} تستعد واشنطن لاستقبال الرئيس الجمهوري في وقت تودع الرئيس الديموقراطي في فضاء مشحون بالانقسامات التي يحاول الرئيس المنتخب اصلاحها بالتعيينات. تعتبر الانتخابات الأميركية الرئاسية لعام 2000 غير عادية لأكثر من سبب. فمن جهة، لم يعرف الأميركيون منذ سنة 1776 انتخابات رئاسية تقارب فيها جدّاً المترشحان في عدد الأصوات التي تحصلا عليها من الناخبين. ومن جهة أخرى، فإن تأخير الاعلان عن المرشح الفائز بعد انتهاء الانتخابات مباشرة ظاهرةٌ نادرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية. فمنذ أكثر من قرن وقع ما يُشبه ما عرفته انتخابات هذا العام. ففي انتخابات سنة 1876 فاز المرشح الجمهوري روثر فورد هايز بالرئاسة على المرشح الديموقراطي سامويل تلدن، ولكن لم يتم الإعلان رسمياً عن انتصار هايز إلاّ في آذار مارس 1877. أي ان تأخير معرفة اسم الرئيس الجديد دام أقل من أربعة شهور في حين تأخرت معرفة اسم الرئيس الجديد المنتخب بوش في انتخابات عام 2000 بما يُقارب الخمسة أسابيع أو 36 يوماً بالتحديد. أصوات فلوريدا في يوم الانتخابات في تشرين الثاني نوفمبر تَسرَّعَت في المساء بعض محطات التلفزيون فأعلنت ان غور فاز بأصوات ناخبي ولاية فلوريدا. وتراجعت المحطات بعد حين فنفت ذلك وأعلنت أنَّ بوش هو المنتصر. ثم جاء بعد ذلك احتجاج الناخبين في عدة مناطق من الولاية بأنهم أخطأوا في عملية التصويت بسبب طبيعة إرشادات التصويت في بطاقات التصويت نفسها. وكان ذلك على حساب غور. واشتكى الأميركيون السود على الخصوص بأن أصواتهم لم يقع عَدُّها أو أنهم لم يتمكنوا من التصويت. ثم ظهرت أخطاء العَدِّ عند آلات العَدِّ التي تستقبل بطاقات الناخبين لعدها بسرعة. وهكذا جاءت مطالبة غور وحزبه بضرورة عَدِّ كل صوت لناخبين الولاية وبالطريقة اليدوية في الأماكن التي تتطلب ذلك. وعارض الجمهوريون اعادة حساب الأصوات إذ تبين ان العدَّ اليدوي خاصة كان يعمل لمصلحة غور وذلك برفع عدد الأصوات التي تحصل عليها في ولاية فلوريدا. ويمكن تسمية الخلاف بين الطرفين بأنه من نوع عِدْ/ لا تَعِدْ. ولحسم الخلاف الحاد بين المرشحين ومناصريهم لجأ غور وفريقه الى قضاء الولاية بينما استنجد بوش وأنصاره بمحاكم ولاية فلوريدا وخصوصاً بالمحكمة الفيديرالية العليا. فأصدرت هذه الأخيرة أحكاماً مرتين كانت عموماً لمصلحة بوش ما أدى في نهاية الأمر بغور الى الاعتراف على مضض بقبول أن يصبح بوش الرئيس المنتخب. وهذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها المحكمة الفيديرالية في الانتخابات الرئاسية وتُمكن أحد المترشحين من الفوز بمنصب الرئاسة في الولاياتالمتحدة. أميركا المنقسمة ان العبارة التي يرددها الناس ووسائل الإعلام قبل الإعلان عن اسم الرئيس الجديد في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2000 وبعده هي عبارة بلد منقسم على نفسه: ويتجلى هذا الانقسام في ثلاثة ملامح رئيسية: 1 - صوّت نصف الناخبين تقريباً لمصلحة بوش بينما تحصّل غور على أكثر من نصف الأصوات بقليل. 2 - يوجد تساوٍ بين عدد الممثلين للحزبين الجمهوري والديموقراطي في مجلس الشيوخ الجديد الذي يبدأ عمله في مطلع العام الجديد 2001. 