بهزيمة نظام"طالبان" وشبكة "القاعدة" وبعدما وجهت ضربات قاضية لجماعات التطرف الديني في الجزائر ومصر والسعودية في التسعينات، ومع التحاق الاتحاد الأوروبي بالاعتراض على التطرف الديني في الصفوف الفلسطينية، ورفض تصنيفه كمقاومة، وبدخول العالم في نظام مالي واستخباري وقانوني وقضائي جديد نتيجة القرار 1373، يطرح السؤال: هل انتهى عهد العنف "الاسلامي"؟ الجواب في التعاطي الحازم مع التطرف والعنف "اليهودي"، كما في تجنب "صنع" الاصولية لأهداف سياسية في بقع مثل العراق كما حدث في افغانستان قبل عقدين. الجواب ايضاً في طيات القرار الحكومي العربي والاسلامي بألا يفسر الانتصار على جماعات التطرف الديني بأنه انتصار للاجهزة الأمنية بلا حاجة للاصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يسمح بمساهمة شعبية مؤسساتية في صنع القرارات. فهذه فرصة لدفن نمط التطرف الأصولي المدمر واستبداله بنهج اصلاح بناء للعالم العربي والاسلامي. والأمر يتطلب حكمة محلية ودولية. أولى محطات الاستدراك تكمن في ضمان عدم السماح لليمين الاسرائيلي بافتراض ان هزيمة التطرف الاصولي الاسلامي تشكل انتصاراً للتطرف والعنف اليهودي/ الاسرائيلي. وهذا وارد فقط عند ادراك الولاياتالمتحدة ان لا مناص من تطويق التطرف الاسرائيلي الذي يمثله رئيس الوزراء ارييل شارون بغض النظر عن الاعتبارات السياسية، الاسرائيلية منها والاميركية، بحزم وضغط وبحسم معادلة المصلحة الاميركية. شارون اليوم وضع في رأس أولوياته اقحام الاجندة الاسرائيلية في الشراكة مع الولاياتالمتحدة في مكافحة الارهاب على القائمة الاميركية. وواشنطن واعية لأهدافه وغاياته، لكن أولوياتها تصب في انهاء التطرف الأصولي الاسلامي في مختلف أنحاء العالم. فالهزيمة الجزئية، للارهاب غير واردة لدى الادارة الاميركية، لأنها تشكل خطأً استراتيجياً وقعت فيه الولاياتالمتحدة في السابق. ونائب وزير الدفاع الاميركي، بول ولفوفيتز عبر عن ذلك وفي ذهنه تجربة العراق. المأزق الذي قد تجد الادارة الاميركية نفسها فيه ينطلق من اسرائيل. فهناك دول اسلامية وعربية مستعدة للتعاون مع اميركا والموافقة على ملاحقتها التنظيمات المتطرفة في عقر دراها، قصفاً أو في عمليات كوماندوس. هناك دول اخرى تتعاون استخبارياً ومصرفياً وأمنياً، بعضها علناً وبعضها سراً. فالقضاء على التطرف الديني الأصولي في المجتمعات الاسلامية والعربية ليس غاية اميركية محضة، انه اساساً هدف للانظمة والحكومات المحلية التي وجدت في هذه التنظيمات حركة للقضاء عليها. وعالجتها أمنياً قبل ان تدخل اميركا الحلبة في اعقاب 11 ايلول سبتمبر. حدث ذلك في سورية ومصر والجزائر والسعودية والعراق. ما حدث بعد 11 ايلول قد يكون الضربة القاضية للتطرف الأصولي الاسلامي، ما لم ترتكب اخطاء فادحة، ابرزها خطأ اعفاء اسرائيل من المحاسبة على تطرفها والتلكؤ في المعالجة الجذرية للنزاع العربي - الاسرائيلي. فالقضية الوحيدة المتبقية عقبة في مسيرة القضاء على التطرف الديني في البقعة الاسلامية هي فلسطين. واذا لم تتمكن الولاياتالمتحدة من افهام اسرائيل بأن الانتصار في الحرب على الارهاب ليس تأشيرة دخول لاسرائيل للمضي في احباط قيام دولة فلسطينية مستقلة، دولة حقيقية وليس مجرد تلاعب على الفكرة والجغرافيا، دولة تقوم في مكان إزالة الاحتلال عن أراضي 1967، فالانتصار جزئي. وكما الهزيمة الجزئية خطأ استراتيجي فادح، كذلك الانتصار الجزئي، خصوصاً اذا سُمح لاسرائيل بأن تزعمه انتصاراً لها. اليوم