كلما طال أمد الحملة العسكرية في أفغانستان وتشعبت تداعياتها وانعكاساتها وآثارها القريبة والبعيدة ازدادت سماكة الغلالة الضبابية السوداء التي تخيم على أجواء العالم العربي ومعه العالم الإسلامي في هذه الأزمة الخطيرة وسط ضياع هائل يلف المنطقة ويعمق حجم الهوة بين العقل والحكمة والحنكة والعواطف والغرائز والانفعال. ففي خضم دوامة الإغراق في عقدة ردود الفعل التي أدمن العرب على تعاطيها على امتداد العقود والشكوى المستمرة من غياب ارادة الفعل والتفاعل مع الأحداث عادت ممارسات علل "المفعول به" لتسيطر على المواقف بعدما اختلط الحابل بالنابل وتسارعت الأحداث لتشكل ما يمكن وصفه من دون تردد بأخطر مواجهة يعيشها العرب ومعهم المسلمون ليس في ديارهم وأوطانهم فحسب بل في ديار الاغتراب وشتى أنحاء العالم نظراً الى ما ستحمله من تداعيات وأخطار مباشرة في ظل نظام عالمي آخر... وجديد فعلاً لا قولاً، فليس أمام العرب والمسلمين خيارات متعددة بل مجرد خياران لا ثالث لهما، كما توعد الرئيس جورج بوش أخيراً: إما مسايرته والمضي في قواعد اللعبة الجديدة أو معاداته وخوض غمار حرب غير متكافئة بأثمان باهظة في غياب عوامل القوة والوحدة والعدة والاستعداد والحد الأدنى من التضامن والمواقف الموحدة بين الدول العربية والإسلامية وضياع بوصلة الأمان. فالحيرة سيدة الموقف اليوم، والحقيقة غائبة، والصراحة متوارية، وصوت العاطفة يطغى على أصوات العقل، والحق مُغيّب أمام القوة العارية، والمواقف مترددة، والأكثرية صامتة، وحتى المتكلمة تدور حول نفسها ولا تريد أن تضع أصبعها على الجرح وتحدد أسباب العلل وتكتشف، أو تكشف، عن المتسببين بنكبات الأمة العربية... والإسلامية والمسهلين لتحقيق مطامع الطامعين وتعميق النفوذ الأجنبي، بغض النظر عن منطلقاتهم ونياتهم وخطابهم السياسي أو عن مدى مساهمتهم بتعريض مصالح أمتهم ودينهم وقضاياهم للأخطار، انطلاقاً من نيات حسنة أو ساذجة أو من كونهم أدوات استخدمت بعلمهم أو من دون ادراكهم في كل ما جرى وما سيجري على المدى القريب والبعيد. والسؤال الذي يتردد في كل مكان على لسان كل انسان عربي ومسلم هو: الى أين المصير؟ وكيف ستنتهي هذه الحرب الجديدة المختلفة عن كل الحروب السابقة عبر العصور لأنها تجري في عقر دارهم وتطاول الكثير من قضاياهم المصيرية؟ ألم يكن من الممكن حقن دماء أبناء الشعب الأفغاني وتجنب هذا الانهيار المذل لحكومة "طالبان" بدلاً من ركوب موجة العناد واطلاق التهديدات الجوفاء؟ على رغم كل ما نسمعه ونشاهده من أحداث وتحليلات وما يتشدق به مئات المحللين الذين ظهروا فجأة على شاشات الفضائيات وصفحات الصحف فإن كل من يدعي أنه يعرف ما سيحدث غداً أو يتنبأ بنتائج الحرب وملامح نهاياتها وخارطة تحركاتها المقبلة مخطئ في تحليلاته وتوقعاته ويشبه الى حد بعيد العرافين الذين يضربون في الرمل بعدما فاجأتهم التطورات مع هروب مقاتلي "طالبان" وسقوط كابول. كل ما يمكن قوله الآن أن الحملة العسكرية والسياسية والمالية مستمرة وطويلة ومتشعبة، ولا خارطة محددة لها بحسب ما يعلن ويقال على رغم التطورات الأخيرة. والمخفي أعظم بالنسبة الى الولاياتالمتحدة واستراتيجيتها المستقبلية التي لن تتوقف عند حدود اسقاط "طالبان" وتدمير قاعدة بن لادن وجماعته بأي شكل من الأشكال، بل يمكن الجزم أن للحملة أبعاداً أخرى لعالم جديد ومتغير ومعقد ونظام عالمي يتكون على أسس مختلفة بعد المرحلة الانتقالية التي عاشها العالم اثر انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي وانهيار المصالح. وهناك من راهن على انتصار هذا الفريق أو ذاك، أو على تفكك التحالف الدولي، أو حتى على هزيمة الولاياتالمتحدة، وهي رهانات لا تستند الى أساس على رغم التخبط الذي تعيشه الإدارة الأميركية والخبطات العشوائية التي تقوم بها وسلسلة الأخطاء القاتلة التي ترتكبها في حملتها العسكرية ومواقفها السياسية. فالحرب ستستمر حتى تحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة، على رغم الإيمان بأنها حرب طائشة لا منتصر فيها على المدى البعيد، قد تتسبب بفوضى عالمية، لكن الذي يدفع الثمن الآن هو الشعب الأفغاني المغلوب على أمره والمنكوب بقيادة لا تهمها مصالحه ولا أرواح أبنائه ولا مصير أجياله. ولا يخفي أي انسان حر ومؤمن تعاطفه مع هذا الشعب المسكين وحزنه على ما آلت اليه أوضاعه المأسوية. ولكن السؤال الجوهري الذي يجب على كل واحد منا أن يطرحه بصراحة وجرأة هو: من الذي جرّ هذا الشعب الى التهلكة؟ ومن الذين جرنا معه الى هذه المحنة الأليمة؟ قد يكون لدينا ألف تحفظ وتحفظ على السياسة الأميركية وعلى ازدواجية المعايير، وعلى الهيمنة والظلم اللاحق بأمتنا، وبالشعب الفلسطيني بالذات. وقد يكون لدينا ألف سبب وسبب لمعارضة استخدام القوة ضد أية دولة عربية واسلامية في الوقت الذي نرى فيه اسرائيل تسرح وتمرح وتدنس مقدساتنا وتقتل أخوتنا وتحتل أراضينا في فلسطين والجولان وتدمر آمالنا بالسلام والاستقرار والتقدم. ولكن علينا أيضاً أن نسأل أنفسنا عن الجهات التي استغلت هذه القضايا واستخدمتها ذريعة لغايات في نفوس أصحابها، وورطت الأمة في حروب وأزمات ومعارك وممارسات أضرت بمصالحها وشوهت صورتها وأساءت للإسلام والمسلمين. فأميركا مهما أوردت من أسباب لحملتها العسكرية ضد ما تسميه بالإرهاب فانها تدافع عن مصالحها وتحقق ما تراه مناسباً لها ولتوسيع مناطق نفوذها. واسرائيل تفعل الشيء نفسه، بل كل دول العالم تفعل ذلك. ولكن ماذا عن مصالحنا نحن ومصائرنا ومن يدافع عنها ويحميها ويرد عنها كيد الأعداء وأطماع الطامعين؟ ومن يهددها ويخوض معارك دونكيشوتية تعود عليها بالخسارة والدمار واشاعة أجواء اليأس والفرقة والفقر؟ ومن استأذن العرب والمسلمين قبل ان يرتكب مغامراته الجنونية أو استشارهم حتى يأتي بعد وقوع الواقعة ليطلب دعمه؟ لقد دفعت الشعوب العربية والإسلامية قبل شعب أفغانستان أثماناً باهظة لقرارات متسرعة وحركات متهورة وخطوات غير محسوبة في الماضي، وها هي تدفع اليوم ثمناً مضاعفاً وأليماً لسياسات التطرف والمغالاة وجر العرب والمسلمين الى مآسٍ ونكبات وأزمات ما أنزل الله بها من سلطان، وكان يمكن درء أخطارها وتجنبها بقليل من الحكمة والتعقل. والمؤسف أن من يمارس هذه الممارسات لا هم له سوى اثارة الغرائز وشحن الجماهير وادعاء انتصارات وهمية لم تجر علينا سوى الخيبة والخسارة. والمؤسف أيضاً أن العرب، ومعهم كل مسلم في الكون، دخلوا مرة أخرى في دوامة ال"مع" وال"ضد" لينقسموا بين مؤيد ومدافع ومحايد ومعارض ورافض من منطلق الدفاع عما يعتقده "الحق" أو "الباطل"، أو التأثر العاطفي بشعارات طنانة وعنتريات فارغة من دون حساب للنتائج ومآسي الشعوب وتداعيات هذا الاستغلال الرخيص للمشاعر البريئة وتهديد النضال الحقيقي والمقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني. ومن دون اتهام أحد بعمليات التفجير في نيويورك وواشنطن وما سبقها من عمليات ارهابية على رغم الاعتراف بالتحريض من قبل أسامة بن لادن وجماعته، فإن من المنطقي القول ان هؤلاء لم يستشيروا أحداً عندما مارسوا سياساتهم وتصرفوا بمقدرات الإسلام والمسلمين وتحدثوا باسمه من دون وجه حق، بل ان أحدهم سمى نفسه أمير المؤمنين من دون ان يبايعه أحد فيما تنطح الآخر للتحدث باسم المسلمين. ولم يعد من الجائز السكوت على تفردهم هذا أو الاستجابة لتحريضاتهم ودعواتهم للتضامن معهم. فبكل بساطة كان يمكن تدارك هذه النكبة بقليل من التعقل والحكمة والإعلان عن الاستجابة لتسليم المتهمين والتفاوض على شروط محددة كما جرى في قضية لوكربي مثلاً. ولكن مواقف التعنت وإغلاق الأبواب أمام المساعي