حين تذكّر أميركا العالم بوعودها ب"حروب بالجملة" تحت مظلة "الحرب على الإرهاب"، وتنطلق طائراتها وقاذفاتها من على التخوم الروسية، لا يبقى سبب للعجب ازاء رؤية العلم الإيراني يظلل جنوداً أميركيين نقلوا جواً إلى باغرام الأفغانية. قد يقال إنها "هرولة" إيرانية إلى واشنطن، تحت ستار المساهمة في نقل جنود يفترض أن مهمتهم في أفغانستان إنسانية، لتوزيع إغاثة، وإعداد مطارات لهذا الهدف. لكنها أيضاً واحد من ملامح النظام العالمي الجديد الذي يلد تحت دوي مدافع الحرب على الإرهاب، وأياً يكن الوقع الداخلي في طهران لرؤية طائرة إيرانية تنقل عسكريين أميركيين، فإن سلسلة "الخدمات" التي تتوقعها إدارة الرئيس جورج بوش من نظام انتج شعار "الموت لأميركا"، طويلة جداً، أطول من قوائم الإرهاب التي تنهمك الإدارة باعدادها وتوزيعها واملائها على الصغار والكبار. وما دامت واشنطن بعد 11 أيلول سبتمبر تتدخل حتى في تقديم "النصائح" لدول كي تعدّل مناهجها الدراسية - كما في اليمن - لوقف ما تعتبره تشجيعاً على التطرف، ليس مستغرباً أن تضغط لمعاودة صوغ السياسات الخارجية لدول كانت حتى قبل أسابيع من صنف "الأعداء". فالجميع جنود لدى القوة العظمى الوحيدة، في الحرب العالمية الثالثة التي لم يعد أحد يشك في أنها ستغيّر كل الموازين والمفاهيم والتصنيفات، ولا بأس إذا بدلت خرائط حين تقتضي ضرورات بوش حماية "الأمن القومي الأميركي" من "شيطان الإرهاب". ومن لحظات الحقيقة أن دولاً في المنطقة تقرأ معطيات ما بعد 11 أيلول والشروط الأميركية للاندماج في النظام الجديد، قراءة قسرية بعدما انعدم الخيار الثالث، أيُ خيار ثالث يمكن أن يكون ضبابياً أو رمادياً أو موقتاً، لتفادي الصدام مع البيت الأبيض أو اغضابه. وإذا كانت روسيا ذاتها التي وعدها الرئيس فلاديمير بوتين، لدى دخوله الكرملين، باستعادة الهيبة الضائعة بين أسنان الفقر، ترنحت أكثر بعد 11 أيلول، لتفتح فضاءات آسيا الوسطى أمام الأميركيين وصواريخهم وقاذفاتهم، في مقابل وعود مجهولة، لا غرابة أن "تهرول" إيران إلى "الشيطان الأكبر" تمد له اليد في مهمات إنسانية! فالمواجهة مع بوش تعني في قاموس "الحرب على الإرهاب" انحيازاً إلى "الإرهابيين" الذين يتسابق العالم على نبذهم. وإذا كان العرب خسروا قضية الانتفاضة الفلسطينية، بوصفها بين أولى ضحايا الهجمات على واشنطن ونيويورك، تُقرأ في المنطقة، قسراً أيضاً، دلالات خسارة تعاطف العالم مع القضايا العربية، ما دام الأسود تحول أبيض... وحتى أوروبا تتدخل بمزيد من الضغوط على الفلسطينيين، كي تكمل مهمة الأميركيين والإسرائيليين تحديداً الذين بات أمنهم مجدداً أولوية مطلقة. بالمفهوم الأوروبي بات هذا الامن مدخلاً لمعالجة مشكلات الإرهاب، بدل رفع مقصلة شارون التي تتضخم كلما طالت الحملة العالمية للولايات المتحدة. وربما كان العرب مرشحين لخسارة جديدة، هي إيران التي لا تترك لها واشنطن مجالاً للقبول إلا برؤيتها المتكاملة لعالم الحروب على الإرهاب، حيث لا نضال بل عنف وتحريض، التعاطف معه ممنوع. بالتالي، لا مجال ل"نصف هرولة" بل هرولة كاملة، أول شروطها التخلي عن أي مقاومة ومعارضة في الشرق الأوسط للسلام الإسرائيلي الآتي. بهذا المعنى، تُفهم الدعوات إلى نزع سلاح "حزب الله" وترويضه إلى الأبد، واغلاق ملف المعارضات الفلسطينية.