صوت السلاح الآن في كل مكان. طبول الحرب تقرع. الجيوش تتحرك والتحالفات تقوم وتتفسخ. زعماء العالم يدلون بالتصريحات وخبراء الاستراتيجيا يضعون الخطط والصحافيون يستدعون كيفما اتفق الى استوديوهات التلفزة وكل منهم يقول ما عنده. وهناك التلفزة لتستوعب كل ذلك. التلفزة الملونة الصاخبة المهتاجة والمهيِّجة. التلفزة التي تشعر ان اليوم هو يومها وعليها، إذاً، ان تبذل أقصى ما في إمكانها: التحليلات تتبدى مخطئة؟ لا بأس، تسارع الأحداث سوف ينسي الجمهور هذا كله. الأفكار تغلب عليها الأماني؟ لا بأس. إن لهذا كله جمهوراً عريضاً. التحليلات و"التسريبات الآتية من مصادر موثوقة" تسفر عن استخدام ضيق للخيال؟ ربما... لكن هذا جزء من قواعد اللعبة. العالم اليوم، كما تبدو صورته من على الشاشات، على شفير حرب جديدة، حرب يسارع البعض الى ترقيمها: إنها الثالثة. كل هذا واقعي وليس فيه من جديد. مرة كل عشر سنوات على الأقل يأتي الواقع ليقلد السينما. تأتي الحقيقة الصادمة لتقول كم ان كل ما يمكن ان يتخيله الفنانون، لا يعدو ان يكون لعبة اطفال امام ما قد يحدث فعلاً. بقعة من الأرض وما نصفه هنا هو ما يحدث حقاً. العالم الآن في صخب، وعيون اهله شاخصة نحو بقعة من الأرض كانت، الى اسابيع قليلة، منسية لا يبالي بها احد. وفجأة صارت تلك البقعة في المقدمة. وصار للمسيطرين عليها، كما لأهلها، كما لضيوفهم، وجوه وأسماء. في الوقت نفسه ينسى كثيرون تقريباً، ان العنصر الحدثي المحرك لذلك كله هو هناك في نيويورك، المدينة/ العالم بامتياز، حيث انتزعت من تحت الأنقاض بضع مئات من جثث عرِّف اصحابها، وصار مشهد الدمار العظيم الذي خلفه نسف برجي مركز التجارة العالمي مجرد تكرار. ترى، هل يتذكر احد بعد ان تحت هذا الخراب العظيم ان ثمة نحو ستة آلاف شخص دفنوا، هكذا في دقائق وصاروا بلا وجوه، بلا أسماء، بلا تاريخ، بلا ماضٍ وبلا هوية؟ إنها اللعبة مقلوبة. صاحب العالم صار رقماً مجهولاً. وللشرير هوية واضحة. هل في هذا فقط تبدو الحقيقة مختلفة عن صورتها القديمة المفترضة؟ السينما في الميدان يقيناً أن كل ما حدث خلال الأسابيع القليلة الماضية احال الواقع الى السينما، ولا يزال يفعل. ولكن لماذا عجزت السينما دائماً عن ان تكون أقوى من الواقع، وأكثر قسوة منه؟ ولنتصور هنا: في فيلم "فولكانو" الذي يتخيل انفجارين بركانيين متتاليين، في مدينة اميركية اخرى هي لوس انجليس. يفيدنا السيناريو عند النهاية، ان كل ما شاهدناه من دمار ورعب وخوف واصطدامات على مدى ساعتي الفيلم، لم يسفر عن سقوط اكثر من مئة ضحية. ولنقارن مع الستة آلاف الذين سقطوا في نيويورك قبل اسابيع قليلة! هل الفارق يكمن في ان السينما تعجز عن تخيل كل ذلك العدد الكبير من الضحايا؟ أبداً... كل ما في الأمر ان السينما، حتى حين تجعل من الكارثة موضوعاً لها، تريد ان تبدو في نهاية الأمر مُطَمْئنة. تلك هي وظيفتها، وخصوصاً حين تكون شعبية موجهة الى الجمهور العريض. و"سينما الكوارث" هي من هذا النوع. ونستخدم هنا تعبير "سينما الكوارث" لأن النوع موجود، ووجد دائماً، ويقبل الجمهور على أفلامه بشغف. ولطالما انكب علم الاجتماع على هذا النوع يدرسه، ليس جمالياً وفنياً طبعاً، وإنما من ناحية الأسباب التي تدفع الجمهور الى الرغبة