أربعة فنانين: عراقيان سلام عُمر وأحمد البحراني ولبنانيان رؤوف رفاعي وشارل الخوري، يقيمون معرضاً مشتركاً تحت "ملتقى الفنون"* وفيه تتوزع اللوحات والمنحوتات في فضاءات متقاطعة في اكثر من زاوية وركن. لقاء هؤلاء الفنانين يوحي وكأنهم في وقفة في محطة سفر وخصوصاً العراقيين القادمين من قطر فهما يتقاطعان بمحض صدفة مع زميليهما اللبنانيين. في هذا اللقاء مفارقات في غاية الغرابة ذلك ان الجمع بينهم أمر سيتعذر عليّ إدراكه مهما كنت مسكوناً بروح الاجتماع واللقاء والبحث عن الحد الأدنى... القاسم المشترك فلا قاسم ولا اشتراك إلاّ في عناصر اللوحة او المنحوتة... اي في القماشة واللون والخشب وما عدا ذلك فلا جدوى من البحث عن سبب إلا ما دار في خُلد اصحاب المكان وعلى أي حال، بعد هذا التقاطع الحاد فنياً وثقافياً بين الفنانين الأربعة ومع الاقتراب اكثر وأكثر سنجد ان اللبنانيين يلتقيان فيما بينهما في عدد من الملامح والرموز وحتى في الأداء وهكذا يحصل تماماً لدى العراقيين... فالبيئة والطبيعة والطفولة تشكل المادة الأساسية لدى رؤوف رفاعي وشارل الخوري على رغم ان الأول يغور أعمق في التشكيل والتجريد من الثاني الذي يظل اقرب الى سطح اللوحة محاولاً الإبقاء اكثر على براءة أو عراء العبارة التشكيلية. اما سلام عمر وأحمد البحراني فيلتقيان هما ايضاً ولكن على سجادة اللون وسطوع الدلالة سواء أكان ذلك رسماً وحفراً لدى سلام عمر أو نحتاً لدى البحراني ممسكَين كليهما بدم الذبحة الرافدينية محاولين معاً التلويح عبر الكتل المحفور في الحديد أو الخشب بأن لا لون إلاّ ويختلط برماد التاريخ وفحم الحاضر في عراق اليوم. شسلام عمر "إنني امارس صناعة الفوضى" يهمس في أذني انا الذي اكاد اضاءُ داخلياً بإشعاع لوحاته التي تتساقط كالشهب أو تترامى على الجدران وكأنها شظايا احتفظت بذكر وصور آتية من السديم الأول الذي خرجت منه الكواكب. إنه بريد كوني يعبر فضاءات ومهاويَ، محفوظ في كُنه حجاب أو تعويذة. أي فوضى هذه التي تعيد بناء العالم خارجاً من عصفها، عائداً عبر رؤيا الفنان الى كينونته الأكثر تجرداً حيث لا تأريخ ولا مضمانين إنه العراء الذي يتجوهر في اوشحة الدلالات وهي تفلت منك كطائر ملون عندما تحاول فقط ان تسميها... سلام عمر حفّار من طراز خاص، وتجريد اللوحة لديه هو تشريح محفور معد للطباعة يرفض ان يترك بصماته على الورق ليقول لنا وبإصرار بأن الأحشاء وأن الجوف وأن العروق هي الجسد هي المادة والعبارة والموسيقى في اللوحة لا البشرة ولا أردية الجسد ولا إيماءاته ولا انحناءاته... يعرف سلام ان يخترق مساحة اللوحة تارة باللون الذي يتهاوى احياناً كحجر يسقط من قمة وأخرى بكسر السطح الخارجي او بحفره بالغور في احشائه كمن يُخرج من جوف السديم دماً مشعاً أو حجراً مضاء أو يقوم بكل بساطة بتكسير اللوحة، ذاتها واللعب بسطوحها كما يريد ولكن بإعادة خلقها كوحدة داخلية تتقدم كموسيقى لونية، من موجة زرقاء الى جدول سحري ومن عزف لوني الى إيقاع انهدامي يدوي وراء صفوف المقابر الجماعية حيث تظل الرؤوس المتفحمة، والتي يحتفظ لنا بفحمها وانطفائها على اللوحة مكتظة بذاكرة الحرائق والموت الجماعي التي أفلت منها الفنان كطائر ترك جناحاً في الدخان وجسداً في المكان المضاع. احمد البحراني هل رأيتَ قُبلة، شغافاً، تحليقَ طائر أو عناقاً من الحديد؟... اجل الحديد في يد احمد البحراني معادلة الإيقاع التي تتسلل الى الداخل وكأنها ترجيع اصداء او انهما غيمة او ارتعاشة شفة... في حوار بين رجل وامرأة من الحديد يضع احمد البحراني لمساته على المعدن برشاقة واختزال تاركاً الحديد للونه العاري وكأنه يعبّر بذلك عن عراء الجسد لا