تقع الضغوط على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ليحسم أمره نحو التنظيمات الدينية المتطرفة التي تتبنى العنف، وهو مُطالب من جانب الاتحاد الأوروبي بالتعامل مع هذه المنظمات بصفتها "ارهابية". وقد يكون الضغط هذا مساعداً لعرفات لأنه يحصنه عربياً وفلسطينياً، اذا قرر الاقدام بلا خوف أو تردد. المهم ان يكون في ذهن الادارة الاميركية والاتحاد الأوروبي وروسيا والامم المتحدة، أي ما هو معروف ب"الرباعية" ان يلي تطويق عرفات تطويق لشارون لإجباره بدوره على اتخاذ القرارات الصعبة. أي اخفاق في هذا الأمر سيؤدي الى ما يشابه "اطلاق النار على النفس من دون قصد"، حسب التعبير العسكري، أو توفير الذخيرة المضادة كي يُقصف هدف توجيه القبضة القاضية الى التطرف الأصولي في الساحة الاسلامية. فإذا كان في الحسابات السياسية والاستراتيجية الاميركية منها والأوروبية، الاسلامية والعربية، القضاء التام على هذا التطرف وجبهاته، تبدو الفرصة متاحة الآن. اذ خسر هذا المعسكر كل شيء، ولم يبق لديه سوى قضايا الآخرين واخطاء قد ترتكب. حل القضية الفلسطينية جذرياً له الأولوية. انما هناك كذلك مسائل اخرى حيوية وجذرية، اذا غُيبت فإنها ستعود لتصطاد الانتصار وتلحق به الهزيمة، ابرزها العلاقة العربية والاسلامية مع معادلة الانتصار على التطرف الاصولي في ساحتها. فالارتياح للوضع الراهن ما بعد هزيمة "طالبان" و"القاعدة" قد ينسي الحكومات والأنظمة المعنية ان الوضع الراهن لسنوات في الساحة العربية بالذات هو الذي انتج التطرف الاصولي لأنه كان المنفذ والمنفس الوحيد عن الكبت والمعاناة التي فرضتها الأصول الأمنية واجهزتها. فإذا افترضت هذه الحكومات ان نسف الأصولية الدينية والمتطرفة تأشيرة لها لتعزيز الاصولية الأمنية، فإنها تترك نفسها والبقعة العربية في حال انتصار وهزيمة جزئية عواقبها وخيمة على الجميع، وان لم تكن المؤشرات اليها واضحة اليوم. ذلك ان نمطاً آخر من التطرف والعنف سيبرز اذا لم تأخذ الحكومات العربية الى الاصلاح الصادق والبناء الجدي للمؤسسات واحترام الفرد وحقوقه وتطلعاته. فسقوط التطرف الأصولي الديني لا يعني ابداً انتصار التطرف الامني بتسلطه على الحكم وعلى الشعوب. فهذه الحقبة لا تمثل يقظة شعبية واعية بحركة مدروسة وأهداف مقنعة وباستراتيجية محنكة. هذه لا تزال حقبة الغضب والاحباط والتيه بين قبضتي التطرف الديني والتطرف الأمني. فإذا قضي على قبضة، هذا لا يعني ان الأخرى باتت مقبولة. فالغليان مستمر، كما البحث عن هوية، كما البحث عن وسيلة، كما البحث عن خلاص من الوضع الراهن لثلاثين سنة، كما التشوق الى حياة طبيعية. لا شك ان الشعوب العربية، بمختلف توجهاتها واقتناعاتها، تراجع نفسها ومصيرها على ضوء التطورات المدهشة في الأشهر الثلاثة الماضية. بعض المتعجرفين أو الجهلاء الاميركيين يريد ان يقول ان الانتصار العسكري الاميركي في افغانستان أدى الى التغيير الذي حدث في صفوف الرأي العام العربي. في هذا غطرسة وخطورة، خصوصاً اذا نجح الجناح المتطرف في الصفوف الاميركية بفرض توجهه عالمياً كي يُطبق نموذج العظمة العسكرية اينما كان. صحيح ان النخبة العربية عدلت خطابها السياسي بعد الانتصارات العسكرية الاميركية وتراجع بعضها قليلاً عن نمط الشتيمة والشماتة الذي ساد. انما الصحيح ايضاً ان تغيير الخطاب السياسي ينتج عن ادراك لبؤس الخيار الذي مثله "طالبان"، والذي كان مجهولاً لدى الرأي العام العربي قبل ان تحرثه التطورات. على رغم ذلك، ما