أتذكرون كيف كان بيغ برازر الشقيق الأكبر؟ لا لست اتكلم عما يجري اليوم في سماء افغانستان. انني أقصد فقط هذا البرنامج التافه الذي احتل شاشاتنا الصغيرة طوال الربيع والصيف المنصرمين. وذلك اينما توجهنا في العالم. حتى في دولنا العربية كانت الصحون اللاقطة تعيدنا الى عالم بيغ برازر. كم حاولنا خلسة ان نشاهد حلقاته، كم حاولنا فهم ما الذي يجعل الملايين من المشاهدين يتعلقون بشخصيات بيغ برازر، ثم دب الملل فينا بعد دقائق من التتبع. نتذكر كيف شتمنا هذا البرنامج ولعننا سخافته، كيف وكيف وكيف... اليوم رؤية أي صورة لبطل ثانوي من بيغ برازر، وقد فقدت بريقها على جدار منسي، تعيد الينا الحنين الى زمن الحياة الطبيعية، الى "الأيام الجميلة"، اذا ما قورنت بوضعنا الحالي. نلعن خرافاتنا القروسطية، بينما تحاصرنا هواجس من العصور ذاتها تضعنا أمامها المحطات الغربية بخبرائها ومحلليها السياسيين والمختصين بالشؤون الاسلامية طالما ليس هناك من صور، وطالما يجب ملء هذا الفراغ بين الحدث العالمي وانعدام صوره. هل نحن أمام إعادة اعلامية لحرب الخليج؟ ليس تماماً، خصوصاً ان سي.ان.ان الجديدة غدت عربية تدخل عنوة مجتمعات العالم بأحرفها العربية المبهمة وكأنها تقول اننا هنا، هذه صورنا واذا رفضتومها فما من شيء آخر معروض عليكم. وبالفعل اننا داخل بيغ برازر. فالمسلسل لم يكن لديه أية صورة جديدة. كنا نركض لنرى بعض الشبان جالسين على مقاعد يتحدثون عن امور لا تعنينا، ولا تدخل في اطار درامي لقصة ما. واليوم بنفس اللهفة وبغير حياء، نهرول، كلما سنحت الفرصة، نحو شاشتنا الصغيرة لرؤية ماذا؟ خرائط ملتقطة من الجو تشبه نشرات الاحوال الجوية، صور خضراء يتخللها بين الفينة والأخرى خط ابيض مفاده ان سهماً اخترق سماء كابول الخضراء؟ ديكور بيغ برازر الذي لا تنجح سي.ان.ان في اعادة بنائه، تقدمه "قناة الجزيرة" اليوم. ابطال المسلسل هم اليوم ابن لادن وقاعدته. فتارة نراهم جماعة يخاطبون العالم ويتوعدونه، وطوراً تلتقطهم "الجزيرة" فرداً فرداً، وكأنهم في ساعة الاعتراف. غير ان خطابهم يبقى ذاته: مزيد من التوعد ومحاولة تغطيسنا باسم القضايا النبيلة وبتحليلات تطاول الغرائز اكثر من العقول. وهذا ما يُعجب المشاهد، ليس فقط في العالم العربي، بل ايضاً المشاهد العالمي. بيغ برازر ابن لادن اكثر تشويقاً من المسلسلين الاميركي والبريطاني: بوش وبلير يختارون بدقة كلماتهم، بعد ان خدشت كلمة Crusade أحاسيس الكثيرين. يلعبون على حركات الوجه: ابتسامة المنتصر، جدية المسؤول، عبسة الانساني، لهجة المطمئن للنتائج والمشاهد ينتقل من الوجه الى قبّة الرقبة: حمراء أم زرقاء، هل ستتغير كل يوم؟ أما بن لادن، فيختار ساعة مروره على التلفزيزن "بثوا هذه الفيديو/ الكاسيت بعد بداية القصف"، رسالته الى الجزيرة. ثم ان ديكور بن لادن اكثر اغراء: بين العمائم التي تحيطه نرى فانوساً وحقيبة سوداء وبعض الأسلحة المرمية جانباً. رموز لحرب طويلة الأمد. ولكن من منا لا يزال يصدق ان حروبنا طويلة الأمد؟ بيد ان التحليلات التي تطاول الغرائز ليست حكراً على بن لادن أو على أية مجموعة أصولية في العالم. فالتلفزيونات الغربية، لافتقارها الى المادة والى المختصين في شؤون السياسة الدولية معظم المذيعين يظنون ان باكستان دولة عربية... غالت في تحريك غرائز مشاهديها. الانفجارات الاميركية تبعها بعد أيام انفجار مصن كيماوي في مدينة تولوز جنوب غرب فرنسا. وعلى رغم تأكيد التحقيقات ان ما جرى هو بنسبة 99.99 في المئةحادث وليس عملية ارهابية، ظلت الصحف، بما فيها "لوموند"، تشكك بهذه الرواية، فيما ولتلفزيونات، وعبر تحقيقات غريبة، تؤكد هذا التشكيك. وهكذا الى ان قدمت احدى مجلات اليمين الأقصى لكي نميزه عن اليمين المتطرف "فالور اكتويل" اطروحة تؤكد فيها ان ما جرى كان عملاً ارهابياً اسلامياً. فالمجلة المذكورة، التي خصصت هذه السنة غلافين: مرة للرئيس اميل لحود خلال زيارته فرنسا، واخرى للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي يحارب الاسلاميين... وجدت ان بين قتلى انفجار المعمل شاباً تونسياً كان يرتدي عدة ثياب داخلية، فأيقنت انه ارهابي اسلامي، وان لبس عدة سراويل هو ما يفعله الانتحاري الاسلامي. لماذا؟ بالطبع لأن الانتحاري قد وُعد بالجنة، ولذلك يريد ان يحافظ على كامل جسمه صالحاً للقاء الحوريات في السماء!!! هذا الكلام التخريفي الذي يظهر هواجس الغرب ونمط التفكير في ما خص العرب والمسلمين، ظل طوال أربعة ايام تتناقله الصحف والاذاعات ومحطات التلفزيون. وغدا القول ان ارتداء سراويل عدة ميزة اسلامية كلاماً قاطعاً. الى ان جددت التحقيقات تأكيدها على ان ما جرى كان حادثاً. اضف الى ذلك خبراء ومثقفي التلفزيون الفرنسي الذين تكلموا على الحرب التي ستمتد الى اليمن، بسبب اصول بن لادن، ثم انعشوا مخيلة المشاهد بلامهم عن قبائل يهودية عدة في افغانستان. أما مذيعو التلفزيون ففقدوا أدنى معاني اللياقة في مقابلاتهم لمسلمين، وكل ذلك باسم العلم ضد الجهل والخير ضد الشر. مارك صايغ