القصة القصيرة في قطر صنيع أنثوي. تصل الى هذا الاستنتاج بيسر. بمجرد اطلاعك على عناوين الكتب القصصية الصادرة وأسماء من كتبوها. سلسلة طويلة من الكاتبات: كلثم جبر، حصة العوضي، هدى النعيمي، فاطمة الكواري، دلال خليفة، وأخيراً: نوره محمد فرج، الكاتبة الشابة التي لم يمض على تخرجها الجامعي إلا سنوات قليلة لتصدر كتابها القصصي الأول. هذا الكتاب الذي اندفع بها الى مقدمة المشهد القصصي في قطر، بل ان البعض وجد في الكتاب فاتحة لنوع قصصي جديد في الخليج. نوع تغلب عليه المناخات الكابوسية، بتوتر لغوي أخاذ وحبكة درامية مشوقة. في "الطوطم" وهو العنوان الذي اختارته نوره لكتابها عالم متخيل، ولكن على شكل كابوس، ذلك العالم الذي تفتح نوره محمد فرج أبوابه أمامنا بمزاج هادئ وسكينة تفصح عن رغبة في الاسترسال. كأنها خرجت من بين صفحات قصة لادغار ألن بو لم تكتب بعد، محملة بالحكايات التي لا تبدأ من لحظة اتفاق مسبق ولا تنتهي لتضعنا في مواجهة حكمة ما. حكايات تتشبه بما تحدثه من صدمات، تحدث وقائعها فجأة لتجيء بتوترها من حيث لا ندري وفي الوقت الذي تشاء وتذهب لتترك أثراً يشبهها، أثراً يذكرنا بهلع عشناه من غير أن نجد له تفسيراً. والكاتبة لكي تكتب كوابيسها تجد ضالتها في الجمل القصيرة التي تناسب الأنفاس المتقطعة التي ترتطم بها من غير أن تفصح عن غموض ما يجري. ولا تخفي هذه القاصة ولعها بهذا العالم السحري المصنوع ببراءة من مادة متخيلة. وهي إذ تضع حوارها على لسان الدمى في "حقائق الكتاب الأصفر" فلأنها تسعى الى أنسنة الغرابة. هذه الغرابة التي تحيط بنا بل وتتمثلها بعض أفعالنا. ولذلك فإن أبطالها يهيمون في برية شاسعة، معلقين من غير أبعاد خارجية تقيدهم بصفاتها. لا زمان ولا مكان. وحتى ما يجري من وقائع يشعر المرء أمامها بشيء من الريبة وكأنها حوادث لم تقع فعلاً. ولكن عدم وقوعها لا يتناقض مع ما يتخللها من صدق فني. هذا الصدق الذي انتقل بها من مرحلة مخالفة الواقع الخارجي الى مرحلة التطابق مع الحقيقة الداخلية. وهي الحقيقة التي تذهب اليها القاصة بكل قوتها لتقول ما ترغب في الافصاح عنه. ان بلاغة القول لدى نوره محمد فرج يقابلها اختزال لافت في الوقائع، الأمر الذي جعل من كل قصة من قصصها نسيجاً لغوياً مشدوداً على ذاته، مقيماً في تدفقه، محتدماً في مناوراته الخفية. لذلك فإن قراءة هذه القصص تحمل على متعة القراءة الخالية من أي غرض الى جانب الانشداد الى المعنى. وهو معنى غالباً ما يكون ملتبساً. غير ان التباسه هذا يجعله أكثر اغراء. وليس ما تقوله هو المهم بل طريقة القول. وهي طريقة تشدنا الى ما يجري في الخفاء من وقائع. في قصة "قرع الأبواب الموصدة" هناك من يقرع الباب وهناك من يقف مذعوراً خلف الباب. وما بين الطرفين هناك واقعة لا نعنى بمعرفتها، لأنها ببساطة قد لا تكون جزءاً معلناً