} تحدثت الحلقة الأولى عن بداية دخول الفكر المتطرف الى الجزائر والأسباب التي دفعت الشباب الى الهجرة لأفغانستان. وتتناول حلقة اليوم انتقال الفصائل الى العنف المسلح في الجزائر بعد الانسحاب السوفياتي في 1989. أمام احتدام الصراع بين الفصائل الأفغانية، بعد انسحاب القوات السوفياتية في 1989، للسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، بدأ الكثير من "الأفغان العرب" في العودة الى بلدانهم. وكان ذلك حال عدد كبير من الجزائريين الذين عاد بعضهم عبر الحدود الليبية أو المغربية وحتى عبر الصحراء الكبرى. وبدأ هؤلاء فور عودتهم في العمل على "بعث الجهاد" في الجزائر. ويورد تقرير لوزارة الدفاع الفرنسية معلومات ترددت لدى أجهزة استخبارات غربية تشير إلى أنه بعد نهاية "الجهاد" في أفغانستان رجع بعض "الأفغان" إلى الجزائر وعمل تحت لواء "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة حالياً، بينما فضل آخرون الإقامة في بعض الدول مثل سورية ولبنان، أو مواصلة الجهاد في دول أخرى مثل البوسنة، كرواتيا، السودان، اليمن وحتى أفغانستان نفسها. ويتابع أن تنظيم "التكفير" كان "أول من أنشأ وحدة مسلحة" تحت اسم "يوم الحساب" في حزيران يونيو 1990 ونسبت اليه لاحقاً عملية قمار التي قادها "الطيب الأفغاني" ضد ثكنة عسكرية على الحدود مع تونس في تشرين الثاني/نوفمبر 1991. لكن مصادر أمنية تشير إلى أن الاعتداءات المسلحة كانت بدأت قبل هذا التاريخ وكانت عبارة عن عمليات فردية، لكنها في الواقع كانت من فعل بعض التنظيمات التي سرعان ما تشكلت في إطار مجموعات محدودة لكنها منظمة. وتشير معلومات أمنية الى أن أول من أدخل تنظيم "الهجرة والتكفير" إلى الجزائر كان أصامير جبرين الملقب ب"كمال" وهو أحد أبرز المتطرفين العائدين من الحرب الأفغانية. ولد في 12 كانون الثاني ديسمبر 1958 في حي حسين داي في العاصمة. وكان يعرف لدى القريبين منه بكونه أمير تنظيم "الهجرة والتكفير"، وتولى في ما بعد إدارة ما اصطلح على تسميته "الجناح العسكري" للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة على رغم الرفض المتكرر لزعيميها عباسي مدني وعلي بلحاج. ومن أهم العمليات التي نسبت الى "أمير جماعة التكفير" منذ عودته من أفغانستان سنة 1989 "ممارسة التحريض ضد النظام والدعوة إلى التمرد في حلقات كان يقيمها في مسجد السنة في حي باب الوادي الشعبي وسط العاصمة". ومع الأيام اتجه "كمال" نحو العمليات المسلحة بعد هجومه سنة 1990 على منجم في ولاية جيجل تمت خلاله سرقة متفجرات. وتكررت العملية مرة أخرى في منطقة زرالدة، غرب العاصمة، حيث سرق متفجرات برفقة أول مجموعة مسلحة شكّلها، وكانت تضم كلاً من عريبي مراد، أسامير أحمد، حطاب عبدالقادر، مولود بشير، الباي غرابة إضافة إلى صديقي نور الدين. ولاحقته قوات الأمن منذ مطلع 1991، وهي المرحلة التي كانت تنشط فيها "جبهة الإنقاذ" في اطار الشرعية. وكانت أهم التهم التي أثيرت ضده "القتل والسرقة الموصوفة، تكوين عصابة أشرار، الحجز والتهديد، الخطف، حمل سلاح محظور، حيازة أسلحة