3 - يكاد يكون هناك انقسام كامل بين القضاة التسعة للمحكمة الفيديرالية العليا في اصدار حكمهم على عملية استئناف عدّ الأصوات في ولاية فلوريدا التي أَمَرَتْ بها المحكمة العليا في هذه الولاية. فقد صوّت خمسة من قضاة المحكمة العليا ضدّ استئناف عملية عَدِّ الأصوات تلك وصوّت القضاة الأربعة الباقون لمصلحة تزكية عملية استئناف عدِّ الأصوات. وهكذا وُضع حد لفصام عدِّ الأصوات بحكم غالبية هذه السلطة القضائية العليا التي أنهت النزاع بين المترشحين وسلمت مفاتيح البيت الأبيض الى الرئيس المنتخب الجديد: جورج وليام بوش. وقد تعرض هذا الحكم الى انتقادات من داخل المحكمة الفيديرالية العليا ومن خارجها. فقد شَنَّ القاضي ستيفن أحد القضاة الأربعة المعارضين لحكم هذه المحكمة هجوماً شرساً على مؤسسة القضاء هذه فأكد أن المحكمة الفيديرالية العليا قد أضرت بنفسها كمؤسسة قضائية عليا وأحدثت جروحاً في جسم الأمة الأميركية... وبالتالي، فالمحكمة بحكمها هذا لم تعمل لا لمصلحة نفسها ولا لمصلحة البلاد. أمّا غور فلم يخف مشاعر الخيبة الكبيرة إزاء حكم المحكمة لصالح بوش فصرح في كلمة الاعتراف بالرئيس المنتخب الجديد بأنه لا يوافق بشدة ما توصلت اليه المحكمة من حكم. وقد علّق دنيال شور، أحد رجال الإعلام المشهورين في الولاياتالمتحدة، بأن حكم المحكمة سيفقدها الكثير من الهيبة في المجتمع الاميركي كما فقدت سلطتا الرئاسة الأميركية ومجلس الشيوخ هيبتهم من قبل. ووسط هذا الانقسام المريع وازدياد فقدان الثقة بين الأميركيين في مؤسساتهم الكبرى جَنَّدَتْ وسائل الإعلام نفسها لتقديم برامج ونشر مقالات حول الوسائل التي ينبغي تبنيها لعلاج ومداواة ما تسميها وسائل الإعلام هذه بالبلد الجريح. فيرى الكثيرون ان دور الرئيس الجديد حاسم في كسب رهان التراضي بين الأميركيين. فالحاجة ماسة إذاً لكي يعمل بوش على تشكيل ادارة حكم جديدة قادرة على التعاون الجاد والمثمر مع كل الأطراف. وبنجاح تلك الجهود يستطيع بوش أن يعزز شرعية رئاسته وسلطته بين غالبية الشعب الأميركي. سلبيات الانتخابات من الواضح ان مجريات أحداث الانتخابات الأميركية لعام 2000 أثارت وتثير مجموعة من التساؤلات حول جوهر المسار الديموقراطي الذي ينادي. بعدّ صوت كل ناخب واتخاذ السلطة المشرفة على الانتخابات موقف الحياد الكامل من مترشحي الأحزاب. فمن ناحية، هناك اتهامات متكررة خصوصاً من طرف السود، كما أشرنا من قبل بأن أصواتهم لم يقع عدُّهَا في بعض مناطق ولاية فلوريدا. وقد قاد القس جاسي جاكسون تيار الاحتجاج وشارك في مظاهرات قام بها السود في هذه الولاية للتعبير عن غضبهم من جراء حرمانهم من التصويت أو عدم عَدِّ أصواتهم انتهاكاً لمبادئ الدستور الأميركي. واتصل القس جاكسون هاتفياً بالرئيس المنتخب بوش في اليوم الثاني بعد الاعلان عن فوزه بمنصب الرئيس الجديد للولايات المتحدة. وأكد جاكسون انه عبَّر لبوش عن مآخذ حركة الحقوق المدنية، التي يرأسها، من حرمان الأميركيين السود من حقوقهم الدستورية في الإدلاء بأصواتهم وعَدِّها. وأشار غور في كلمة التنحي بوضوح وقوة الى تضامنه مع هؤلاء الذين حرموا من التصويت أو لم تحسب أصواتهم. وفي هذا الصدد قالت احدى الكاتبات الأميركيات السوداء أن العالم يعرف اليوم أن أصوات السود الأميركيين