شهدنا خلال السنوات الاخيرة المنصرمة موجة عارمة من التحركات والدعوات التي تحمل عناوين مثل "الحوار الاسلامي - المسيحي" او "الاسلام والغرب" و"الحوار مع الغرب" في وجه حملات ودعوات تدعو للمواجهة والاستعداد لصد مخاطر ودرء الاخطار وتتوقع حرباً او حروباً تحت ستار ما أطلق عليه صموئيل هينتنغتون عنوان "صراع الحضارات" الا ان الموجة الحوارية سرعان ما تلاشت ان لم نقل فشلت بينما استمرت موجة العداء للاسلام وتزايد الحملات المغرضة التي تغذيها الآلة الاعلامية الصهيونية لربط الاسلام بالعنف والتطرف والارهاب وتشكيل رأي عام عالمي يؤمن بذلك ويتسلح بالحذر والقلق والكراهية. ولهذا لا بد من احياء الدعوة للحوار والتفاهم وتبادل المعلومات وتصحيح الصورة المشوهة التي تحاول تكريسها الجهة المتضررة من اي تقارب اسلامي - مسيحي وهي اسرائيل والصهيونية العالمية. ولا بد ايضاً من تشجيع الخطوات العاقلة والحكيمة التي تمثلت بإقامة مراكز للحوار الاسلامي - المسيحي ومراكز الدراسات الاسلامية في الجامعات العالمية الكبرى ليس على الصعيد الدولي فحسب بل في الدول العربية، ولا سيما تلك التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون منذ مئات السنين مثل لبنان حيث تحاول لجنة الحوار الاسلامي - المسيحي التي يقودها الأمير حارس شهاب والزميل محمد السمّاك تعميق مفاهيم الحوار والمحبة والتعايش والوفاق بدعم من المراجع الروحية والدينية العاقلة. وقبل ايام دعا رئيس المجلس البابوي للحوار بين لاديان نداء باسم الفاتيكان لمناسبة شهر رمضان المبارك الى ميثاق سلام بين المسلمين والمسيحيين يتعهدان من خلاله اتباع الديانتين السماويتين بنبذ العنف كوسيلة لتسوية الخلافات ومواجهة الظلم والارهاب. كما يلعب مركز التفاهم الاسلامي - المسيحي الذي أُنشئ في جامعة جورجتاون الاميركية العريقة في خريف عام 1993 دوراً مهماً في تعزيز دراسة العلاقات الاسلامية - المسيحية وتطوير الحوار بين اتباع الديانتين السماويتين والاسهام في تدريس الاسلام بمحتواه الديني ومغزاه الثقافي ودوره الحضاري والانساني والعالمي بحيث يستطيع الدارس فهم جوهر الاسلام ولبّه ومغزاه وفهم التفاعل بينه وبين المسيحيين وفهم التجربة المسيحية في العالمين العربي والاسلامي. وقد قام المركز الذي انشئ بمبادرة من رجل الاعمال حسيب صباغ والمفكر العربي باسل عقل بدور في الردّ على نظرية "صراع الحضارات" مثله مثل مركز الدراسات الاسلامية في جامعة اوكسفورد العريقة وكراسي الملك فهد في عدة جامعات كبرى مثل هارفارد ولندن. وفي هذا المجال يقدم مدير مركز جورجتاون البروفسور جون اسبوسيتو رداً موضوعياً على التحيز العلماني والطائفي ضد الصحوة الاسلامية قائلاً: "اننا في الغرب لا زلنا للاسف قاصرين في تناولنا، كما اننا عجزنا عن بحث الاسباب المحددة، سواء حقيقية او وهمية للكراهية لأميركا. وبالاضافة الى ان غالبية الاكاديميين تعالج الاسلام كنمط واحد من القوة السياسية والاجتماعية، كما كان مفهوم الشيوعية لدى العلماء وصنّاع السياسة ورجال الاعمال ابان الحرب الباردة. وبذلك فاننا في الغرب عندما نقوم بخلق خطر من الاسلام فان ذلك يؤدي بنا بعد ذلك الى تحليل قوة الحركات الاسلامية". ويضيف اسبوسيتو: "ان التركيز على الخطر العالمي من الاصولية