حربية، نقل المتفجرات وحيازتها وارتداء البذلة العسكرية". ومع تزايد الملاحقات الأمنية ضده، قرر "كمال" مغادرة الجزائر في السنة نفسها، بحسب ما نقل عن زوجته التي عادت أخيراً الى الجزائر. واستقر في مدينة بيشاورالباكستانية الى حين تصفيته سنة 1994 على يد عناصر أكثر تطرفاً من جماعة "الهجرة والتكفير" التي ينتمي إليها. ومع قرار "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الدخول في مواجهة سياسية مفتوحة مع الحكومة بسبب التدابير التي وردت في مشروع قانون الانتخابات الجديد الذي قدمته حكومة مولود حمروش في أيار مايو 1991، بدأ الكثير من "الأفغان الجزائريين" بالعد التنازلي للمرحلة الأولى من العمليات العسكرية. وفي الواقع أن تأزم العلاقة بين الحكومة و"جبهة الإنقاذ" دفع الكثير من المتشددين سواء من قدامى العائدين من الحرب الأفغانية أو إطارات الحركة المسلحة التي كان يتزعمها خلال الثمانينات مصطفى بويعلي إلى التفكير في خيار المواجهة المسلحة. وتشير مختلف المصادر إلى أن دخول "جبهة الإنقاذ" في مواجهة مفتوحة مع الحكومة إثر الإعلان عن شن حركة العصيان المدني في 25 ايار 1991 حيث ساهم في بروز التنظيمات المسلحة بشكل مكثف. وتفيد معلومات متطابقة أن عبدالقادر شبوطي الملقب ب"الجنرال"، وهو من قدامى حركة بويعلي، أسس في ايار 1991 "حركة الدولة الإسلامية" التي مكنته من استقطاب عدد من العسكريين الفارين من الجيش الجزائري وقدامى الضباط الذين تخلوا عن المؤسسة العسكرية. وتولّى في ما بعد أحد هؤلاء ويدعى السعيد مخلوفي قيادة التنظيم المسلح بعد مقتل الشبوطي في ايار 1992. ويُزعم ان قمرالدين خربان، وهو من إطارات "جبهة الإنقاذ" وأحد المشاركين في الحرب الأفغانية وهو أيضاً عسكري سابق في الجيش الجزائري، ارتبط أيضاً بتأسيس تنظيم أُطلق عليه "الباقون على العهد". وربطت وسائل إعلام جزائرية هذا التنظيم بعمليات مسلحة سنة 1992، قبل أن ينصهر في إطار "الحركة الاسلامية المسلحة" و"الجيش الإسلامي للإنقاذ". وظهر تنظيم "الباقون على العهد" مجدداً في منتصف التسعينات بقيادة شخص يدعى عبدالرحمن أبو جميل وهو من الذين شاركوا في الحرب في البوسنة. وفي تشرين الثاني من السنة نفسها، بادر منصوري الملياني إلى تأسيس تنظيمه المسلح. كما بادر محمد علال الملقب ب"موح ليفيي" إلى تأسيس تنظيمه المسلح في الفترة نفسها على أنقاض تنظيمات صغيرة عدة لتتوج هذه التنظيمات بالإعلان الرسمي عن تنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة" التي عرفت في ما بعد بكونها المرجعية الأساسية للعمل المسلح في الجزائر. وكانت أبرز العمليات المسلحة التي جرت في هذه الفترة عملية الاعتداء على ثكنة قمار في ولاية الوادي في تشرين الثاني من السنة نفسها بمشاركة عدد من القدامى "الأفغان الجزائريين" وعلى رأسهم عيسى مسعودي الملقب ب"الطيب الأفغاني". "الإنقاذ" حاولت قتل "توفيق" ويشير اللواء المتقاعد خالد نزار، وزير الدفاع الجزائري السابق، في مذكراته الى ان الهجوم على ثكنة قمار "كان عملاً مباشراً من "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". لم يأمر عباسي مدني بصفة مباشرة بالعملية، غير أن عناصر منها كانت تعتقد جازمة أن بإمكانها الوصول إلى السلطة بواسطة الإرهاب. وانتقلت إلى العمل من دون أوامر. وعلى كل، فأنا لا أحدد الإرهاب انطلاقاً فقط من الهجوم على ثكنة قمار. فحركات "جبهة الإنقاذ" في الشارع واستعراضاتها للقوة أليست نوعاً من الإرهاب؟ مسيراتها المتعددة باتجاه الرئاسة ووزارة الدفاع الوطني واستعراضات القوة في كل أيام الجمعة واستعراضات الأفغان الجزائريين في شكل مجموعات كوماندوس والألفاظ هي شكل من الإرهاب". ويقول اللواء المتقاعد في مذكراته التي استعرضت مراحل مهمة من التاريخ الحديث للجزائر: "الإسلاميون كانوا مهيئين منذ وقت طويل، وكنا نعلم أنهم نظموا معسكرات في زيامة ولاية جيجل وفي القل وأنهم كانوا يمارسون التأهيل والتدريبات العسكرية خلال الصيف. وقد اكتشفنا وثائق تتضمن تعليمات للتصرف في حال إيقافهم من قبل أعوان الأمن. كل هذا كان موجوداً ... ولكن التسيب أدى ببساطة ولسوء الحظ إلى الحال التي نعرفها". ويعدد العمليات المسلحة التي حدثت خلال سنة 1991 فيقول: "عاشت قمار جنوب البلاد هجوماً ضد ثكنة فيها شبان مجندون قتل فيه العديد منهم، كما تم الاستيلاء على سلاح، وأشارت طريقة التنكيل بالجثث الى البربرية التي ستظهر في ما بعد. كما تعرضت محكمة البليدة إلى هجوم قتل فيه أشخاص. وفي ورقلة أحرقت امرأة حية في مسكنها، كما هوجم حراس إقامة رئاسية قديمة قرب الدويرة وجردوا من سلاحهم. وكذلك أعدت قوائم لرجال ونساء للقتل وقد اختيرت ساحة أول ايار لتنفيذ الحكم فيهم". ويقول نزّار انه ظهر جلياً أن "جبهة الإنقاذ كانت تضم منظمات مسلحة مستعدة للتحرك بهدف الاستيلاء على السلطة بالقوة. كنا نعرف آنذاك أن الآلاف منهم كانوا قادرين على القتل وكانت "جبهة الإنقاذ" تستخدم هذه المجموعات التي كانت تنشط حولها للمواجهة من دون أن تتحكم فيها فعلاً، معتقدة وهي مخطئة في ذلك انه بإمكانها التحكم فيها عندما تصل إلى السلطة. وكان أحد قادة "جبهة الإنقاذ" محمد السعيد الذي صفّاه جسدياً رفاقه صرّح ذات يوم خلال خطبة ملتهبة أنه يقبض على قنبلة قد تنفجر في أي وقت ملمحاً بذلك إلى هذه المجموعات التي كانت منفلتة من رقابته". ومن بين العمليات المسلحة التي وردت في تقارير الأمن في تلك الفترة "احتجاز عسكريين نقلوا إلى علي بلحاج في حي بلكور الشعبي فقام باستجوابهم بينما كان آخرون يعذبونهم وكان من بين هؤلاء العسكريين المحتجزين سائق الجنرال العماري قائد أركان الجيش الجزائري حالياً الذي بوغت عندما كان في سيارة الخدمة وقد استطاع الهروب بعد أن قفز من النافذة وقام بتبليغنا الأمر". وشملت الاعتداءات مدير الاستخبارات العسكرية اللواء "توفيق" محمد مدين "الذي أخبرني بأنه أصيب بجروح في وجهه وحطم زجاج سيارته الأمامي بصخرة في السكالا حي الأبيار عندما كان متوجهاً إلى وزارة الدفاع". لكن اللواء خالد نزار تجنب الخوض في تفاصيل هذه الحادثة. ومع إلغاء الانتخابات التي فازت بها "جبهة الإنقاذ" في كانون الثاني يناير 