مسايرة التطرف والتأقلم معه ليست في المصلحة الأميركية ولا في صالح مستقبل منطقة الشرق الأوسط. والكلام ليس عن التطرف الإسلامي وحده وانما أيضاً عن التطرف اليهودي الذي يميّز توجهات اسرائيل في هذه الحقبة. لذلك، من الضروري للرئيس باراك أوباما أن يطالب أعضاء حكومته ومبعوثيه ومستشاريه أن يضعوا أمامه استراتيجية متكاملة تتناول تحديات التطرف الاسرائيلي والعربي والايراني، ليس من أجل الامتصاص الموقت للراديكالية وانما من أجل الدعم الفعلي والمتكامل للاعتدال والاصلاح والحداثة والعدالة. ومن الضروري لقوى الاعتدال، لا سيما العربية منها، ان تصيغ بدورها استراتيجية عقلانية لدفع مواقفها الى الأمام محلياً واقليمياً وأميركياً ودولياً. هذه الاستراتيجية يجب ألا تكون سياسية حصراً بل ان يكمل فيها الاقتصاد السياسة وتتخذ اجراءات الاصلاح الداخلي، الاجتماعي كما السياسي والاقتصادي، من دون تلكؤ أو مواربة. فيجب ألا يخاف الاعتداليون من خوض الحرب مع التطرف برؤية جدية قوامها المسؤولية المحلية والشراكة الدولية. يجب أن يسرعوا الى صوغ تصور مفصل ومتكامل لآيديولوجية الاعتدال ومكانة العلمانية السياسية في الحكم غير المتطرف. فالفرصة مواتية الآن للتأثير في التوجهات السياسية ليس فقط للرئيس الاميركي الجديد وان ايضاً لما ستفرزه سياساته من شراكات عالمية لا سيما مع دول مثل الصين وروسيا وكيف ستنعكس هذه الشراكات على النزاعات الاقليمية. فالرئيس أوباما يبدو متشوقاً الى سياسة تعكس طبعه وفكره لكنه واضح في استماعه ليس فقط الى الخبراء السياسيين وانما أيضاً إلى الجنرالات المخضرمين. وعليه، من المهم المساهمة في طرح القضايا والمواقف والآراء والاستراتيجيات أمامه بدلاً من القبوع في ركن الانتظار والتوقعات خلف باب الاحباط والخيبة. الرئيس أوباما يبدو جاهزاً لإطلاق سياسة جديدة لمعالجة النزاعات الاقليمية، ابتداء من افغانستان، تعتمد الاستراتيجية المدنية - العسكرية على نسق تدفق مئات الديبلوماسيين الاميركيين الى افغانستان بالتزامن مع الاستعدادات لنقل 17 ألف جندي لبناء تدرّجي لوجود عسكري أكبر وأطول وبأهداف أوسع من بقعة افغانستان بمفردها. الخبراء العسكريون والسياسيون يصفون هذه الخطة العسكرية بأنها ليست سياسة تعزيز الوجود العسكري تهيئة للانسحاب، وانما هي سياسة إيفاد 17 ألفاً الآن ثم 17 ألفاً آخرين بعد بضعة أشهر كجزء من بناء القوات للبقاء. إيفاد مئات الديبلوماسيين الأميركيين الى افغانستان في اطار سياسة الحشد الديبلوماسي المدني - بالمئات - ليرافق الحشد العسكري - بالآلاف - سياسة ذكية وبعيدة النظر. الجديد فيها هو انها من صنع العسكريين وليس من صنع المدنيين في الادارة الجديدة. الرئيس باراك أوباما أوضح أنه يكن كل التقدير للقادة العسكريين الأميركيين وأنه يضع ثقته في القيادة العسكرية لترسم السياسة الأميركية نحو العراق وافغانستان، وربما ايضاً نحو ايران بصفتها جار ةالاثنين. والقيادة العسكرية هي التي وجدت فائدة في الشراكة مع الشق المدني من السياسة الأميركية. وذلك على صعيدين: السياسة الأميركية في مناطق النزاع بحيث لا يبدو أنه عدائي أو محض عسكري. وصعيد الشراكة المحلية للقوات الأميركية مع قوى محلية - مدنية وغير مدنية - من أجل تحقيق الأهداف. الرجل الأكثر شهرة في هذا الصدد هو الجنرال ديفيد بترايوس، صاحب فكرة الشراكة مع «الصحوات» في العراق وقائد القوات الأميركية المركزية. انه أحد أركان صنع السياسة الاميركية في عهد الرئيس أوباما المكلف ملفي العراق وافغانستان الى جانب وزير الدفاع