في مشاهدة طائرات مدنية تنفجر، أو تهدد بالانفجار، وأبراج تتهاوى، وحرائق تلتهم الأخضر واليابس، وزلازل تتتابع، وعناصر الطبيعة تفلت من عقالها، وأوبئة تنتشر. إنها كلها عناصر نوع سينمائي قائم في ذاته، قديم قدم فن السينما نفسه. بدأ مع الزمن الذي تنبه فيه السينمائيون الى قوة الصورة وتأثيرها. ذلك ان الأدب المكتوب بمحدودية اللغة والشعر والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى تبقى غير قادرة على ايصال حس الكارثة الى المتلقي. السينما وحدها تقدر على هذا. وهي، مع ازدهار المؤثرات والخدع السينمائية والتقنيات تبدو اكثر قدرة على هذا. يمكن الفيلم، طبعاً، ان يرفع عدد الضحايا من عشرة الى عشرة ملايين. وليس الإمكان التقني على الإقناع بهذا، هو ما يعوزه. ما يحول دونه ودون هذا، هو قدرة الأذهان - لدى الجمهور - على التحمل، من ناحية، ومن ناحية ثانية تطمح السينما لأن تجعل من نفسها، ولا سيما السينما الهوليوودية الشعبية، داعية أخلاقياً، واعظاً. ذلك ان سينما الكوارث، ومهما كان شأن طبيعة الكارثة سواء حصلت بسبب خطأ بشري أو ممارسة قوى شريرة، أو عناصر طبيعية، هي سينما دينية في المقام الأول: سينما ذات ارتباط مباشر بمفهوم الخطيئة والعقاب والثواب. ومن هنا على النتيجة ان تكون دائماً واحدة من اثنتين، فإما ان تبقي الضحايا مجهولي الهوية، مغفلي الاسماء، وإما ان تحددهم، فإذا بهم اولئك الذين مارسوا الشر والغطرسة طوال ساعتي الفيلم. وحسبنا هنا ان نتذكر كيف انه في افلام كوارث الطائرات، حين تكون هذه مخطوفة، يقوم الخاطفون باختيار ضحية اولى لهم، لكي يقنعوا بقتلها، مجابهيهم، بجدية تهديداتهم وتكون الضحية الأولى دائماً شخصاً شريراً أو سخيفاً ثرثاراً. ففي فيلم "البرج الجهنمي" مثلاً حين يتم إنقاذ مجموعة من العالقين في الطوابق المحترقة من طريق استخدام مصعد، يقوم السيناريو في كل بساطة، برمي المرأة الشريرة من اعلى لتموت دون غيرها. الأشرار والطيبون في السينما يفرق السيناريو بين مصير الأشرار ومصير الطيبين، وهذا ضروري لمسيرة الفيلم ولكي تكون نهايته "مخففة" المأسوية. أما في الواقع فالصورة تختلف. ترى كم هناك من طيبين وأشرار بين الآلاف المطمورين الآن تحت ركام برجي مركز التجارة العالمي وبين ركاب الطائرات؟ وحتى الوجوه التي وزعت صوراً من جانب اجهزة التحقيق الأميركية على افتراض انها وجوه الأشرار الخاطفين، هل ثمة بينها، بنظرات اصحابها الهادئة، من يحمل السمات المضادة لشريري السينما؟ بعد هذا نعود الى السؤال الدائم: من يقلد من؟ السينما ام الحياة؟ منذ جرائم 11 ايلول سبتمبر الفائت، جرى الحديث كثيراً عن التشابه المدهش واللئيم بين صورة الأحداث، والكثير من الأفلام الكوارثية التي سبق لهوليوود ان أنتجتها. وكان السؤال الكبير: هل الأمر مجرد مصادفة؟ توارد خواطر؟ هل تمكنت السينما سينما كوارث الطائرات، وسينما الأبراج المحترقة والمدن المداهمة من ان تتنبأ حقاً بما حدث؟ نرجح العكس. نرجح ان الخاطفين والذين خططوا لهم، حتى وإن كانوا من الأصوليين المتطرفين الذين لا يحبون السينما ولا يحبون اي فن على الإطلاق، شاهدوا تلك الأفلام ودرسوها جيداً. استوعبوا دروسها ووصل بهم الأمر حتى الى تجنب "أخطاء" وقع فيها خاطفون سينمائيون قبلهم وأفشلت مهمة هؤلاء الأخيرين. وهذا الاستنتاج يمكن ان يصل إليه بهدوء اي متفرج على عدد كبير من الأفلام. تقليد ام إفادة كل شيء هنا، في واقع ما حدث بدا محسوباً بدقة، لا ليقلد السينما، بل ليفيد مما لديها. ومن هنا كان اختيار نيويورك للضربة الرئيسة - مع ضربة "اكسسوارية" في واشنطن وربما في غيرها - ذا دلالة. كما كان ذا دلالة ايضاً، اختيار برجي مركز التجارة العالمي. فالسينما قالت منذ زمن بعيد منذ كينغ كونغ، مثلاً ان النقطة الأضعف هي النقطة الأعلى في المدينة. النقطة الأعلى هي الرمز، رمز القوة ورمز الحضارة ورمز الغطرسة المدينية التي طالما كرهها اهل السهوب !. وهنا إذا ما قاربنا، في تفكيرها بين السينما والطائرة والبرج، وجدنا انفسنا في قلب الحداثة، في قلب القرن العشرين. الصورة نفسها، ولكن في دلالات اخرى ومقلوبة، تطالعنا في فيلم "كينغ كونغ": هنا ايضاً لدينا الطائرات والبرج والسينما... في استخدامات مختلفة. فالوحش كينغ كونغ عملاق بمشاعر آدمية يؤتى به من أدغاله ليصبح فرجة استعراض. سينما، لكنه يتمرد على واقعه ويختطف تلك التي احبها، وحبها سيكون سبب دماره، ويهرب صاعداً الى اعلى البرج امباير ستايت في نيويورك نفسها. إذاً، تتخذ السلطات قرارها: لا بد من ضربة بالطائرات. حدث هذا قبل ان يقام برجا مركز التجارة العالمي. ولكن ايضاً، قبل ان يفرغ الإنسان من احاسيسه. الكارثة في "كينغ كونغ" تحدث بسبب الحب، وفي إطار تفكير بيئوي محدد - يرمز إليه اقتلاع الوحش من جذوره ورميه في "أدغال" المدينة - والضحية يكون الوحش نفسه، إذ حتى ولو أثير تعاطفنا معه بعض الشيء، يجب ألا ينجو من العقاب لخرقه قواعد العيش المديني وتجروئه على رمز الحضارة البرج. اللعبة حين تنقلب ترى، أفليس في إمكاننا ان نقول ان "اللعبة" انقلبت هنا تماماً. وكأن الوحش كينغ كونغ قام ينتقم من الذين ارادوا تمدينه على طريقتهم وانتهى بهم الأمر الى تدميره. قام إذاً، واستخدم الطائرات التي دمرته ليدمر بها، ما لم تدمره الطائرات: البرجين، رمز المدنية التي تعادي كل القيم البدائية الاسترخائية التي يؤمن بها؟ لا يمكن التحليل ان يوصل الى هذا النوع من الافتراض والوضوح. ولكن لنعترف بأن المقارنة تحمل من عناصر الإغراء ما تحمل، حتى في الوعي الباطني ل"الوحش" القائم من دماره، ليدمر نفسه من جديد، مدمراً معه ادوات هلاكه. لقد كان فيلم "كينغ كونغ" المحقَّق في العام 1933، واحداً من أولى الأفلام الضخمة التي جرؤت على الحديث عن "الكوارث الجماعية". ومع هذا لا ننسينّ انه، أولاً وأخيراً، فيلم عن الحب. وعن الخيبة. كل هذا يبدو اليوم بعيداً جداً. إذ طوال تاريخها بعد ذلك لم تتوقف السينما، وقد صارت اكثر نضجاً، اي أكثر لؤماً، عن العودة الى أفلام الكوارث، ولكن من دون ان تصل في قوتها التعبيرية الى ما وصلته آخر "إنتاجات" المخيلة البشرية في شرها: احداث 11 ايلول. ومع هذا يمكن القول ان العناصر الإيديولوجية في الحالات جميعها، مجتمعة تعبر عن ذاتها بقوة. ونقول "الإيديولوجية" هنا، بالتحديد لأن علم الاجتماع يفيدنا ان افلام الكوارث، لئن أطلت طوال تاريخ السينما، فإن زمن طلاّتها لم يكن مصادفة. ففي الخمسينات - ونتحدث هنا دائماً عن السينما الأميركية - كانت السينما لا