1992، دخلت الجماعات المسلحة مرحلة "العلنية". إذ قامت في وقت قصير بتدبير العملية الثانية التي استهدفت ثكنة القوات البحرية في الأميرالية في العاصمة. الجماعة تأسست في بيشاور ويؤكد عضو سابق في مجلس شورى "الجماعة المسلحة"، مستدلاً كما يذكر بكتابات أحد قدامى "الجزائريين الأفغان" قادة بن شيحة أمير "الجماعة" السابق في منطقة غرب الجزائر أن تأسيس "الجماعة الإسلامية المسلحة" كان في مدينة بيشاور من جانب كل من سعيد القاري وأحمد الود وأبو ليث المسيلي من ولاية المسيلة بعد سلسلة من الاجتماعات. لكن ليس هناك مخطوط واحد صدر عن "الجماعة" يؤكد هذه الرواية وإن كان معلوماً أن هؤلاء الثلاثة الذين شاركوا في الحرب الأفغانية وردت أسماؤهم لاحقاً ضمن النواة الأولى التي أسست "الجماعة المسلحة". وثمة من يشير إلى أن "الجماعة المسلحة" دخلت إلى الجزائر بعد عملية الهجوم على الثكنة العسكرية في قمار في تشرين الثاني 1991 حيث اتصل مسؤولو هذه الحركة مع عبدالناصر علمي القريب من التيار السلفي والذي تمكن من استمالة أحمد الود تحت إمرته فأعلن انسحابه من "تيار قطب". وتبعه العديد من قدامى الحرب الأفغانية وعلى رأسهم عكاشة عبداللطيف من تيارت والذي أصبح في ما بعد "أمير الجماعة" في المنطقة الثالثة. وعُقد اجتماع بين "جماعة أحمد الود" و"جماعة منصوري ملياني" أسفر عن ولادة تنظيم جديد باسم "الجماعة الإسلامية المسلحة". لكن أجهزة الأمن استطاعت اعتقال ملياني بعد الاجتماع الذي عُقد في الجلفة، فتولى أحمد الود قيادة التنظيم مكانه. وسعى الأخير الى تدعيم حركته بضم جماعات أخرى مناهضة للحكم، فالتقى الود مع جماعة محمد علال وعبدالحق لعيادة ووحّدوا صفوفهم. ويدعم هذه الرواية عمر شيخي الذي يعد العضو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من مجموع مؤسسي "الجماعة الإسلامية المسلحة" إضافة الى عبدالحق لعيادة الموجود في سجن سركاجي. وسلم شيخي نفسه إلى أجهزة الأمن في مطلع 1999 بعد تعرضه لمحاولات تصفية جسدية نفذها ضده أمير "الجماعة المسلحة" عنتر الزوابري. ومما جاء في رواية شيخي أن جماعة منصوري الملياني "كلفت خلال تأسيسنا لتنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة" بإدارة القضايا التنظيمية كونها صاحبة خبرة في هذا الميدان. وقد اقترح الحراني تسمية الجماعة بإسم "الجماعة الإسلامية المسلحة" وكان الختم الرسمي للتنظيم جاهزاً لأنه جاء به من أفغانستان". لكن المسؤول السابق للتنظيم المسلح جمال زيتوني الملقب ب"أبو عبدالرحمن أمين" قدم لدى توليه إمارة "الجماعة" رواية مخالفة قلل فيها في شكل ملحوظ من تأثير العوامل الخارجية مثل قدامى "الأفغان الجزائريين" على نشأة الحركة، بمثل ما تعمد تجنب وصلها بحركة مصطفى بويعلي. ومما جاء في إفادته التي وردت في كتابه "هداية رب العالمين في تبيان أصول السلفيين وما يجب من العهد على المجاهدين" أن النواة الأولى للجماعة هي "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي كان يتولى مسؤوليتها محمد الخير من القصبة وتتكون من توفيق بن طبيش