ماذا حدث يوم الحادي عشر من أيلول، وكيف فُهم فكان حدثاً دولياً يمكن أن يعد منعرجاً في تاريخ العالم؟ ينبغي أن ننطلق من الأجوبة التي توالت في الجدل الدولي الجاري حالياً، هذا الجدل الذي ينحو رويداً رويداً الى تصور الحدث بموضوعية أكبر وبفهم أعمق: 1 - أول الأجوبة كان الصورة التي اعتبرت الأمر بحسب أصل الاحداثيات الذي تنطلق منه قراءة الحدث. فإذا أخذنا أميركا وغالبية الرأي العام الشعبي في الغرب أصلاً لإحداثيات القراءة كان الحدث صداماً بين ممثلي الإرهاب والبربرية المطلقة وممثلي العدالة والحضارة المطلقة. أما إذا أخذناه من أفغانستان وغالبية الرأي العام الشعبي في الشرق أصلاً لإحداثيات القراءة فإنه مبارزة بين فارس عربي ممثلاً الشرق وكاوبوي أميركي ممثلاً الغرب. وكادت هذه الصورة ان تصبح مدخلاً الى صدام ديني بين الإسلام والمسيحية أو الى حرب صليبية على رغم علم الجميع بحقيقة لا جدال فيها: فلا هم مسيحيون ولا نحن مسلمون إلا جغرافياً. 2 - لذلك فإن العقلاء من الفريقين تنبهوا لما يمكن ان يترتب على هاتين القراءتين التبسيطيتين من نتائج وخيمة. وتنبه أصحاب القرار خصوصاً الى عدم نجاعة العلاج الذي قد يقتضيه رد الفعل المستند الى هذه الصور المشوهة. فأدى ذلك الى التحرر المتدرج منها وتوجه الجواب الى الاعتراف بأمرين مهمين هما: أ - ضرورة التوكيد على التنافي بين الطرق التي يستعملها بن لادن وجماعته وروح الرسالة الإسلامية التي وضعت قوانين صارمة للتعامل بين البشر في الحرب فضلاً عنها في السلم. ب - ضرورة تدارك التنافي بين الحديث عن العدالة والحضارة والسلوك الأميركي في الساحة الدولية، منذ ان انفردت بقيادة العالم المستقوي. 3 - وبذلك بدأ الرأي العام الدولي عامة وأصحاب القرار فيه خصوصاً يتحررون من هذا التحليل الذي يظلم الإسلام فيعتبره ممثلاً بابن لادن وطرقه أو يحصره في نسبته الى المسلمين الجغرافيين نسبة تنفي عنه الكونية والتعالي، ما يفسر توكيد الجدل الجاري على مساءلة السلوك الذي ينسب الى المتهم في العالم الإسلامي حصراً فيه وحاجة السياسة الدولية الى المراجعة في العالم الغربي. لكن الصورة المبسطة ما تزال لسوء الحظ فاعلة بأصلي احداثياتها الأولين لكون التحليل لم يرق الى طابع الأزمة الكوني. فلا يزال الكثير يتصورون المرض الذي يعاني منه العالم مرضاً يخص جزءاً من البشرية ولا يعمها، فيكفي فيه بعض التعديل من دون التعرض للأسئلة التي تتعلق بأصل الداء في ما آلت اليه الحضارة المبنية على المضاربة والقمار والعنف المافياوي الذي يعطل عمل القانون الوطني والدولي وكل القيم الخلقية والدينية، ليقتصر على عبادة العجل الذهبي رب العولمة الراهنة الوحيد ذي المعبدين المقدسين: البنك والبورصة. الجواب الكوني الممكن لذلك كان الجواب الذي بدأ يسعى اليه البعض من حكماء البشرية، من دون تمييز بين غرب وشرق، من منطلق قراءة هذا الحدث في ضوء ما شرع فيه شباب العالم من ثورة على النظام العالمي هو تعميم الإشكالية