تزال في براءاتها الأولى تعيش سعادة انتهاء الحرب العالمية الثانية واستحالة الدمار المتبادل، أو الشامل، في ظل حرب باردة سادتها نظريات الردع المتبادل. في ذلك الزمن كان المجتمع الأميركي لا يزال سعيداً واثقاً من نفسه، بالكاد يريد ان يخرج من عزلته. لاحقاً، في ظل حرب فييتنام وووتر غيت، وتحول المناضلين بالتدريج الى مناضلين بيئويين، شهدنا ازدهار سينما الكوارث: سينما تعبّر من ناحية عن خوف الإنسان الأميركي وقد صار في قلب الحضارة المادية المستلبة - بكسر اللام - خارجاً من عزلته مرمياً وسط مخاوفه، وتعبّر من ناحية اخرى عن نظرة دينية - خطيئاوية - الى الكون، تؤمن بالثواب والعقاب. ومن هنا ذلك الانطباع الذي تحدثنا عنه، بمفاهيم الخير والشر. فالكوارث الطبيعية، أو نصف الطبيعية/ نصف البشرية، يكون ضحاياها، إما المتغطرسون أو رجال السلطة الرافضون للإنصات الى صوت العقل، أو العلماء والمهندسون الذين لا يراعون الاعتبارات الإنسانية في إنجازاتهم أفلام مثل "البرج الجهنمي" و"زلزال" و"مطار". فجأة صار للشرير وجه، لكن الوقت كان ابكر من ان يعطي ذلك الشرير صورة خاطف أو مدمّر عن قصد. هذا العنصر الجديد، كان عليه ان ينتظر عمليات خطف الطائرات الشهيرة في السبعينات قبل ان يظهر. ايديولوجية الكوارث بعد ذلك هدأ هذا النوع بعض الشيء. لكنه سرعان ما قام من رماده في التسعينات، ولكن ضمن آفاق ايديولوجية مختلفة تماماً. فمع حرب الخليج الثانية، ومع استفراد الولاياتالمتحدة بزعامة "النظام العالمي الجديد" وفي وقت كان مفكرو هذا النظام يتحدثون عن "نهاية التاريخ" كان الأميركي يتساءل عن ثمن نزعته الكوزموبوليتية الجديدة. وكان يبحث عن عدو جديد، متخيل ولكن انطلاقاً من صور نمطية باتت معهودة. غير ان النهايات المعتدلة والسعيدة في مثل هذه الأفلام من "العالم المفقود" لسبيلبرغ الى "يوم الاستقلال" وصولاً حتى "تايتانيك" و"فولكانو" و"الدوامة" وعشرات الشرائط غيرها، هذه النهايات كانت غايتها ان تطمئن الأميركي الى قوته، والى تضامنه، وإلى أن الكارثة، حتى إن اتت، ستصيب الأشرار وحدهم. فإن مات ابرياء، سيكونون من دون اسماء ووجوه. اخيراً في أيلول، اتت تلك الكارثة. اتت من حيث لم يتوقع احد، وكان من شأن كثيرين ان يتوقعوا. واليوم، ونحن في خضم هذه الأحداث، وما يمكن ان ينتج عنها، ثمة ألوف الوجوه الممحية والهويات الضائعة مطمورة، وهناك احتمال ان تطمر الحرب ان اندلعت ضد افغانستان، ألوفاً من الوجوه غيرها. وفي الحالين، يجب ان تبقى الهويات مجهولة: أعداد بلا قبور ولا أسماء، فذلك وحده يخفف من هول الكارثة. ولنتذكر هنا كيف انه بعد حصول جريمة البرجين، بأيام، ظل الألم عاماً، تجريدياً وأخلاقياً، تقطعه صورة اهل ضحية من هنا، واسم ضحية من هناك. ولكن حين نشرت اسماء ركاب الطائرات وعناوينهم - من الركاب المدنيين الضحايا، لا الخاطفين - تبدل الأمر تماماً. وزادت حدة الغضب ألف مرة. انتقلنا مباشرة من التخيلي الى الواقعي وضَعُف الحديث عن علاقة ما حدث بالسينما. ففي السينما يسود ملكوت الفاعل المعروف، والضحية المجهول، لخير الجميع. اما في الحياة الحقيقية فالعكس افضل. وإلا فكيف لنا ان نصف الدهشة والذهول اللذين سادا منذ نشرت صور الفاعلين... الخاطفين على الملأ؟