زالت الشكوك بالغايات الاميركية الخفية سيدة الساحة، سيما بالنسبة الى المواقف الرسمية والفكرية والاعلامية التي تغذيها تكراراً. الواقع ان تلك الغايات الاميركية ليست بذلك القدر من "الخفية". إذ أعلنت واشنطن انها ستلاحق تنظيم "القاعدة" اينما وجد لنفسه ذراع، ولذلك تتجاوز في دارها دستورها وصميم ما تمثله بتجاوزها الحريات الشخصية بإجراءات من الاعتقالات الى المحاكمة العسكرية السرية. والقضية ليست في أجندة خفية ضد الصومال أو اليمن، على سبيل المثال، حيث يتردد انهما المحطة التالية بعد افغانستان. ان المسألة اساساً هي في القرار الحازم بملاحقة تنظيم "القاعدة" والمنظمات المتطرفة الاخرى في اطار مكافحة الارهاب كما في اطار القضاء على التطرف الاصولي الاسلامي. وتكراراً، هذه ليست اجندة اميركية صرفة. ان هذا الهدف هو ايضاً مطلب لأكثرية الدول الاسلامية والعربية. وعليه، ليس مستبعداً ان يتم التنسيق المسبق، بموافقة مسبقة، بين حكومات دول المنطقة واميركا، على قيام عمليات اميركية عسكرية ضد مواقع داخل هذه الدول. وقد تكون باكستان والصومال أولى المحطات، وربما اليمن ايضاً مرشح، مع اختلاف وضعه نظراً لخصوصية طبيعته القبائلية. اليمن، شأنه شأن السعودية أو السودان أو ليبيا أو مصر أو دولة الامارات، يتعاون مع الولاياتالمتحدة في ملاحقة الافراد والتنظيمات. بعض أوجه الخلاف تصب في خانة مدى السماح للسلطات الاميركية باستجواب مسؤولين أو بالسيطرة على التحقيقات داخل البلد. لكن قرار مجلس الأمن رقم 1373 يحبك كل صعيد في مكافحة الارهاب وملاحقة التطرف الأصولي، فيما يشبه وصاية على الانظمة المالية والقانونية والقضائية والاستخبارية والجمركية والمصرفية يقوم بها مجلس الأمن وبالذات الدول الخمس دائمة العضوية فيه. وهذا قرار ملزم، على كل دولة تنفيذه، وألا تعاقب. قد يقع لبنان في المعضلة الأكبر لأنه مُتهم بإيواء التطرف وفسح أراضيه لمعسكرات التدريب، ولأنه على خلاف اساسي مع الولاياتالمتحدة في تصنيف "حزب الله". بريطانيا تحاول تطبيق نموذج "الجيش الجمهوري الايرلندي" على "حزب الله" في طروحاتها مع سورية وايرانولبنان بحيث يتم الفصل بين الجناح السياسي والجناح العسكري من الحزب. والولاياتالمتحدة تبلغ انه ليس في وسعها استثناء لبنان من حملتها العالمية، وكلامها للبنان وجارته سورية. أما العراق فإنه ليس مطروحاً من زاوية ايواء التطرف الاصولي الديني وانما من زاوية التطرف "العلماني" و"العلمي" وبالذات في اطار اسلحة الدمار الشامل. الادارة الاميركية أمهلت العراق ستة شهور بعدما غيرت السياسة الاميركية جذرياً بعودتها الى اشتراط عودة المفتشين الدوليين بعدما كانت حيدت ذلك العنصر من المعادلة تهرباً من رفع العقوبات. قد يكون في بالها صنع "تحالف شمال" عبر الاكراد في شمال العراق على نسق "تحالف الشمال" في افغانستان الذي اسقط نظام "طالبان". وقد بدأ الكلام عن فكرة تعاون سري مع ايران لتعزيز "تحالف جنوب" للشيعة في جنوبالعراق بتكرار صنع الاصولية كما سبق وحدث في افغانستان. هذا الكلام يردده متطرفون في الساحة الاميركية هدفهم الاطاحة بالنظام في العراق بأية وسيلة وثمن. وقد يصبح هذا مقنعاً للادارة الاميركية، اذا رفضت بغداد الاستفادة من الفسحة الزمنية أمامها، سيما وان ايران لا تعتبر اليوم ذات نزعة اصولية دينية متطرفة وانما قادرة على بعث أصولية "ظرفية" لغايات محدودة ومحددة. هذا زمن فرز الشراكات والمعارك في حرب أتت بها الأصولية المتطرفة على الأصولية.