الاسلامية قد قوى الميل الى مساواة العنف بالاسلام، وبالفشل في التمييز بين الاستخدام غير المشروع للدين وبين الدين كعقيدة وكممارسة لمعظم المسلمين في العالم الذين هم مثلهم مثل باقي المؤمنين بالأديان، يتوقون للعيش في سلام. كما ان الربط بين الاسلام والاصولية الاسلامية وبين التطرف هو في الواقع حكم على الاسلام من خلال اعمال اقلية المتطرفين في الوقت الذي لا يطبق فيه المعيار نفسه على اليهودية والنصرانية. وفي معرض تأكيد هذه النظرية اشير الى انني سبق ان عالجتها في مقال سابق وفرّقت فيه بين الصحوة الدينية والاصولية والتطرف والارهاب فليس كل متدين ومؤمن او اصولي متطرفاً او ارهابياً، بل ان هناك الكثير من المتطرفين ينبذون الارهاب الذي لا تؤمن به سوى مجموعات قليلة لا تمثل غالبية المسلمين، كما ان الارهاب موجود عبر التاريخ في كل مجتمع وهذا ما يشير اليه البروفسور اسبوسيتو عندما يقول: "ان الخوف من الاصولية قد خلق جواً اصبح فيه المسلمون والمنظمات الاسلامية في حالة ادانة ومطلوب منها ان تثبت براءتها! ان بعض الافعال الشائنة او المرفوضة التي تقوم بها مجموعة من الاشخاص او المنظمات يتوجب عدم الصاقها - بأي حال - بالاسلام، فالبرغم من ان سجلات التاريخ مليئة بممارسات المسيحيين والدول الغربية - على سبيل المثال - في اعمال الحرب وتنمية اسلحة الدمار الشامل وفرض نظام امبريالي، الا ان الاسلام والثقافة الاسلامية هي التي يتم تصويرها على انها توسعية وان الحرب والعنف هي شيء مفطورة عليه". وهذا ايضاً ما يشير اليه عدد كبير من الصحافيين والمفكرين في الغرب وبينهم كليفورد لونجلي الكاتب في صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية الذي قال في ندوة عن "الاسلام والغرب" نظمها مركز الدراسات العربية في لندن "ان الجهل الموجود بين الاسلام والغرب له الكثير من الصفات المشابهة الى الجهل والتحيز بين البروتستانت والكاثوليك في شمال ايرلندا". كما ان اولى المراحل في تاريخ العلاقة بين الاسلام والمسيحية كانت تتسم بالعنف والقسوة والقتل وهي الفترة التي تسمى بفترة الصليبيين او فترة "الحملات الصليبية"، وذهب بعد ذلك الى مثل ما وصل اليه الامير تشارلز ولي عهد بريطانيا من ان الغرب يدين بالكثير الى الحضارة الاسلامية وعلومها وفنونها قائلاً: انه من اجل بناء جسر التفاهم بين الاسلام والغرب في الوقت الحاضر تجب اعادة النظر في هذه الفترات من التاريخ التي كانت فيها العلاقة بين الاسلام والمسيحية مبنية على احترام وتقدير وثقافة متبادلة. وان الجهل عند الغرب بمدى اقتباس التكنولوجيا الغربية من العلوم الاسلامية يؤدي الى وجود هذا الشعور بالافضلية. ولكن عندما يزول هذا الجهل ويعلم الغربيون حقيقة تاريخ الحضارتين فإن باب المعرفة المتبادلة يفتح من جديد. ولكن كيف يفتح هذا الباب… وما هي اسباب تراجع، ان لم نقل فشل الدعوات للحوار الموضوعي والبناء؟ حتى نصل الى النتجية لا بد من وضع اليد على جملة من الاخطاء في الشكل والاسلوب و"سطحية" التعاطي مع شأن خطير وهو الحوار الاسلامي - المسيحي او الحوار بين الاسلام والغرب، والاكثر من ذلك فقدان الجرأة والصراحة والشجاعة في طرح بعض المواضيع الحساسة التي تتناول جوانب هذا الحوار وخلفياته وأبعاده الدينية والسياسية والتاريخية. ولهذا لا بد من طرح بعض الاسئلة الموضوعية المستخرجة من تجربة الحوار السابقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: 1 - من الذي يقوم بهذا الحوار ويمثل الاسلام كدين سماوي عظيم؟ وأي شكل من اشكال الاسلام يتصدى لحمل هذه الراية؟ ومن هم الاشخاص المأهلون للقيام بهذه المهمة؟ هل هم العلماء ورجال الدين؟ ام رجال الفكر؟ ام رجال السياسة واصحاب القرار؟ ام الجماعات الاسلامية المتطرفة؟ ام الاحزاب الدينية المعتدلة التي تنبذ العنف؟ ثم هل هو الاسلام السياسي، ام الاسلام بشموليته الكاملة؟ ومن يتمعن في هذه الاسئلة يدرك حجم تعقيد هذه المسألة وتشابك مسؤولية التمثيل واتجاهات اصحابها من الدول الاسلامية الى ايران بعد الثورة وما تمثله الى الدول العربية المعتدلة الى الحركات الاسلامية . ولهذا لا بد من حسم مسألة مشروعية التمثيل ووحدة القرار او على الاقل الالتفاف حول حقيقة الحد الادنى بجمع القواسم المشتركة ونقاط الاتفاق ونبذ شعائر الخلاف والاختلاف. 2 - اي غرب نتحدث عنه؟ واي مسيحية؟ وهنا ايضاً تتشابك الادوار والسياسات والاطراف والجهات وتتدرج من قمة العداء والتطرف الى قاعدة الفهم والاعتدال والرغبة في الحوار والتقارب والتعاون والصداقة؟ ولهذا علينا ان نفرّق بين الدول والشعوب والمؤسسات الدينية اولاً، ثم بين الدول والشعوب نفسها، فهناك فرق كبير بين مواقف الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا بأشكال متدرجة، ومواقف هذه الدول والشعوب ودول وشعوب اخرى مثل اسبانيا واليونان وروسيا وايطاليا وغيرها. كما ان هناك اختلافات جوهرية في المواقف بين الكنائس من كاثوليكية وارثوذكسية وبروتستانتية وغيرها مما يعني ان اي حوار يجب ان يأخذ بعين الاعتبار هوية اطرافه ومواقفهم. 3 - ما هي الاساليب المجدية لانجاح الحوار؟ وهل نكتفي بالندوات ومراكز الدراسات والمؤتمرات الموسمية والمحاضرات الخطابية الشكل والجوهر؟ ام ان من الافضل استخدام الوسائل العصرية لا سيما في عصر الاتصالات وثورة التكنولوجيا والاعلام ومخاطبة كل طرف باسلوب مختلف والتركيز على المؤسسات الدينية والخيرية والاعلامية والجهات المؤثرة بلغة خطاب عصرية؟ 4 - واجب الصراحة يقتضي منا ايضاً الاعتراف ليس أحادي الجانب، بل ان مسؤولية كبرى تقع على الطرف الاسلامي اي علينا كعرب ومسلمين في القصور والتقصير ايضاً، في الممارسات الخاطئة والتصرفات التي تصدر عن بعض الاطراف داخل اوطاننا وفي ديار الاغتراب من مخالفة للقوانين او حرق الاعلام وما الى ذلك وصولاً الى ربط الاسلام بجماعات سياسية متطرفة وعمليات تثير الكراهية والحقد مثل الارهاب وقتل السياح والاعتداء على النساء والاطفال وارتكاب مذابح كما يجري في الجزائر وافغانستان. وهذا التقصير يشمل ايضاً الاطراف الاكثر قرباً منا والأشد التصاقاً بتاريخنا وجغرافيتنا وعنينا بهم الطوائف المسيحية العربية المنتشرة في عدة دول عربية ولا سيما في بلاد الشام، وأي حوار مسيحي - اسلامي عالمي يجب ان ينطلق من الحوار المسيحي - الاسلامي العربي اولاً بحيث يتم تشكيل ارضية مشتركة تنمي الحساسيات واسباب القلق وصواعق الفتن وصولاً الى موقف موحد ووفود واحدة تشارك في الحوار العالمي بحيث يكون الصدى اعمق والتجاوب اكبر والنتائج اكثر ايجابية. وقد