الحميدة والتطرف أدت الى هذه النتائج الوخيمة ليس على شعب أفغانستان المنكوب فحسب بل علينا جميعاً، وعلى كل مفصل من مفاصل قضايانا وحياتنا اليومية ومستقبل أجيالنا: الإساءة الى سمعة العرب والمسلمين، خسائر ببلايين الدولارات ليس لأميركا والغرب فحسب بل للبلاد العربية والإسلامية، مخاطر مستقبلية من امتداد الحرب لتشمل دولاً أخرى، تهديد مصير الجاليات العربية والإسلامية المستقرة في شتى أنحاء العالم، منح اسرائيل فرصة ذهبية لاستغلال الحرب للتنكيل بالشعب الفلسطيني وتنفيذ المخططات الصهيونية التوسعية والتهويدية، وأخيراً وليس آخراً اعطاء الذرائع والحجج للولايات المتحدة وغيرها لتوسيع مناطق نفوذها وبسط سيطرتها على العالم أجمع. وهناك من يتحدث عن مؤامرة نفوذ ونفط وغاز ومطامع ومصالح، كما تحدثوا من قبل خلال حرب الخليج. ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه اليوم هو: من الذي تسبب بهذه الكوارث؟ ومن الذي سهّل تنفيذ هذه المؤامرة سواء يوم الغزو العراقي للكويت عام 1990 أو يوم عمليات نيويورك وواشنطن؟ عندما نجد من يجيب عن هذا السؤال ننتقل الى الخطوة التالية الملحة، وهي كيف يمكن للعرب أن يستفيدوا من ظروف الحرب الحالية واستثمارها للضغط على الولاياتالمتحدة ودول العالم لإيجاد حلول جذرية عادلة لقضية فلسطين وغيرها واقتلاع مسببات الإرهاب وجذوره قبل القضاء على جماعات الإرهاب؟ ورفض أي محاولة لربط المقاومة المشروعة بالإرهاب؟ هذه الاستفادة لا يمكن أن تتحقق إلا بالعودة الى وحدة الموقف والصف وانهاء حال التشرذم والفرقة واعادة النظر في معظم السياسات القائمة ولا سيما المتعلقة بالاقتصاد والمشاكل الاجتماعية والحياتية وأولها الفقر والبطالة وهجرة الأدمغة والحريات وحقوق الإنسان، اضافة الى بناء القوة الذاتية والاقتصاد السليم والتضامن العربي الحقيقي والانفتاح على الدول الإسلامية وبدء حوار فاعل مع دول العالم ولا سيما الكبرى لوضع علاج نهائي لعقدة "المنبوذين" بإزالة أسبابها والمشاركة في المجتمع الدولي في شكل عملي وايجابي. فالكل يعمل لمصلحته، فلماذا لا يبحث العرب والمسلمون عن مصالحهم ويعملون من أجلها بالعقل والحكمة والقوة... علماً ان هذه المصالح قد تستدعي في بعض الأحيان استخدام المرونة والحنكة والمداراة في سبيل الهدف المقدس. وأذكر ان حليف بن لادن القديم الدكتور حسن الترابي أحد أكثر الجماعات والأحزاب الإسلامية خبرة في الحكم والمعارضة حدثني بإسهاب قبل عقد من الزمن عن نظرية دافع عنها بحرارة وعنوانها "فقه المصلحة" وملخصها انه يجوز للمسلم ان يتخذ موقفاً أو قراراً أو سياسة قد تكون غير مبررة أو مستحبة إذا وجد أن فيها مصلحة للإسلام والمسلمين وحقناً لدمائهم. وقد تبدو هذه النظرية شبيهة بمبدأ ماكيافيللي "الغاية تبرر الوسيلة" إلا انه من المفترض أن تختلف عنها من حيث نظافة الوسيلة وانسجامها مع المبادئ السمحة للإسلام، وحبذا لو لجأ البعض الى هذه النظرية من زاوية الحفاظ على مصالح الإسلام والمسلمين والبعد عن التطرف وتجنب المهالك. ولا أجد ختاماً معبراً لهذه الكلمات والتساؤلات سوى رواية من التراث ملخصها أن معاوية بن أبي سفيان المشهور بحنكته وذكائه ودهائه سأل عمرو بن العاص الذي كان يوصف بداهية العرب: ما هو سر الذكاء الذي يتحدث عنه الناس؟ فأجاب بثقة: لأنني لا أدخل في مشكلة إلا وأجد حلاً يخرجني منها! والتفت الى معاوية وسأله: وأنت ما هو سرك؟ فضحك معاوية وقال: عندما أجد نفسي أمام مشكلة فلا أدخلها في الأساس ولا أتورط بها وأنشغل بالبحث عن مخرج! فرد عمرو بن العاص: والله لقد غلبتني يا أمير المؤمنين! فهل نتعلم الدرس، ليس بحثاً عن فقه المصلحة فحسب، بل في العثور على بوصلة تجنبنا توريط أنفسنا في مشاكل وأزمات ونكبات تلقي بنا الى التهلكة! * كاتب وصحافي عربي.