المعدن، مقترباً اكثر الى عبارة العشق وهو يجرد الجسد من كل عناصره المألوفة ليُبقيَ على نتوء هنا والتفاف هناك وعتمة بينها وشهقة لن يفلت منها من يقترب من اشكاله ومنحوتاته. وأحمد البحراني في هذه المزاوجات وجد ضالته بين الحصان والفارس بين الثور والثور... وفي هاتين المعضلتين يتقدم احمد البحراني برشاقة راقص باليه فوق ركام الدلالات والأساطير والحكايا والرموز، محلقاً بأجنحته الحديدية كمن يخرج من أوزاره وحتفه الى عالم نهائي متناغم صارم... لا فارس يعلو صهوة الحصان قط... ولا فارس يترجل اعلى ولا فارس يقود... الحصان فقط في كل حالات شموخه وجماله وعنفوانه وارتطامه بفارسه حيث يظل هذا الأخير تحت اقدام الخيول... الخيول العارية من الفرسان، الفرسان التي تجرجرها الأحصنة برقصة الحياة والموت رقصة الوقفة الأخيرة التي في كل مرة تبعث ايقاعاً وموسيقى طالعاً من هول فجيعة الحاضر العراقي حيث لا فارس ولا بطولة ولكن أي رقص هذا الذي يصير فيه الحديد وشاحاً في ريح ويصير اللون فوق الحديد عباءة للتنكر لعناق الجمال بعيداً عن انكسار الفجيعة وسطوع المأساة. احمد البحراني يطرق الجرح بالحديد وليس العكس ذلك ان جسد البطل الممدد على ساحة الرافدين قد صار منجماً للدم والطمي والضوء ولا مدخل غير هاوية الجرح ولا عودة من لقاء إلا ومخلب الحاضر مغروس في عنق هذا الشعب الذي ينزّف بكل الألوان، ويموت بكل الأشكال ويخلد بكل الآجال. لكن الثور لا فارس له ولا مصارع قاتل، بل هو لقاء مع ثور آخر... في ملحمة الخليقة الثور هو الخلاص، هو المدافع، هو المنقذ وهو الملجأ... عشتار تذهب الى ثور السماء لينتقم لها من جلجامش... ولهذا فالثور لدى أحمد البحراني يقف اليوم امام مرآته فقط ولا حوار مع عشتار ولا جلجامش ولا خلود... الثور، ثوران ظلٌّ وجسد ملتصقان في رقصة تبادل مواقع بين الظل والجسد في التفاتة بارعة تكاد تكون الأولى من نوعها في مثل هذا التناول. رفاعي والخوري لا يرسم رؤوف رفاعي بالتجريد كثيراً فهو يتقدم تحت رموز الطفولة التي تشكل مادة اللوحة الأكثر حضوراً وهو يرى ان الجمال، الاستطيقا في العمل الفني يأتي قبل المعنى... "كالمرأة التي تعشق جمالها قبل ان تتعرف على معناها" اي ان اللغة تسبق كل شيء... وفي البدء كانت الكلمة... في البدء كان السديم في البدء كانت الموسيقى وهو يريد ان يظل في لحظة البدء، البدء التكوين البقاء، الكل... ورفاعي يرسم العلاقة مع الأرض، العلاقة مع الغابة والطبيعة كمدخل لحوار مع البيئة وللتناغم معها... يرسم النساء الأمازونيات... ألوان فخارية وسطوح من ذهب الشمس الغاربة. تتداخل اللوحة بخطوطها وألوانها لدى رفاعي اكثر من اشتباك الدلالة ولهذا فهو يقيم علاقات لونية وتشكيلية غالباً ما تقف لدى السطح الخارجي ولا تتقدم اللوحة إلا أفقياً أما حركتها العمودية فتبقى انشاء يأتي مقترحاً من الخارج ولا يتدفق من ينبوع الأعماق... في النقطة نفسها حيث الطفولة وحيث الأرض ورموزها الأكثر بداهة حتى في مادة اللوحة كالجوخ مثلاً، فإنه يقترب من المدار ذاته الذي يتحرك فيه زميله رفاعي. ولكن شارل الخوري يختلف في الأداء، يقترب في اللعب الجمالي والتشكيل اللوني من البداهة والعفوية اكثر من رفاعي... وهو يخلط شخوص لوحاته برموز عناصرها مروراً بتراكيب ذات طبيعة استطيقية بحتة مؤكداً اكثر على إيقاع توافقي بين مساحات اللون الأسود ولون القماش. يؤكد شارل الخوري كما يقول "البعد الواحد" من خلال الفضاء الخالي كخلفية للوحة ولكنه بالتأكيد ليس البعد الواحد لدى مبتكره الفنان شاكر حسن آل سعيد على رغم اعجاب الخوري به وتأكيده علاقة ما تشكيلية معه. * يقام المعرض في فندق الماريديان - كومودور، بيروت.