من الحكاية، بل هي جزء من ماضي الحكاية. وما يشدنا في هذه القصة القرع المستمر يقابله ذعر مستمر. ولن يكون مفاجئاً ان تنتهي القصة بألا يحدث شيء لم نكن توقعناه، فلا الباب يفتح ولا من يقرع يلجأ الى كسره. بل يذهب كل الى طريقه، ويبقى الذعر ماثلاً. وهذا بالضبط ما تسعى اليه القاصة". تبدأ القصة لدى هذه الكاتبة من لحظة لقاء غير متوقع. لا تمهيد، ولا قول مسبقاً. فجأة تقع الأحداث وهي أحداث غير مسبوقة دائماً. على سبيل المثال تبدأ قصتها "الطوطم" التي حملت المجموعة عنوانها بما يلي: "ذاك اليوم، وقفت امامه لحظة وجهاً لوجه... وفي اللحظة التالية فررت من أمامه، وعلى رغم هذه اللحظة القصيرة استطاع ان يسودني زمناً غير قصير، فكان لي شأن معه. بهذه الكلمات المشدودة بعضها الى البعض الآخر تدخلنا القاصة الى عالمها في شكل مباشر، فنتوقع حدوث كل شيء مفاجئ. أي شيء شرط أن ينتمي الى عالم لا نحياه مباشرة. السرد هنا يتخذ طابعاً هو أقرب الى المزاج الشعري، تلويحة يد، التفاتة رقبة، دمعة مفاجئة تكفي للدلالة، فالقاصة لا تتعب قارئها بالوصف فهي ترنو الى الصدمة التي لا يمكن أن تحدث على سبيل التورية. الشعر لا يقيم في لغة الكاتبة بل في المشاهد المتوترة التي تصنعها. تقول في "وردة حمراء": "في تلك الأشجار، في نتاجها المبهج، كان الناس يبحثون عن أنفسهم، ويرون صوراً لها، تماماً كالمرايا، لولا أنهم يكتشفون في ذلك الصفاء وتلك الرقة ما لا يعلمون عن أنفسهم". هذه الجمل وسواها الكثير في الكتاب تحيلنا الى الشعر بقوة ما تصنعه من إلهام تصويري. إنها تضعنا في الجزء الفالت من الوصف، ذلك الجزء الذي لا يمكننا رؤيته مباشرة إلا من طريق الشعر. ليس لنا أن نحكم هنا على حيرة الكاتبة بين الشعر والقصة، مستندين في ذلك الحكم الى أن ما نقرأه هو كتابها الأول، والذي قد لا يفصح عن كل موهبتها. فهي قاصة بامتياز شخصياتها التي تلاحقها في لحظة حياة. شخصيات تتكور مثل كرات نارية في لحظة انطلاق. إنها تضع شخصياتها في لحظة التوثب المناسبة لتتفرج عليها وهي تصطدم بجدران المتاهة. وما الحكاية بالنسبة الى هذه القاصة الا نوع من المتاهة. تسلمنا الواقعة فيها الى واقعة تليها، وهكذا يكون علينا ان ننتقل بين الوقائع على عجل من غير أن نمني أنفسنا بالوصول الى النهاية. فليس هنالك ما ينبئ بمثل هذا الوصول. كل قصة من قصص نوره محمد فرج سؤال هو بمثابة جدار من جدران تلك المتاهة التي تشي باتساعها. ولكنه جدار تمتزج مادته بقدر من مادة تأملنا ونحن مأخوذون بسحر موزاييكه. وأخيراً يمكنني القول ان نوره محمد فرج في كتابها "الطوطم" قاصة مبدعة من طراز هو نسيج ذاته. وهي إذ تتقدم الى المشهد القصصي في الخليج من جهة تميزها وفرادتها، مسحورة بعالمها تجعلنا ننظر الى حديقتها السرية بعيون مبهورة بلمعان كائناتها. * شاعر وناقد عراقي.