لم يواجه العالم حالة من اختلاط الاوراق والفوضي السياسية مثلما نواجه اليوم، ولعل اخطر ما في الامر أن المواجهة تأخذ - شئنا أم لم نشأ - طابعاً دينياً في بعض جوانبها، اذ لعبت قوى عدة على الوتر الحساس للمشاعر الروحية سواء لدى المسلمين أو الغرب وهي تضعنا فجأة أمام موقف يقترب من المزاج العام لفكر العصور الوسطى، وأخشى ما نخشاه جميعاً أن تمتد المواجهة بعنصريها الإسلامي وغير إسلامي لتشمل مواقع جديدة خصوصاً أننا تابعنا تصريحاً لمسؤول أميركي يقول "إن الحرب ضد الإرهاب قد تطاول اقليم كشمير" الذي يثمل مواجهة تاريخية ساخنة بين الهند وباكستان منذ التقسيم وتقود فيه جماعات إسلامية تيار المقاومة ضد الحكم الهندي. ولكن الذي يعنينا أكثر من أي وقت مضى هو ذلك الدور الغائب للمؤسسة الدينية الإسلامية، فالأصوات التي تصدر عن رجال الدين الإسلامي من الأزهر أو رابطة العالم الإسلامي أو القرويين أو الزيتونة وغيرها من مواقع الإسلام السني فضلاً عن مواقع الإسلام الشيعي لا تزال بعيدة عن الوصول الى العقل الغربي، غير قادرة على توظيف الفرصة الحالية للتعريف بالإسلام وتقديم صحيحه الى أجيال جديدة في الغرب تعرضت حالياً لحملة تشويه عقلي ربطت لديهم بين الإسلام والإرهاب وصوّرته عدواً جديداً للحضارة الغربية المسيحية. ولقد كان الإقبال المتزايد من جانب غير المسلمين خصوصاً في الغرب على اقتناء النسخ المترجمة للقرآن الكريم أو كتب التعريف بالديانة الإسلامية فرصة تاريخية مؤاتية تبعث الروح في المؤسسة الدينية الإسلامية لكي تقوم برسالتها العاجلة في مثل هذه الظروف المعقدة وسط غيوم التعصب وسحب التوتر وأعاصير المواجهة التي تعصف بوحدة العالم وتماسك الجنس البشري وتضرب المشاعر الإسلامية ونحن على أبواب شهر رمضان بمكانته لدى المسلمين وتأثير زخمه الروحي لديهم. وإذا جاز لي أن أتحدث عن تصورنا لدور المؤسسة الدينية الإسلامية تحديداً فإننا نشير الى ذلك بإيجاز من خلال النقاط الآتية: أولاً: إننا نسلم بداية بالاختلاف بين طبيعة المؤسسة الدينية الإسلامية والمؤسسات الدينية لدى المسيحية واليهودية. فالإسلام - خصوصاً السني منه وهو الغالب - لا يعرف النسق الوظيفي لدرجات رجال الدين وتنظيمهم الروحي ويتركها في الغالب لاجتهاد افراد تخرج منهم فلتات تاريخية مثل الإمام محمد عبده ومدرسة التجديد التي قادها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كما أن الإسلام لا يعترف بسلك الرهبنة وليس لديه رصيد لمدارس روحية منعزلة تدفع بالكوادر المستمرة على الساحة الدينية الإسلامية، ثم أن الحركة الصوفية - وهي تقع على الطرف الآخر من الفكر السلفي - توقفت هي الأخرى عند حدود معينة لم تخرج بها من إطارها الروحي وصفائها النفسي الى واقع الحياة ومعترك الدعوة الإسلامية الفاعلة. ثانياً: إننا نسلم أيضاً بأن ممارسات التطرف الإسلامي في العقود الخمس الاخيرة من القرن العشرين أثرت سلباً في الانفتاح الإسلامي وأدت الى انكماش دور المؤسسة الدينية تحت شبهة أن كل ما هو ديني يمكن أن يتحول الى ما هو متطرف! ويكفي ان نعلم أن الاسر التي كانت ترحب، بل تتحمس للتوجهات الدينية لابنائها باعتبار ذلك مؤشراً على الصلاح وعلامة للتقوى، بدأت تتخوف من ذلك وتخشى أن ينخرط ابناؤها في سلك الجماعات الإسلامية المتطرفة ولذلك فإن إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام أضر بالمؤسسة الدينية الإسلامية مرتين: - الأولى: عندما وضعها وسط دائرة الضباب حتى لا يفرق الكثيرون بين صحيح الإسلام وبين حركات العنف التي تتمسح فيه. - الثانية: عندما جرت عملية تشويه واسعة للإسلام وقفت منها المؤسسة الدينية الإسلامية شبه عاجزة عن اتخاذ مواقف مؤثرة ومبادرات تزيل الغشاوة عن عيون الغرب وترفع الظلم عن الإسلام. - ثالثاً: منذ سقوط الخلافة الإسلامية لأكثر من ثمانين عاماً مضت والمسلمون لا يجدون منبراً مركزياً يمثل قنطرة بين الدين والسياسة ويعبر عن حاضرهم ويبشر بمستقبلهم ويعطي التصريحات الحازمة في اللحظات الحاسمة، فليس لدى المسلمين مثل بابا "الكاثوليك" القابع في "الفاتيكان". وقد يقول قائل إن الأزهر في مصر - باعتباره أكبر جامعة إسلامية وإن لم يكن اقدمها - يمكن ان يمثل شيئاً من ذلك بالنسبة الى أهل السنة أو أن اصحاب الحوزة الدينية في "النجف الأشرف" يمكن أن يكونوا أيضاً استكمالاً لذلك الدور خصوصاً أن الأزهر يعتد بالفقه الجعفري ويعتبره الى جانب مذاهب السُنة الاربعة مصدراً لدرس اصول فقه الدين والشريعة الإسلامية. ولكن واقع الأمر عن المقارنة بين الإسلام والمسيحية في هذا الشأن يكشف عن مسافة واسعة تتصل بالأطر والنظم والأساليب. فالإسلام دين يتميز بالبساطة الشديدة ولا يصطنع وسطاء بين المؤمن وربه وما أهل البيت وأولياء الله إلا رموز اختارها الناس يبتغون بها الوسيلة ويتشفعون بها لدى رب العباد. - رابعاً: إن عجز المؤسسة الدينية الإسلامية عن تطوير ذاتها ومواكبة روح العصر أمر لا يحتاج إلى تأمل عميق، فلا تزال الاساليب العتيقة في تدريس علوم الشريعة وأصول الفقه والأنماط التقليدية في الدعوة الإسلامية هي السائدة على رغم أن الإسلام هو دين العقل الذي جعل "الاجتهاد فريضة إسلامية" واتخذ من القياس والإجماع مصادر للتشريع الإسلامي عند اللزوم، ولكننا توقفنا طوعاً عند حدود معينة لم نتجاوزها، وإذا امتد دورنا في محاولة لإحياء التراث الفكري للعقيدة الإسلامية فإن البعض يختار بشكل تحكمي فقهاء والتشدد من أمثال "ابن تيمية" و"ابن حزم" و"ابن حنبل" ايضاً خروجاً على منطق العدالة في الاختيار التي تضع الاعتدال الى جانب التشدد والفكر الوسطي الى جانب اجتهادات التطرف. ولقد عانى المسلمون من جراء ذلك ما نعانيه الآن، حتى أصبح الإسلام امام العالم هو "طالبان" التي تسحق كرامة المرأة وتهدر روح العصر، أو هو بن لادن الذي يخلط بين أهل الذمة من حملة الكتاب وبين غيرهم من ديانات الشرك وكفار التوحيد. - خامساً: إنني لا أنكر أن هناك اجتهادات سبقت ومبادرات ظهرت للحوار بين أهل الديانات شارك فيها رجال الدين الإسلامي المستنيرون بمقدار لا بأس به ولكنها كانت كلها محاولات هامشية تناقش نقاط الالتقاء في جوهر العقائد، ولا تنصرف إلى إطار دائم ونهج مستمر للفهم المتبادل بين اصحاب الديانات الكبرى، وبدت لي كأنها مناسبات موسمية وتظاهرات احتفالية تفتقد الجدية ويعوزها الوضوح. وفي ظل هذا المناخ اطلّ الفكر الخبيث عندما حاول الغرب ان يصدر الى العالم من جديد نظرية مشوهة لصدام الحضارات تفتقر الى الاساس التاريخي وتسعى الى خلق الاعداء واصطناع المواجهات. فإذا كانت هذه اشارات سريعة الى الدور الغائب للمؤسسة الدينية فإنه يتعين علينا ان ننتقل الى الجانب الآخر الذي يشير الى طبيعة الرسالة العاجلة لتلك المؤسسة ونوجزه ايضاً في النقاط الآتية: 1- ضرورة البحث في خطاب إعلامي ديني جديد يتمشى مع أساليب الدعوة العصرية ويجذب الأسماع والعقول في وقت واحد، وأن نتوقف عن الخطاب التقليدي الذي يعتمد على لغة التهديد والوعيد ويتسم بالجهامة والعبوس، وينفر اكثر مما يقرب، ويبعد ولا يجذب، إذ ان سماحة الإسلام يجب أن تنعكس على الخطاب الديني حتى يكون رسالة عاجلة وواضحة لمن يريد أن يعرف أكثر عن الإسلام او من تشده تعاليمه المبهرة. 