ليس هناك أسرع من الكُتَّاب في ابداء برَمَهم بالكتب وبمعارض الكتب خصوصاً. كلما جاءت مناسبة معرض الكتاب نسمع الكلام المكرور نفسه عن لا جدوى المعارض وموت القارئ وانحسار الكتاب نفسه أمام انتشار وسائل الاتصال الحديثة. كلام يصل أحياناً الى درجة اليأس من كل ما له علاقة بالثقافة بمعناها الابداعي. ومع ذلك فالمعارض مستمرة وابداءُ البَرَم مستمر. ومعرض الكتاب العربي الدولي في بيروت لا يشذ عن هذه القاعدة، ففي دورته الخامسة والأربعين من 2 الى 18 تشرين الثاني نجد الظواهر ذاتها، كتب كثيرة في كل مكان وأحاديث لا تنتهي عن القراءة في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية، وعن تراجع الاهتمام بالكتاب بسبب ربحيته الضئيلة، وعن بحث دور النشر عن أساليب لا علاقة لها بأي طموح ثقافي للترويج لمنشوراتها. وعن قلة اهتمامها بل انعدام اهتمامها بطباعة كتب الشعر والابداع عموماً ما عدا بعض الأسماء التي ما زالت قادرة على أن تبيع. معظم دور النشر المشاركة في معرض هذا العام تتصرف وكأن الكتاب هو سلعة فقط. الكتاب يمثل في احدى صوره مفهوم السلعة ولكنه قبل ذلك يكون قد حقق مجموعة صارمة من القواعد والشروط التي تجعله كتاباً أولاً وأخيراً. ولذلك نجد أغلفة كثيرة ولكن الكتب قليلة. لا لأن الكتب الحقيقية قليلة فعلاً بل لأن الكتب كشكل طباعي للابداع باتت شيئاً نادراً هذه الأيام. دور النشر التي تهتم بشكل الكتاب وطباعته وجودته قليلة جداً. وهذا يعود الى صعوبة تصريف الكتاب وبيعه وجني الأرباح منه. الكاتب أو المبدع يفكر بنصه وينظر اليه كشيء راقٍ يرتبط بالإلهام. أما الناشر فيمتلك نظرة أخرى ومختلفة. صحيح أنه يقدّر النصوص ويعرف كيف يميز بينها ولكنه يضع هدف الربح والتوزيع نصب عينيه بالتساوي مع قيمة النص. وحين يكون النص مهماً ومميزاً ولا يربح ولا يبيع يتحول الى بضاعة كاسدة مثله مثل الكتب التي رفض الناشر طباعتها لظنه انها لن تلقى رواجاً واهتماماً. من هذا المنطلق وداخل هذه الصورة بات تقديم صفة السلعة على الكتاب يسبق أي صفة أخرى بالنسبة للناشر، وتحول الناشر الى بائع بالإضافة الى كونه منشطاً ثقافياً، ولا بد انه بات يقدم تنازلات كثيرة لكي يربح أو لكي يبقى في السوق. كان الناشر مثقفاً وقارئاً ممتازاً يكتشف الكاتب ويقدمه ويفرض ذوقه الثقافي على القراء والجمهور والأرجح ان هذه الصورة باتت باهتة الى حد ما، لا لأن طباعة الكتب تحولت الى تجارة وبزنس بل لأن صفة التجارة طغت، عند الغالبية، على صفة المثقف. لعل جولة سريعة في أروقة معرض الكتاب الحالي تبين لنا هذه الصورة بوضوح، فغالبية الأجنحة تبدو مثل دكاكين أنشئت على عجل ومنظر الكتب فيها يثير السخرية والشفقة. بعض هذه الأجنحة قام أصحابها بترتيب الكتب التي يعتقدون انها ما زالت جديدة ومطلوبة على رفوف وستاندات، أما الكتب القديمة، وهي كتب قد تكون موجودة في المستودعات منذ عشرين سنة، فيتم احضار ما تكدس منها لدى الناشر الى المعرض وما يبقى منها يعاد الى المستودعات بانتظار المعرض التالي وهكذا. بعض الدور وضعت تلك الكتب في سلال كبيرة أمام أجنحتها، وبعضها الآخر وضعها في صناديق ضخمة. وبعضها وضعها على عربة كعربات الخضار في سوق شعبي ثم كتب عليها عبارة أي كتاب بألف ليرة!!. المعرض بالنسبة لهؤلاء فرصة لبيع أي شيء خصوصاً الكاسد من كتبهم. المعرض عموماً هو فرصة مكثفة للبيع ولكن القليل من دور النشر