من قدامى الأفغان وعلي فرطاس وآخرين. وبدأ نشاطهم في سنة 1990 ثم التحقت هذه الجماعة في 1991 بحركة نور الدين سلامنة الذي قتل في 1992 من جانب قوات الأمن وخلفه محمد علال، وبعد وفاته في تشرين الأول 1992 خلفه عبدالحق لعيادة الذي نجح في عقد اجتماع مع منصوري ملياني ما مكن من توحيد الجماعتين وتأسيس "الجماعة الإسلامية المسلحة" في شكلها الأخير. وعلى رغم اختلاف الروايتين إلا أن خبراء الشؤون الأمنية يرجحون رواية قادة بن شيحة لأنها تتقارب في كثير من التفاصيل مع تصريحات الجزائريين العائدين من أفغانستان مثل ماحي علي الملقب ب"أبو تراب" وهواري ولد مومنة وجريري الطيب الملقب ب"جعفر". والمؤكد، بحسب ما يذكر أحمد مراح، أن "الأفغان لعبوا دوراً أساسياً ومحورياً في الأعمال الوحشية التي عرفتها الجزائر"، لكنه يشير إلى مسؤولية الحكومة في تسهيل مهمتهم في نقل أفكار التكفير وتعبئة أنصار "الإنقاذ" ضد الحكومة التي شنت حملة اعتقالات في أوساط المتعاطفين مع الجبهة في كل الولايات ونقلتهم إلى ستة معتقلات أمنية في الصحراء في إطار تدابير حال الطوارئ "وقد كانت هذه المراكز فرصة تاريخية ل"الأفغان الجزائريين" لنشر أفكارهم وسط مؤيدي الإنقاذ". ويتابع: "جرى تجميعهم في ظروف غير إنسانية حفزها الحقد الشديد والمشروع ضد - الطاغوت القامع - ولم يكن لديهم من أعمال إلا الخضوع لتأثير الأفكار التي غرسها هؤلاء "الأفغان" من خلال تنظيم أنفسهم والتدرب أكثر تحت إشرافهم المباشر يقصد "الأفغان الجزائريين" والذين جرى توزيعهم بين مراكز عدة محتشدات على الهواء". مهلة للعودة ووساطة لم تنجح وأمام تصاعد موجة العنف بدأت تقارير أمنية تشير إلى تواصل التحاق بعض "الأفغان" عبر الحدود الليبية والمغربية لدعم الجماعات المسلحة. وأمام الوضع الصعب المتمثّل بسقوط العديد من الضحايا بين أفراد الشرطة والجيش، بادرت الاستخبارات العسكرية في عمل ذي وجهين: الأول يتمثل في عمليات اعتقال أو مراقبة قضائية للشباب الذين شاركوا في الحرب الأفغانية وكانت لهم صلات قوية ب"جبهة الإنقاذ"، والثاني البحث عن دور لتنظيم "الإخوان المسلمين" في الجزائر لضمان عودة هؤلاء الشباب من دون أن ينحرفوا إلى العنف المسلح. ويشير أحد الديبلوماسيين الخمسة الذين تناوبوا على السفارة الجزائرية في باكستان بين 1981 و1993 إلى أن أول من كلف رسمياً من قبل التنظيم بالتعاطي مع مصالح الأمن لاسترجاع "الأفغان الجزائريين" كان العضو القيادي في حركة "المجتمع الإسلامي" سابقاً، إذ تدعى حالياً "حركة مجتمع السلم" الشيخ محمد بوسليماني وهو أيضاً رئيس "جمعية الإصلاح والإرشاد" قتلته مجموعة إسلامية مسلحة اواخر 1993. وتعترف "حركة مجتمع السلم" التي يتزعمها محفوظ نحناح في كتاب أصدرته عن سيرة بوسليماني، بأنها أشرفت على تجنيد الشباب الجزائري للجهاد في أفغانستان خلال الثمانينات بمثل ما قامت بمعالجة "موضوع أفغانستان علاجاً أرادت من خلاله الحيلولة دون ظهور بؤر التوتر في الجزائر". ويقول ديبلوماسي جزائري ان الشيخ بوسليماني زار باكستان في تشرين الثاني 1992 في إطار وساطة