الى حال العالم كله وما فيه من عدم توازن بين أغنيائه المتجبرين وفقرائه المستضعفين، ليس في المقابلة بين العالمين المتقدم والمتأخر فحسب بل ضمن كل واحد منهما كذلك. وليس لنسبة الدور الأول في طرح هذه المسائل الى الموقف الإسلامي النسبة التي بقيت ثابتة في الأجوبة الثلاثة السابقة من علة عدا كون غالبية المسلمين الجغرافيين قد صاروا بمقتضى وضعهم التاريخ والجغرافي ممثلين لمطلق المظلوم بكل معاني الظلم في اللحظة الراهنة من التاريخ الإنساني، كما يتبين ذلك من تحالف ممثلي بشاعات العولمة وشناعاتها لتدنيس مقدساتهم البعد الروحي ونهب ثرواتهم البعد المادي: اسرائيل وأميركا. لكن حصر ربط الظلم بعيوب العولمة وظن هذا الظلم غير شامل لكل الشعوب بمن فيهم الشعوب التي تمارسه مافياتها الحاكمة في العالم جعل البعض يتصورون ثورة الإسلام عليه مجرد ثورة قومية. فأصبح الإسلام مجرد دين قومي يدافع عن المسلمين من دون سواهم وليس رسالة كونية تسعى الى تحرير البشرية من عبادة الهوى والدنيا اللذين هما جوهر العولمة. وبذلك فإن هذا الحدث التاريخي أياً كانت طبيعته ينبغي ان يعد مناسبة فريدة جاد بها الدهر لتخليص الإسلام من هذا التوظيف القومي والعقدي وذلك بفضل مساءلة النظام الرأسمالي المتوحش في ضوء مبادئه. فهذا النظام هو الذي أصبح بذاته وفي ذاته مصدر الداء الذي تعاني منه الإنسانية من دون تمييز بين أصحابه وغيرهم لكونه هو جوهر المرض الحضاري المطلق الذي ظنه البعض غاية التمام البشري ونهاية التاريخ. لكن التاريخ كذبهم فاستأنف دورته استئنافاً جعل الإسلام قلبه النابض شئنا أم أبينا. وقد اتضح ذلك منذ ان فقد النظام الرأسمالي ضديده الذي كان يخفي عيوبه، لكونه يمكنه من المباهاة بتمثيل وهمي للحرية والديموقراطية اللتين ليستا إلا مجرد امتيازين للأقلية التي تستعبد الغالبية. ولما كان التحليل المادي للتاريخ الإنسان أعني التحليل الهيغلي - الماركسي للأزمة الحضارية بحصرها في التقابل بين ممثلي جدل الروح المؤثر أو الطبقة المؤثرة ومن عداهما من العبيد قد فشل في تخليص الإنسانية من هذا الداء، بل هو بلغ به الذروة بات من الضروري البحث عن حل بديل لا يمكن ان يكون من جنس هذين الضدين الواحد، لا بد من البحث الحقيقي في أسس النظام نفسه بوجهيه السالب الذي سقط الشيوعي والموجب الذي هو بصدد السقوط الرأسمالية حتى نتجاوز العلاج بالمهدئات، أعني التعديل المتبادل بين الحل الشيوعي والحل الرأسمالي الماديين، فندرك عندئذ حاجة البشرية الى بديل، من السذاجة ان نتصوره موجوداً في أدبيات المسلمين الجغرافيين أو الثائرين عليهم أو في سلوكهم، فضلاً عن فكر بن لادن وطالبان المتخلف، وان كنا نؤمن بأن مبادئ هذا البديل العامة هي عين مبادئ الرسالة الإسلامية المتعالية على تعيناتها التاريخية. لذلك فإن هذا الحدث التاريخي على رغم بشاعته وعدم شرعية أدواته في السلم والحرب من منطلق القيم الإسلامية فحسب لكون من كانت بداية وجوده افناء شعب وشرط بقائه