مقال الكتابة الإيرانية بتول خدابخش "أفكار عبدالكريم سروش عن الإسلام والغرب: من سوء الفهم الى التفاهم" صفحة أفكار 11/1/1999 يعبر عن مستويات عدة من الفهم، أهمها الوعي بالذات، بجذورها التاريخية والحضارية، والوعي بالآخر الغربي تاريخياً وحضارياً، وبمدارسه الفلسفية أيضاً، والوعي بالعلاقة المشتركة بين الحضارات التي تتبناها الكاتبة للوصول الى مد جسور للتفاهم بين المسلمين والغرب. وهي بذلك تشق من البداية طريقاً خاصاً بها يرفض - بناء على وعي فلسفي وتاريخي وحتى فهم عقائدي - اعادة ترويج نظرية القرون الوسطى التي كان يرى فيها أحد الاطراف من المسلمين أو المسيحيين الآخر دار حرب وهو دار سلام. وهو ما أعاد ذكره صموئيل هنتنغتون في طرحه لفكرته الجوهرية "صدام الحضارات". وهو الامر الذي يتطلب نقاشا واسعا لأفكار الكاتبة، كمحاولة للبحث بجدية في إعادة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، رفضا أو قبولا، تفاهماً أو سوء تفاهم، تعاوناً أو صراعاً. فالكاتبة تعيب على صموئيل هنتنغتون في نظريته عدم إهتمامه بالاقتباسات والمشتركات البشرية. وهو إذا سلم لها بهذه الفكرة سيدحض نظريته، ذلك لأن الصراع قائم لا محالة، وقد يأخذ أوجهاً عدة أقصاها الحرب التي تشمل التقتيل والحرق والنهب وغير ذلك من الصور. ونحن كلنا بشر، وبالتالي فإن الدعوة الى الغاء التقسيمات الموجودة ربما كانت فكرة مثالية، لكنها بالتأكيد ليست واقعية، فالتقسيمات موجودة حتى داخل الجماعة الواحدة، وقد ثبتها الله تعالى بإرسال الرسل وبالتذكير بأن الناس كانوا أمة واحدة ثم انقسموا بعد ذلك. هنا يصبح من الضروري الاشارة الى ان "فكرة الاختيار الالهي" - اذا جاز التعبير تؤكد مسألة ضرورة التقسيمات البشرية، نجدها جلية في الماضي السحيق مثل اختيار بني اسرائيل، ثم الغاء هذا الاختيار، ربما لكون بني اسرائيل انفسهم لم يعطوا اهمية لهذا التقسيم، ثم جاء بعد ذلك العرب واختيروا كأمة تحمل الرسالة الخاتمة، مع أن الاسلام لكل العالمين. اما قول الفلاسفة بأن حاجات البشر مشتركة فتلك مسألة بديهية. الاحتكار والانانية اهم ما يميز البشر فلا يمكن الغاؤهما، والقول بالتعددية الدينية بتعبير الكاتبة: "فإذا كانت هناك تعددية دينية لاجتثت جذور النزاع"، يناقض التقسيم الذي كانت الكاتبة تدعو الى الغائه في الفقرة السابقة، أما بالنسبة الى التعددية داخل المجتمع الاسلامي كمثال فإنها، وهذا ما لم تشر اليه الكاتبة، تنتهي كلها الى خاتمية الرسالة أي الى الاحادية، وارتباطها بمنهج التوحيد على الارض. ثم ان التعددية الموجودة في الغرب والتي كثيرا ما نقف - نحن المسلمين - امامها مبهورين هي التعددية السياسية داخل المنظومة الواحدة. وهذا النموذج السياسي تريد الكاتبة اسقاطه على الدين من دون ان تتذكر ان الدين واحد لا يتغير خصوصاً الدين الاسلامي، الذي نؤمن بأنه للعالمين، أي انه يدعو في اساسه الى تحويل وتغيير الطرف الآخر، وليس الغاءه، وان كان يسمح بحرية الديانة للآخرين الا انه ثبت من الفتوحات إعطاء السلطان للمسلم على غيره، إذن فتقديم انفسنا على اننا اذا قبلنا بمفهوم التعددية من المنظور الغربي، كما ذهبت الى ذلك الكتابة، يعطي صورة غير مشوهة عن قناعتنا. هناك سؤال يُطرح بصدد ما ورد في المقالة: "هل الاسلام - كما قالت الكاتبة - هو تلك التفاسير التي قامت حوله، وهل المسيحية هي أيضا تلك التفاسير التي قامت بخصوصها؟ إن هذا السؤال هو في حقيقته اجتهاد من الكاتبة يصل بنا الى ان الديانتين لا تختلفان. إذن فهما نتاج الاجتهاد البشري لنصوص دينية. لكن في حدود معرفتي ان الديانتين ليستا كذلك، وبالنسبة الى الاسلام على الاقل، إذا كانت الفكرة تهدف الى الفصل بين الشريعة والفقه، فيجب ان لا يغيب عنا ان الفقه تابع للشريعة، أو بالاحرى نابع من النص القرآني نفسه أو السيرة النبوية. وحين وضعت الكاتبة يدها على العلة في نظرها - كما أفهم - إذ رأت السبب في عدم وجود نص رسمي يركن اليه الجميع ويكون حلاً للنزاع، فإنها كانت تناقض نفسها بناء على ما جاء في الفقرة السابقة، حيث تقر أنه "... ما كان وما عاش أي دين على مدى التاريخ من دون هذه الكثرة، وتاريخ كلام الاديان والمذاهب خير شاهد على ذلك"، ثم ان التفسير الرسمي الذي تدعو إليه الكاتبة، يدفعنا الى طرح تساؤلات عدة اهمها: كيف يتسنى الوصول اليه؟ ومن سيتولى ذلك؟ أي مذهب وأية دولة وأية جماعة؟ وإذا سلمنا بذلك فعلينا ان نلغي سبل النزاع فيتم التوحد ومن ثم قد تسهل الامور، كما انه لا يخفى على أحد ان الصراع الذي قام منذ فجر التاريخ الاسلامي بين السنة والشيعة والخوارج... كان خلافا سياسيا ولم يكن خلافا دينيا عقائديا، ليأخذ طابع القداسة والتأثير ويلبسه اهله ثوبا دينيا. اما إبراز الكاتبة الفرق بين الحرب والسباق، فهو مقارنة يشوبها القصور، ذلك لأن الحرب والسباق ينتهيان معاً الى اقصاء الطرف الآخر، كذلك فإن السباق في اساسه غالبا ما يكون أطرافه متساوون في القوة ويعيشون داخل زمن واحد، ويستعملون نفس الاساليب. لذلك نتساءل: كيف يتم السباق بيننا وبين الغرب، ونحن الطرف الاضعف في المستوى المادي على الاقل، ومسألة اننا خلقنا على حد تعبير الكاتبة لپ"نتوادد" ليست صحيحة وانما خلقنا لكي "نتعارف" - حسب النص القرآني - والتعارف قد يكون بالمنازعة ايضا، اما التوادد الذي تتكلم عنه الكاتبة يكون داخل الجماعة الواحدة، أما تأكيدها على ان "التوادد" صفة أهل الجنة، فعلينا ان نسأل: من هم أهل الجنة من منظور الديانات السماوية؟ من ناحية أخرى فإن نفي الكاتبة ادراك المسلمين لمعنى الحضارة في فترة ازدهارهم، وعدم وعيهم بها، وعندما غاصت في التاريخ اكثر نفتها ايضا على المسيحيين ووصلت الى نتيجة هي ان الحضارة هي في مخيلة المؤرخين لا غير. وهذا يحتاج في نظري الى نقاش وتفصيل. لأن الكاتبة انطلقت من مسلّمة هي أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق مفهوم الحضارة. وذلك ليس صحيحا، أولا لأن القرآن وردت فيه اكثر من مرة آية تقول "ويعلمكم الله..." وثانيا: ان الامثلة التي ذكرت في القرآن ووردت في قصصه بينت الانجازات المادية للأمم السالفة، والتي تصارعت من خلالها مع الانبياء والرسل من منطلق القوة المادية في مواجهة الروحية، وثالثا: ان الديانات والاسلام على الخصوص تطرح مسألة الحضارة من خلال مفاهيم: الحكمة والتفقة والتبصر، وليس شرطاً ان تذكر الكلمة نفسها، وإنما يكفي ذكر تداعياتها وممارساتها العملية وتأثيرها على البشر. لنا ان نتساءل: كيف ولد الوعي بالحضارة في عصرنا الحالي، ولم يكن موجودا في العصور الاخرى مع ان التفكير العقلي العلمي كان في هذه الفترات واحداً؟ فهل العربي الذي انتقل من القبيلة الى الدولة الى الامة لم يع هذا التحول وهو يرى نفسه قد حقق حضارة جعلته سيد العالم لعصور من الزمن؟ وينطبق هذا ايضا على المسلم في كل بقاع الدنيا، وإذا لم تكن تلك حضارة ووعي بها، فلماذا خافتها وهابتها الشعوب الاخرى والحضارات الاخرى؟. تعريف الكاتبة ان تاريخ الحضارة تاريخ غير مقدس لا أحد ينكره، ذلك لأن الحضارة هي أيضا نتاج بشري، قد يكون احيانا ضد المقدس نفسه، لكن ايضا لكل حضارة روحانيتها، والحضارة الاسلامية على وجه الخصوص ارتبطت بالدين قرباً او بعداً بشكل واضح حتى انها سميت به على عكس الحضارة الغربية الحالية التي لا تحمل اسم الدين. ويبدو ان الكاتبة في هذه النقطة بالذات تخلط - بطرح فلسفي - بين الدين والحضارة الناتجة عن الدين. وباختصار فإن هناك فرقا بين الدين وبين الفكر الديني والتناقض داخل حضارات عرفته كل الحضارات، ولا شك ان الكاتبة كانت مصيبة في ما ذهبت اليه من ان التناقضات تعرية للحضارة وتشكل بداية انهيارها. سؤال آخر يطرح من خلال قراءتنا لمقال الكاتبة هو كيف يمكن اعتبار مدرستين فلسفيتين في علم الكلام "الاشاعرة والمعتزلة" اثّرتا في جماعة أو في جماعات أو حتى في انظمة الحكم حضارتين؟ لا، ليس كذلك. إنهما تناقضان داخل الحضارة نفسها التي تحدثت عنها الكاتبة في البداية. ومن الصعب القبول على مستوى الفكر الفلسفي او المثالي ان اتجاه الفكر وحده هو الذي يحدد مسيرة الحضارة، ويستثنى بالطبع من هذا الدين لأنه خارج التفكير البشري، وان حام هذا التفكير حوله. وهناك سؤال آخر في السياق نفسه: هل التكهن بالحضارات وردود افعال الآخر حضارياً يتطلب السرية وتوفير الوسائل المساعدة لتحقيق التكهن؟ أعتقد انه بالنسبة الى الاولى، أي السرية، فإن الاسلام ينقاضها لاعتماده العالمية، أما الثانية أي الوسائل فإن اعداد القوة حسب التعبير القرآني لا يتوفر إلا إذا حدث تمسك وتبصر بالنص القرآني نفسه، وبالالتزام عند التطبيق، وهذه لا تناقض فيها الكاتبة فقط، بل تناقض فيها صموئيل هنتنغتون نفسه. واضح أن القوي يعلن دائما عن تكهناته واساليبه من دون خوف أو وجل، ربما ليزيد في رعب المستضعفين حضاريا، ومشكلة المسلمين حاليا ليست في إعلانهم أو سعيهم الى التفاهم مع الحضارة الغربية، إنما المشكلة هي عدم قبول تلك الحضارة لهم، ناهيك عن ان التطور الحضاري الحالي يخلق النزعة الفردية لقطب احادي داخل الحضارة الغربية. نلاحظ ان الكاتبة بعد ذكرها لمدارس فلسفية وفكرية عدة تنتهي الى التصادم بين الفكر القائم في الحضارة الاسلامية، كون هذا الاخير يركز على التكليف في حين يركز الغرب على الحق، وبعد ان تحلل الكاتبة الجذور الفلسفية في الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية تؤكد ان جذورهما واحدة، لكن كل حضارة أعطت نتائج مختلفة، واذا كانت الكاتبة تنبذ فكرة الحرب وتدعو الى فكرة التسابق والتعدد والكثرة، فإن اختلاف النتائج يحقق ذلك، اللهم الا اذا كانت نتائج السباق الموجود لا ترقى الى المستوى الذي هو في ذهن الكاتبة، فتلك مسألة أخرى. إنني أفهم - وقد يكون فهمي خاطئا - أننا امام خيارين: إما أن تسلم بقيادة الحضارة الغربية للعالم بما في ذلك سيطرتها على مجال القيم، وإما ان تثبت التميز، وهو ما سيدخلنا في حرب بالضرورة. المدهش أننا على حال الضعف التي نحن عليها لا تزال الحضارة الغربية - على الاقل على المستوى السياسي - تعتبرنا العدو الاول لها، وليس ما كتبه صموئيل هنتنغتون كتابة وحيدة معبرة عن هذا الموقف، ولا موقف علماء المسلمين من الغرب خاص بفئة محدودة. فكتابات الغرب وموقف المسلمين هو تعبير عن مجتمعات ذات حضارات مختلفة، فكتابات الغرب وموقف المسلمين هو تعبير عن مجتمعات ذات حضارات مختلفة، وبالنسبة الى المجتمعات الاسلامية قد تكون غير واعية، لكنها تتبنى فكرة المواجهة حتى في حالات الضعف، وهذا ما يشكل ازعاجاً وقلقاً للحضارة الغربية. انها دعوة عقلانية جديرة بالاهتمام تلك التي تطرحها الكاتبة بتول خدابخش لو اخذنا بها لاستطعنا مد جذور مع الغرب، لكنها ومع معطيات الواقع الحالي تعتبر فكرة مثالية، لأن الطريق طويل والزاد الفكري قليل، والعقيدة لها حضور هذه الايام بمعنى الصراع وليس بمعنى التعاون. والآخر الغربي في حضارته منزعج قلق - كما ذكرت - من تعاطي المسلمين مع دينهم على رغم تخلفهم، وعدم التسليم به يشكل خرقاً حضارياً في ظل محاولات العولمة التي لا تعني التفاهم مطلقاً كما تأمل الكاتبة، إنما هي دعوة للذوبان والخضوع وهو ما يتطلب وعياً بالذات وبالمحيط وبالعلاقات بيننا وبين الحضارة الغربية، لأن السباق لن يحدث في الوقت الراهن لعدم التكافؤ، ولأن الحرب أيضا معروفة نتائجها حتى لو حاولنا أو حاول الغرب التغاضي عن دوافعها واسبابها. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر.