوجته أن تعزف له على البيانو مقطوعات من تأليف ساتي، ديبوسي ورافيل. قلّتْ زياراته للمعارض، ولم يمتلك سيارة في حياته سوى لخمسة أيام سرعان ما باعها. مات ماغريت مخلصاً في إعجابه منذ أيام الصبا للمفضّلين عنده من فناني عصره، أي دي شيريكو وماكس إرنست. مغو في أعماله دون ادعاء او تفذلك، يُغربنا دون سفر، لا تكف شخصيته المفارقة عن إثارة التساؤلات حتى اليوم، أي بعد وفاته في العام 1967.