امتصاص دماء شعوب العالم ومن رمى قنبلتين ذريتين على مدينتين آمنتين وأدت حصاراته الى قتل الملايين من أبرياء الأطفال لا يمكن ان يتحدث عن ضرورة تجنب المساس بالأبرياء بوقاحة المبشرين الذين يشككون في آدمية الهنود الحمر قد حقق أمرين أساسيين في بداية هذه الألفية لعله لا عيب في نسبة الفضل فيهما للصمود العربي والإسلامي أمام ممثلي أبشع وجوه العولمة العنصرية بحكم استهدافنا المباشر من اسرائيل وأميركا. الأول: هو هشاشة العولمة بمقتضى تضمن أدواتها الخمس لعلل فسادها وسر التعادل اليسير فيها ما دام اختراق بعضها ببعضها ممكناً وتعذر علاج هذا الاختراق من دون ايقاظ فاعليتها: 1 - النظام المالي المضارباتي الدولي. 2 - والنظام الاستعلامي الإعلامي الدولي. 3 - والنظام السياسي الديبلوماسي الدولي. 4 - والنظام الدفاعي التقني الدولي. 5 - وأخيراً الحضارة العولمية المبنية على القيم المادية دون سواها وعلى وهم حصانة المحتكرين للأنظمة الأربعة الأولى كلها أمور تهاوت في لحظة واحدة بلطمة لا تكاد تحسب في منطق الحروب التقليدية. الثاني: الذي يمكن ان يعد ثمرة مباشرة للأول هو بداية الوعي بامتناع الحلول المبنية على منطق القيم المادية والقوة التقليدية اللتين تجعلان العالم محكوماً بأخلاق التجار، فيصبح كل شيء يباع ويشترى ومن ثم لا يقبل التغيير إلا بثورة روحية يكون فيها مبدأ التضحية بالذات بديلاً من مبدأ اللعب بحياة الآخرين. لذلك بدأ يظهر الميل الى التسليم بضرورة اعادة النظر في أسباب ما آل اليه النظام العالمي من فوضى وخروج عن القوانين الدولية بمقتضى تحكم القوة الأعظم التي صارت مصدر كل الأحكام الفاسدة السارية في العالم وكل حيلولة دون تطبيق القانون الدولي في النزاعات التي تقدم فيها مصلحتها على كل القيم. فالجواب الذي ينبغي ان نبحث عنه وفيه لا يقتصر على فكر المسلمين من حيث هم مسلمون جغرافياً بل يخص فكرهم بما كان الإسلام ديناً كونياً يتوجه الى البشر من حيث هم بشر بصرف النظر عن النسبة الحضارية. فلا معنى لثورة المسلمين إذا حطوا رسالتهم فجعلوها مجرد ايديولوجيا قومية يحاربون بها غيرهم، كما هو الشأن عند المتكلمين باسم الحركات الإسلامية مَن تطرف منها ومَن اعتدل. لا بد لهذا الجواب ان يمكننا من فهم جوهر أزمة الحضارة الإنسانية ببعديها المادي والروحي من دون ان يكون ذلك القياس الى مقابلة بعض الإنسانية الى بعضها الآخر بل بإطلاق، أعني كما يعالجها الإسلام بقيمه المتعالية على التاريخ والمحددة لأفق الفكر الإنساني عامة لكون النظام العولمي الذي تسعى الإنسانية الى التحرر منه فاسداً بطبعه ومضراً للظالم والمظلوم على حد سواء. طبيعة الإشكال والحل ولا يمكن لهذا الجواب ان يكون مناسباً للحدث التاريخي إلا إذا استمددنا خصائصه المميزة من خصائص الحدث نفسه فبيّنا ما فيها من أمور تقبل العلاج بحل على الإنسانية استخراجه من القيم التي يعتبرها الإسلام عين الفطرة الإنسانية وهي من ثم غير الفهوم المتخلفة التي تدعيها