بين أجهزة الاستخبارات العسكرية و"الأفغان الجزائريين"، وكان الهدف الأساسي هو تمكين نحو 200 عنصر من العودة إلى الجزائر وكان شرطهم الوحيد هو "تجنيبهم الملاحقات والمضايقات التي تعكر عليهم صفو حياتهم". وأضاف انه تمكن خلال إقامته في باكستان من إقناع هؤلاء الشباب بضرورة القبول ببعض الإجراءات الوقائية مثل المرور على محافظات مراكز الشرطة والأمن للتحقيق معهم، وكان المقابل تمكينهم من الوصول إلى الجزائر جواً وحفظ كرامتهم. ويقول الديبلوماسي ل"الحياة" تحفظ عن ذكر اسمه انه على رغم الجدية ومحاولة تفهم وضع هؤلاء الشباب التي أبداها مسؤولون في الاستخبارات في تعاملهم مع هذا الملف "إلا أن الموقف النهائي كان سلبياً" وتأثر في شكل واضح بتصاعد أعمال العنف ما عرقل فرص الالتزام بتنفيذ الاتفاق في الميدان. إذ تسارعت الأحداث نحو العنف المسلح وكثّفت الجماعات الإسلامية المسلحة عملياتها مما أدى بدوره الى رد فعل أعنف من نظام الحكم. ويشير إلى أن الحكومة قررت بعد سلسلة الاتصالات منح "الأفغان الجزائريين" مهلة محدودة تنتهي في الخامس من كانون الأول 1992 للعودة إلى الجزائر وتسليم أنفسهم إلى السلطات، وهو عرض رفضه هؤلاء بحجة أنهم يرفضون العودة إلى البلد لتتم محاسبتهم على تهم وجرائم لا صلة لهم بها. أما المحاولة الثانية التي جرت للتعاطي مع ملف "الأفغان الجزائريين" فكانت سنة 1993 حين عرض وزير الخارجية السابق رضا مالك عين في آب/أغسطس من السنة نفسها رئيساً للحكومة على السفير الباكستاني السابق في الجزائر مشتاق ماهر مبادرة للتعاون الأمني يتم خلالها تسليم الجزائريين الموجودين في باكستان. واقترح المسؤول الجزائري على السفير ماهر أن تتولى الشرطة الباكستانية القبض على هؤلاء الشباب وتسليمهم إلى الحكومة الجزائرية التي ستتولى من جانبها ضمان نقلهم في طائرات خاصة من إسلام آباد إلى الجزائر، فضلاً عن تأكيد التعاون في ما يتعلق بالأمن في باكستان. لكن رد الديبلوماسي الباكستاني، على ما يذكر أكثر من مصدر، كان الرفض القاطع. ومما ورد على لسانه، بحسب ما يذكر مصدر جزائري موثوق به، قوله لوزير الخارجية "إننا دولة نووية ... نرفض رفضاً مطلقاً التعامل بهذه الطريقة". وتكررت المحاولة مرة ثالثة خلال مشاركة وزير الخارجية الجزائري في مؤتمر القمة الإسلامية التي انعقدت في الفترة نفسها في مدينة كراتشيالباكستانية. وخلال عام 1996، وبعد سلسلة من الاتصالات الأمنية والديبلوماسية، وقّعت الجزائر مع باكستان اتفاقاً أمنياً لضمان التعاون في ما يتعلق بتحديد العناصر الذين يهددون أمن البلدين. لكن رد السلطات الباكستانية كان سلبياً مرة أخرى من وجهة نظر الجزائريين، إذ نفت في شكل قاطع وجود عناصر من الجماعات المسلحة على أراضيها على رغم شهادات عناصر في هذه الجماعات على وجود مكاتب إيواء ومساعدة للناشطين الجزائريين. ويعتقد أن الرد الباكستاني ارتكز أساساً الى مواقف سلبية من الحكومة الجزائرية مع قيادة هذا البلد منذ تردّي الأوضاع الأمنية في الجزائر. غداً: لقاء المغرب ومحاولة انقلاب "الأفغان" على أمير الجماعة.