ذات مرة عنون رينيه ماغريت، الرسام البلجيكي، لوحة له بهذه العبارة الغريبة رغم بساطتها "هذا ليس غليوناً". وكانت اللوحة تمثل صورة غليون بالفعل. من هنا، في واحد من التفسيرات الأكثر بساطة للعبارة، فضل مؤرخ للفن ان يقول ان ماغريت كان يقصد ان ما في اللوحة "صورة للغليون" و"ليس الغليون نفسه". وبهذا المعنى نفسه، تقريباً، يمكننا بالطبع ان نفهم فحوى النص الذي كتبه عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار، إبان حرب الخليج الثانية التي خاضتها قوى التحالف الدولي، بقيادة الولاياتالمتحدة الاميركية، ضد نظام صدام حسين وجيشه، حين قال تحت شعار "أن حرب الخليج لن تقع"، انه حين يراقب العالم الحرب على شاشة التلفزة، يشعر ان الحرب لا توجد في الواقع بل فقط على تلك الشاشات، مضيفاً اننا "في خوفنا من أي شيء قد يبدو ممعناً في واقعيته، توصلنا الى اختراع مكان تتمثل الحرب فيه، لأننا نفضل ما هو افتراضي، على ما هو واقعي، أي على ذلك الواقع الذي أضحى التلفزيون مرآته الكونية". ويضيف بودريار ان "التلفزيون أصبح أكثر من مرآة: لقد اصبح هو وأخباره ميدان المعركة نفسه". يقيناً ان بودريار لا يتحدث هنا عن الحرب الفعلية في واقعها، بل تحديداً عن الحرب كما يتلقاها الرأي العام: عن حرب الصورة. لأن الحرب، على شاشة "سي.ان.ان" وغيرها من الشاشات صارت مجرد صورة. ومنذ ما يزيد عن عقد من الزمن، اعتادت هذه الصورة على احتلال مكانتها في العشيات الهادئة في بيوت المتفرجين. وفهم الاستراتيجيون هذا الأمر بدقة، وراحوا يشتغلون عليه. ولعله سيكون من المفيد ها هنا، ان نذكر بما يشاهده متابعو آخر الحروب وأحدثها، حرب كوسوفو: انهم يشاهدون صوراً للقصف، وجموعاً من الناس يتحركون في أمكنة تلتقطهم فيها الكاميرا، وجسوراً محطمة، ثم ناطقاً باسم الحلف الاطلسي تحسنت صورته وأداؤه كثيراً، بعد ان اقترب من الكارثة أول أيام الحرب، ما دعا الدول الغربية المعنية الى إرسال خبراء في التجميل والأناقة واساليب القول لكي يعلموه ما الذي يتعين عليه لبسه وقوله، أمام الكاميرات تنقل صورته، التي هي صورة الحرب، الى مئات ملايين المتفرجين، من الذين يبدو وكأن الحرب صورة موجهة اليهم، ويدعون للمشاركة فيها، كما هي حال المجموعة اللاعبة في فيلم دايفيد كروننبرغ الأخير "اكزيستانز". إنها، بكل اختصار، حرب الصورة، كما يشرحها بودريار. فإذا كان الأمر كذلك، أين هي، اذن، صورة الحرب؟ فيلمان على الأقل أجابا على هذا السؤال في الآونة الأخيرة: "انقاذ الجندي رايان" لستيفن سبيلبرغ، و"الخيط الأحمر الرفيع" لتيرنس مالك. والمفارقة ان الحرب في هذين الفيلمين، بدت - وهي في الأصل تمثيل في تمثيل - حرباً حقيقية، حرباً مرعبة. مرعبة الى درجة ان متفرجين كثيرين كانوا يصرخون في الصالة التي تعرض فيلم سبيلبرغ، ولا سيما حين قدم ثلث ساعة من المذابح والدماء المتطايرة والجثث المتساقطة. في هذين الفيلمين جاءت "صورة الحرب" متناقضة بشكل كلي مع "حرب الصورة". فهل معنى هذا ان الحرب لن ترعب الا اذا تحولت الى ذكرى، أي الى "صورة حرب"؟ نطرح هذا السؤال ونحن نتذكر ان ما من صورة أتت لتمثل حرب كوسوفو، بدت حقيقية، مرعبة ومثيرة للصراخ تشعر متفرجيها بالتقزز من الحرب. كانت هناك صور مثيرة للتعاطف الأطفال المنتحبون والنساء الحائرات والعجائز المحمولون، بين اللاجئين، وكانت هناك صورة مثيرة للغضب تدمير صربيا وكوسوفو بشكل لا يرحم ويبدو في معظم الاحيان غير مبرر. ولكن الحرب المثيرة للرعب لم تكن هناك. كانت، فقط، على شاشة السينما، في خيالات صانعي الأفلام. فهل دخلنا في زمن تكمن المفارقة الاساسية فيه ان الخيال أصبح أكثر واقعية من الواقع؟