جماعة بن لادن أو غيره من المنتسبين الى الإسلام التقليدي أو الى إسلام الصحوة المزعوم. وعلى رغم ان المسلمين يعدون الآن أكثر الشعوب تصدياً للنظام العالمي الظالم فإنهم في علاج شؤونهم ليسوا دون غيرهم إخلالاً بقيم الإسلام وعملاً بقيم العولمة الهدامة سلباً بنفي القدر الضئيل من قيمها الموجبة زعم حقوق الإنسان منافية للإسلام وايجاباً بتبني أكثر قيمها سلبية الظلم بين العرب والمسلمين بعضهم لبعضهم وظلم حكامهم لهم أدهى وأمر من ظلم حكام العالم الظالمين لكونهم أدواتهم الطيعة: ولعل غيرهم لم يستطع ظلمهم إلا باستعدائه من بعضهم على بعضهم تشفياً وانتقاماً سببه أخلاق الجاهلية التي يدعي البعض أنها شريعة إسلامية. إن الأجوبة التي توالت في الجدل الدائر منذ الحدث تناسب جوهر الفعل التاريخي الكوني لكونها تبين كيف ان الحدث قد يصبح، بحسب الصورتين اللتين لطرفيه احدهما على الآخر، منطلق الحرب العالمية الثالثة. فالفعل ورد الفعل السياسيان في العالم المؤثر فعلاً وردّ فعل هما اكثر هذه الأبعاد تمثيلاً لطبيعة الأزمة الإنسانية الراهنة، اعني نظام حكم العالم في عصر العولمة، أو إن شئنا كون العالم اصبح واحداً في كل شيء إلا في عقله المدبر وقوة التحكيم التي تهدئ الصراعات بتبريدها وتحسم النزاعات بعلاجها السوي. فانعدام الإرادة السياسة الدولية الشرعية الواحدة التي تحكم العالم تبقيه خاضعاً لدولة مافياوية كبرى تسيّر دولاً من جنسها عن بعد وبأجهزة خفية وقيادات غير شرعية تنصبها لخدمة مصالحها. وكذلك الشأن بالنسبة الى بن لادن الذي يقدم نفسه في مثل هذه الوضعية ناطقاً باسم المسلمين خصوصاً والمسحوقين في العالم عموماً. فقد صار في وسع هذا الناطق المزعوم باسم المسحوقين ان يدفع بالناطق باسم المافيا الحاكمة في مقدرات العالم الى إدخال العالم في حرب كونية لا تبقي ولا تذر. وفي ذلك تتعين ازمة الفعل السياسي في شكله الحالي الذي يدّعي اصحابه بأنه ديموقراطي فيجعل مصير الإنسانية يتقرر بكذبة حكم الشعب لنفسه بنفسه. وبين ان هذه الكذبة لا تصدق لا على الأوطان الجزئية ولا على العالم الذي صار واحداً في كل شيء فعلاً ورد فعل من دون رأس مدبر شرعي. بل هو اصبح فوضى فعلاً ورد فعل. فهو عديم النظام السياسي الشرعي الشامل لكل البشر اعني انه نظام بلا رأس أو برأس غاصب للحكم العالمي: رئيس اميركا ومافيتها يتصرفان في العالم مباشرة أو بتوسط عملائهم وكأنه ضيعة السيد الوالد. أملنا ان تفهم النخب القائدة في مستويات الفعل السياسي والثقافي والاقتصادي والإعلامي انه عليها ان تتخلى عن العلاج الفاشل الذي مثلته عصبة الأمم بعد الحرب الأولى والأممالمتحدة بعد الحرب الثانية، بوقاية ناجحة تجنبنا الحرب الثالثة تكون بداية لتحرير الإنسانية من منطق الأوليغارشيات المافياوية التي ربما هواها ومعبودها دنياها، على رغم الكذب والنفاق النسقيين اللذين يجعلانها تدعي الدفاع عن القيم والحضارة سواء انتسبت الى الحكم أو الى المعارضة. * كاتب تونسي.