حاولت اسرائيل خلق الفتن واثارة الحساسيات بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين اولاً ثم في لبنان عندما اسهمت في اشعال نار الحرب الاهلية عام 1975، وما زالت تراهن على فتن تحيي مؤامرة الدويلات الطائفية. كما حاول الاستعمار من قبل وما زال يحاول باشكاله الجديدة، تنفيذ سياسة فرّق تسد. والردّ على هذه المؤامرات لا بد ان يكون موحداً وبتحقيق المساواة والعدالة والديموقراطية وايضاً بالتذكير بأن مقدسات المسيحيين في فلسطينوالقدس بالذات تتعرض لمخاطر مماثلة لتلك التي تتعرض لها مقدسات المسلمين كما ان المسيحيين العرب في فلسطين يواجهون مؤامرة صهيونية منظمة لحملهم على الرحيل وتفريغ مناطقهم تمهيداً للسيطرة عليها وتهويدها بالكامل. وهذا ما يجب ان تكشف ابعاده للرأي العام العالمي، وللمؤسسات المسيحية العالمية، في الوقت الذي توقع فيه الاتفاقات بين اسرائيل وحاضرة الفاتيكان في القدسالمحتلة، وتمر بهدوء عملية تبرئة اليهود من دم المسيح والغاء أية اشارة في الانجيل لجريمة تعذيب السيد المسيح عليه السلام وصلبه. ولا بد ايضاً من ابراز تسامح الاسلام وحفظه للتراث المسيحي عبر العصور بحيث حفظت الكنائس والاديرة والمدارس وحرية المسيحيين في ممارسة شعائرهم في مختلف العصور الاسلامية مع انه كان بالامكان لو صحّ ما تزعمه الحملات المغرضة والعنصرية محو هذه الاماكن المقدسات بلا ضجة ولا معارضة، ولكن العكس هو الذي جرى ولا سيما خلال، وبعد الحروب الصليبية حيث توحدت المواقف وبقي الوفاق الاسلامي - المسيحي صامداً بفضل الوعي والايمان. وأذكر في هذا المجال مآثر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي منح المسيحيين "العهدة العمرية" الشهيرة التي تعطي الامان والامن للمسيحيين وكنائسهم واديرتهم في القدس. وعندما زار كنيسة القيامة حان وقت الصلاة وهو بداخلها، أشار اليه البطريرك صفرونيوس ان يصلي فيها، لكن سيدنا عمر أبى ان يفعل ذلك وخرج من الكنيسة وصلى على مقربة منها، خشية ان يتخذ الناس صلاته داخل الكنيسة سابقة وحجة لوضع يدهم عليها. هذه هي الحقائق التاريخية الدامغة، وهذا هو الاسلام الحقيقي، وهو ما عبّر عنه الملك فيصل طيّب الله ثراه عندما ارسل وفداً يضم نخبة من رجال الدين والفكر وبينهم الدكتور محمد معروف الدواليبي الى حاضرة الفاتيكان في مطلع السبعينات، كما عبّر عنه الملك فهد بن عبدالعزيز في حوار اجريته معه عام 1985 وقال فيه بالحرف الواحد: "حينما نتكلم عن الأمة العربية فإننا هنا نقصد الاطار الكبير ونقول العرب، كل العرب بمختلف مستوياتهم ودولهم وطوائفهم، فبالنسبة للاخوة المسيحيين نقول انهم جزء منا، وحينما أتكلم عن العرب فاننا نتحدث عن كل عربي بصرف النظر عن معتقداته لأننا نعمل في سبيل هدف واحد". هذه المنطلقات لا بد ان تدفعنا الى الدعوة لإحياء عملية الحوار الاسلامي - المسيحي وفق أسس جديدة ووسائل مختلفة ومفاهيم محددة بعد الاجابة على الاسئلة المطروحة وازالة الشوائب والاساليب الخاطئة حتى لا يستمر تعثر مسيرة الحوار ولا تتشابك المفاهيم والمعايير وتزداد المعضلة تعقيداً ويتحقق ما شدد عليه الكاردينال النيجيري ارينزي رئيس مجلس الحوار بين الاديان وهو ان الحوار بين المسلمين والمسيحيين هو "دليل أمل للحاضر والمستقبل".