تقوم بما يليق بهذه المناسبة السنوية التي ينظر اليها الكثيرون من الناشرين والقراء والكتاب كعيد للكتاب. الكاتب عماد العبدالله المشرف على جناح "رياض الريس للكتب والنشر" يقول: "لدينا هذا العام 48 عنواناً جديداً ولا نوفر أي وسيلة لعرض الكتاب واعطائه الفرصة الملائمة. الكتاب في النهاية للقراءة ولكن يجب ان ينظر اليه كصناعة وكسلعة وكتسويق أيضاً ثم يلقي من جانب آخر اللوم على قوانين الرقابة وعوائق النشر والتوزيع كجزء من مشكلات الكتاب العربي الذي لا يستطيع حتى الآن أن ينافس الكتاب الأجنبي". أما حسن ياغي المسؤول عن منشورات "المركز الثقافي العربي" التي تقدم 40 عنواناً جديداً فيرى ان "المعرض يظل مناسبة جيدة وتصنع حيوية ما في المدينة مع أنه لا يُظهر احتفاء حقيقياً بالكتاب وتغلب عليه البهرجة. إضافة الى ان المعرض يشكل فرصة لغالبية دور النشر التي لا تطبع جديداً وحين يحين موعده تقوم بعرض ما في مخازنها. انه مجرد مكان للإعلان والوقوف في الأضواء من دون خطة نشر". الدكتور مجد حيدر صاحب دار "ورد" السورية يشير الى "ان المعرض بات ذا طابع محلي فأغلب الدور المشاركة لبنانية مع انه معرض عربي ودولي. المعرض في شكله المهرجاني وأعداد الكتب الكثيرة والزوار الكثيرين قد يخفي مثل هذه التفاصيل التي يشعر بها ويلمسها المهتمون والمختصون. ان نظرة متمعنة فاحصة تكشف ان دوراً قليلة لديها عناوين جديدة لهذا العام. وهذه الدور هي الأنشط على مستوى النشر في بيروت في المعرض وخارج أيام المعرض. فدار الريس مثلاً لديها الى جانب كتبها مجلة "النقاد" وقبلها كانت "الناقد" ودار الآداب تواصل اصدار مجلة "الآداب" منذ عام 1953. وصفة الفاعلية هذه تنطبق، طبعاً، على دور أخرى ك"المركز الثقافي العربي" و"النهار" و"المدى" و"ورد" و"الساقي" التي تصدر مجلة "أبواب" الفصلية، و"المؤسسة العربية للدراسات" و"مؤسسة دراسات الوحدة العربية" و"دار الجديد" التي توقفت عن اصدار جديدها "موقتاً على ما يبدو" وقد افتقد المعرض شعاراتها الجميلة عن الكتاب وقد اكتفت منها بتعليق اعلان على مدخل الجناح كتب فيه "دار نشر بحاجة الى قراء وقارئات" في ايحاء الى ندرة القراء الحقيقيين الذين يمتلكون شغف القراءة والامكانية المادية والقدرة على الشراء. وإذا كانت هذه الدور ومثيلاتها تشكل امثلة متفاوتة للاحتراف والاستمرار والانشغال بقضية الكتاب كمهنة ثقافية وابداعية، فإن دوراً أخرى تأتي الى معرض الكتاب لتصريف أي شيء وبعض هذه الدور لم تعد تنشر كتباً ولكنها تشارك لتتخلص من "البضاعة" القديمة التي لديها، إضافة الى ان المعرض يوفر فرصة التسويق "لمنتجات أخرى كأشرطة الكاسيت... الكتب الكثيرة تختلط بالأشرطة والاعلانات والموسيقى التي تبثها ادارة المهرجان في شكل مركزي في أرجاء المعرض الواسع الذي تبلغ مساحته خمسة آلاف متر مربع، كل هذا الجو العابق بالتجوال والثرثرة والانتقال بين الأجنحة يخلق احساساً بالمتاهة. لقد سبق لعاشق كتب وقراءة كبورخيس أن نعت المكتبة بالمتاهة وشبه العالم بالمكتبة، ولكن المعرض يضيف صفة اضافية الى ذلك وهي صفة السوق. هذه الصفة التي تعني الازدحام والضجيج. والأجنحة التي تشهد ازدحاماً غالباً ما تحتوي على الكتب العلمية والدينية. معرض بيروت، في النهاية، يشبه غيره من معارض الكتب العربية، الإصرار على اقامته يترافق مع الشكوى من صعوبات النشر والتوزيع وانحسار القراءة... الخ الخ.