2- إن إجادة رجل الدين الإسلامي للغات الاجنبية أمر حيوي للغاية ويكفي أن نتذكر ان رجال الدين الإسلامي من غير العرب كانوا اقرب في الوصول الى العقل الغربي من رجال الدين الإسلامي العربي، بل إنني لا ازال اذكر كيف ان داعية إسلامياً من جنوب افريقيا كان له تأثيره في الاعلام الغربي أكثر بكثير من داعية عربي مسلم لا يجيد لغة اجنبية ويفتقد بالتالي منطق الحوار مع اصحاب الديانات الاخرى. 3- إن المسلمين الذين اغلقوا باب "الاجتهاد" عندما هبطت عليهم عصور الظلام وأزمنة التخلف يتحملون اليوم مسؤولية ذلك الجمود الظاهري في طرق الدعوة واساليب الموعظة كما نشهدها الآن. ف"الاجتهاد" رافد اساسي من روافد الاستنارة التي بشر بها الإسلام عندما اعتبر أن ما تجمع عليه الامة يكون مقبولاً في صحيح الدين ما لم يعطل شعيرة دينية او يمس نصاً مقدساً في القرآن الكريم أو السنة المؤكدة. ولو أدرك غير المسلمين قيمة "الاجتهاد" وأهميته في الشريعة الإسلامية لتوقفوا كثيراً أمام ذلك الدين وعصريته، ولكنها مأساتنا نحن المسلمين المغرمين دائماً بإغلاق الابواب وإحكام النوافذ وإبراز السلبيات وإهدار الايجابيات. 4- إن خروج المؤسسة الدينية من سيطرة الدولة وتخلصها من عباءة السلطة سيكسبها بالضرورة صدقية حقيقة ودوراً مؤثراً، ويكفي أن نتذكر أن رجال الدين المرموقين في العالم الإسلامي ممن اكتسبوا شعبية كبيرة إنما حصلوا عليها وهم خارج المؤسسة الدينية الرسمية. 5- إن البحث في الأرضية المشتركة مع الآخر واكتشاف مساحة الاتفاق مع الغير أفضل بكثير من تغذية نعرات الخلاف وتجسيد اسباب التباين. فالإسلام دين رحب، حارب نبيه وتفاوض، واتسمت دعوته بالسماحة، ويكفي أن نتذكر موقفه الرائع عندما دخل "مكة" فاتحاً ليعفو عمن أساؤوا اليه ويصفح عمن أخرجوه من دياره في موقف كان يمكن ان يجعل منه مناسبة تاريخية لسفك الدماء وتصفية الحسابات. ولا يخفى على أحد أن المؤسسة الدينية الإسلامية في تقديمها لصورة الإسلام الصحيح يجب أن تذهب بعيداً في عمق تاريخ نظرة الآخر تجاه الإسلام والتي تشكلت من خلال المواجهة الدامية في حرب الفرنجة - المسماة خطأ بالحرب الصليبية - أو من خلال "الاتراك السلاجقة" في الامبراطورية العثمانية كما تكون جزءاً منها ايضاً من خلال تناول الغرب لسحر الشرق في العصر المملوكي فضلاً عن الصورة التي تشكلت من خلال رؤية أوروبا للشواطئ الجنوبية للمتوسط منذ بدء الحملة الفرنسية إلى مصر والشام وصولاً الى الصورة التقليدية التي رسخت في أذهانهم عن الشمال الافريقي العربي. وهكذا يبدو أن المهمة ليست سهلة وأن الرواسب التاريخية والميراث الثقافي يلعبان دوراً كبيراً يجعل من الأساليب العصرية ضرورة في مواجهة ذلك الركام الضخم من بقايا التاريخ المتواصل وآثاره المترسبة. ذلك جزء من رؤيتنا لعدد من الأفكار المتصلة بدور المؤسسة الدينية الإسلامية في هذه الظروف العصيبة في تاريخ الإنسان المعاصر حيث تبدو الحاجة شديدة الى دورها الغائب ورسالتها العاجلة. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.