وليام غيتس علماً بأن مستشار الأمن القومي هو ايضاً رجل عسكري هو الجنرال جيمس جونز. قد يكون الرئيس الأميركي أرضى بعض الخبراء السياسيين خارج وداخل ادارته عندما تحدث عن التوجه الى المعتدلين في «طالبان» لصوغ شبه شراكة معهم لمحاربة الراديكاليين المتطرفين داخل الحركة وربما ايضاً داخل «القاعدة». لكن العسكريين جلسوا في مقاعدهم وصبروا الى حين قيام الرئيس الجديد بالتسلق هبوطاً بعدما تسرع باعلان هذا الاعتزام. بعضهم وجد أن المقارنة بين التوجه الى «الصحوات» في العراق والتوجه الى «معتدلين في طالبان» كلام فارغ، ليس فقط بسبب عدم صحة التشبيه بين «الصحوات» و «طالبان» بصفتهما راديكالية اسلامية. المقارنة كانت عسكرياً بائسة لأن «الصحوات» كانت في أشد الحاجة الى الشراكة مع القوات الاميركية انقاذاً مما اعتبروه «حكم قم» في العراق. أما «طالبان» فهي - برأيهم - ليست في حاجة الى شراكة أو انقاذ وانما هي «منتصرة» ولا تريد المساومة على انتصاراتها. الاستراتيجية الأميركية نحو افغانستان ملفتة ومعقدة وكفيلة بأكثر من امتحان. من حيث المبدأ، هناك نقاش حاد حول ما إذا كان من الأفضل للولايات المتحدة ان تقرر أن «طالبان» وما يفعله بالشعب الافغاني - بما في ذلك التجاوزات المروعة على الصعيد الانساني - ليست شغل اميركا، وان ما يعني اميركا هو حصراً ماذا تفعل «طالبان» إزاء تصدير الارهاب عالمياً ورعايته محلياً عبر تقديم القواعد ل «القاعدة» وغيرها. أصحاب هذا الرأي، عملياً، يسحبون البساط من تحت أقدام كل من خطر على باله أن الولاياتالمتحدة صدقت عندما اعتقدت وزعمت أنها تدعم انتقال افغانستان الى حال عادية واعتدال نسبي وتتمسك بالدفاع عن حقوق الانسان، وبالذات عدم السماح بتكرار ما فعلته «طالبان» بالنساء والفتيات في افغانستان. أصحاب هذا الرأي يروّجون اليوم للتخلي عن الرئيس حميد كارزاي، ليس لأن هناك بديل منه قادر أكثر على الاصلاح وملتزم أكثر بالمسيرة الموعودة، وانما لمجرد أنهم قرروا أن المصلحة الأميركية تقتضي «البراغماتية». وهذه «البراغماتية» استنتجت ان الولاياتالمتحدة لن تتمكن من كسب الحرب في افغانستان ولن تتمكن من إلحاق الهزيمة ب «القاعدة» وأمثالها عبر افغانستان. وعليه، لا مناص سوى ذلك النوع من الصفقة الخفية مع «طالبان» القائمة على «ساعدونا، نتجاهلكم... تحدونا، نعاقبكم». الذين يعارضون هذا الرأي يعارضونه ليس فقط بسبب سيئاته السياسية والأخلاقية في ما يتعلق بالوضع في افغانستان وانما بسبب انعكاساته على ما يتعدى افغانستان - لجهة الرسالة المقلقة التي توجهها القيادة الأميركية على الساحة الدولية، والرسالة التي تبعثها تلك السياسة الى اللاعبين الآخرين على نسق «طالبان» في مختلف بقع العالم - والعالم الاسلامي بالذات. النقاش حاد بل يكاد يشكل معركة بين الطاقم السياسي الذي تصور جزء منه أن عودة الديموقراطيين الى الحكم تعيد اليه وظيفته التي بدأها ولم يستكملها، وبين الطاقم العسكري - السياسي الذي يتصرف بنوع مختلف تماماً من «البراغماتية» الفكرية. أصحاب هذا الفكر يقولون التالي: لن تتقوقع الولاياتالمتحدة أمام «طالبان» في افغانستان، لأن افغانستان فائقة الأهمية في الشراكات الجديدة على نسق الشراكة مع روسيا، ولأن خسارة المعركة في افغانستان تعني خسارة حرب أكبر أمام الراديكالية الاسلامية الممتدة من القوقاز الى الشيشان. يقولون: لن نتسرع الى احتضان نواز شريف قائداً في باكستان لمجرد ان المحامين يقزّمون الرئيس الحالي زرداري. فهو البديل السيئ عن برويز مشرف، انما البديل الأسوأ فهو نواز شريف بكامل تطرفه وتوجهاته الخطيرة. يقولون ان باكستان اليوم بكل ما تحتويه وتبعثه من خوف عميق ليست بلداً يمكن للولايات المتحدة ان تقرر انها في غنى عنه - شأنها شأن افغانستان - وذلك لأن أخطار باكستانوافغانستان ليست محلية وانما دولية. يقولون: دعوا الجنرالات يفكرون بعمق في حاضر النفوذ الاميركي في العراق وافغانستان ومستقبله، وكيف بالإمكان تنفيذ السياسة العسكرية - المدنية لتقوي أيدي المؤسسة العسكرية وتحرر المؤسسة السياسية. وهذا بدوره سيوضح المعالم والخيارات التي تملي السياسة الأميركية تحو ايران. هؤلاء المفكرون في المرحلة المقبلة من السياسة الأميركية لا ينطلقون من إزالة الخيار العسكري ثم التراجع الى سياسة مكبلة نحو ايران. إنهم ينطلقون من الاستخدام الذكي والعقلاني للخيارات العسكرية ثم الصعود الى سياسة واقعية وسياسة مدنية وسياسة حازمة نحو ايران وأمثالها. فهم يفهمون التداخل السياسي - الاقتصادي - العسكري في الاستراتيجيات التقليدية والواقعية المبنية على لغة القوة والعظمة بمعناها الكلاسيكي. يفهمون - كما قال أحدهم - ان روسيا انتصرت في حرب الانابيب في اشارة الى انابيب الغاز والنفط التي تنافست عليها القوى الكبرى، وان روسيا - بغض النظر عن هذا النصر - في حاجة الى الشراكات المرجوة مع الولاياتالمتحدة في افغانستان ونحو ايرانوباكستان. وهم جاهزون لذلك النوع من التعامل «ساعدونا نساعدكم» وليس للصفقات من مختلف الأنواع والألوان مع أمثال «طالبان» وما يسمى بالاعتدال في صفوف الراديكالية المتطرفة اينما كانت. فمسايرة التطرف ليست في قاموس الطاقم الجديد في صنع السياسة الأميركية والذي يأخذ عمقه في الاستراتيجية العسكرية - المدنية. انه يؤمن بفكر وعاطفة ومبادئ الرئيس باراك اوباما، لكنه يركن الى واقعية أوعى من براغماتية المدنيين. افغانستان قد لا تكون ذات أهمية مباشرة لدى العرب أو في استراتيجية صفوف الاعتدال لاعتقادهم ان عليهم التركيز على فلسطين والعراق وايران والمصالحات والخلافات العربية قبيل القمم واثناءها، وفي ما بعدها. بالطبع في هذا قصر نظر ذلك لأن ما تنجح أو تفشل به السياسة الاميركية في افغانستان أو في العراق يؤثر جذرياً في تكبيل أو إطلاق اجنحة الجمهورية الاسلامية لا سيما انها تمر بمرحلة انتقالية وانها داخلياً ليست مستقرة وتعاني اقتصادياً أكثر مما تعترف به وتقر ه. انما سياسة الاعتدال العربي يجب ألا تكون بعنوان واحد، بل من الضروري لها ان تكون شمولية بواقعية، إقدامية وليس سياسة استلقاء. لذلك، ونظراً للتطور المهم على الساحة الاسرائيلية الذي يتمثل بالتملص - بل رفض خيار الدولتين كحل تفاوضي، يجب ان تقوم قوى الاعتدال العربي بصوغ استراتيجية جريئة وهجومية تبين معنى التملص من خيار الدولتين وتبين ان الخيار الآخر الذي تضعه اسرائيل على الطاولة هو خيار التنظيف العرقي بهدف قيام دولة يهودية صافية وخالية من كل من ليس يهودياً. ابراز هذا الواقع بحد ذاته، باستراتيجية بسيطة وواضحة بلا اعتذارية أو خوف أو تردد، يساعد جذرياً في كشف معالم ومخاطر التطرف بغض النظر عن طائفته ودينه وايديولوجيته. فالتطرف هو العدو وعلى الاعتدال ان يجرؤ على خوض الحرب ضده. مشكلة الاعتدال انه يحاول الإرضاء ويحلم بالتعايش من دون معركة. واقع الأمر ان هذه حرب بقاء ومستقبل ولقد بات على الاعتدال ان يتطرف قليلاً ليقول لصانعي الجمل المنمقة ان الاعتدال المتطرف هو الشريك الضروري في صنع الغد المطمئن وليس التطرف المعتدل لأن لا اعتدال في التطرف وتحت اي ظرف أو تفسير كان.