يقع اهمالها، أما السود فيعرفون ذلك من قبل. ولعل غضب جاكسون على هذا الوضع المهين للسود ازدادت حدته عندما حكمت المحكمة الفيديرالية العُليا بعدم اعادة عملية عَدِّ الأصوات في ولاية فلوريدا كما نادت بذلك المحكمة العليا لولاية فلوريدا نفسها. فاعتبر جاكسون حكم المحكمة الفيديرالية العليا ضرباً من الانقلاب ضدّ السود. ومن ناحية ثانية، كشفت التحقيقات في مسار الانتخابات في ولاية فلوريدا ان بعض أفراد سلطة الاشراف على الانتخابات سمحت ببعض التجاوزات لمصلحة الحزب الجمهوري. ولا بد أن يكون لمثل هذين الحدثين انعكاسات سلبية عن الصورة المثالية للديموقراطية ومبادئها في المجتمع. فمبادئ حرية الانتخاب والحرص على عدِّ صوت كل ناخب وموقف الحياد الكامل لسلطة الإشراف من كل الأطراف المترشحة لم تخرج سالمة من مدِّ وجزر عملية الانتخابات في تلك الظروف العاصفة. فاتضح للكثيرين على الساحة الأميركية أن هناك فعلاً فرقاً بين القول والفعل في تطبيق مبادئ الديموقراطية في الواقع الملموس. وكنتيجة لذلك كثر الحديث في وسائل الإعلام الأميركية على ان النظام الديموقراطي ليس بالنظام الكامل الذي لا تشوبه شائبة في عملية الانتخابات وغيرها من شؤون الحياة المجتمعية. أمّا على المستوى العالمي فيبدو ان انعكاسات الانتخابات الأميركية لعام 2000 تغلبُ عليها السلبيات. ففي أوروبا مثلاً، تشير التقارير الإعلامية أن مواطني البلدان الأوروبية لا يكادون يفهمون مجريات أحداث الانتخابات الأميركية لنهاية هذا القرن. فيغلب عليهم القلق والحيرة مما يطالعونه في صحفهم ويشاهدونه على شاشات تلفزاتهم من أخبار عن الانتخابات الأميركية الأمر الذي أدَّى بالبعض منهم الى النظر الى الأميركيين وكأنهم مُراهقون لا يستطيع المرء التنبؤ بما سوف يفعلون في المستقبل. ومن جهة أخرى فهناك من سُرَّ بمجريات هذه الانتخابات. فالبلدان التي لا تُرحب بالديموقراطية في أوطانها لا بُدَّ انها اغتبطت الشيء الكثير لما جرى في هذه الانتخابات من سلبيات تعتبرها، من ناحية، حجة تساعدها على تشديد الحصار على مسيرة الديموقراطية في أقطارها. ومن ناحية أخرى، تجد السلطة الأميركية نفسها في موقف أضعف في دعوتها خصوصاً دول العالم الثالث الى إرساء نُظمٍ ديموقراطية، إذ ان الديموقراطية فقدت الكثير من صدقيتها في المجتمع نفسه بسبب مسار الانتخابات الأخيرة الذي وصفه الكثيرون من الأميركيين بالمسار الانتخابي اللاديموقراطي. الانتخابات والعالم العربي يمكن التعرض الى انعكاسات الانتخابات الأميركية على العرب في ثلاثة ملامح: 1 - تُفيد الدراسات حول انتشار المد الديموقراطي في العالم في الفترة الأخيرة أن الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي هي أقل الأنظمة السياسية في العالم ترحيباً بالممارسة الديموقراطية. أي ان المنطقة العربية تشكو من تخلف ملحوظٍ على مستوى نشر ثقافة الديموقراطية السياسية والعمل بها في الواقع الاجتماعي، وبالتالي، فليس من الغرابة في شيء أن تكون غالبية تلك الأنظمة فرحت بما آلت اليه الانتخابات الأميركية من قصور وممارسات بعيدة عن أخلاقيات ومبادئ الديموقراطية النبيلة. 2 - يمكن التنبؤ بوجود ترحيب عربي عام بفوز المرشح الجمهوري بالرئاسة في الانتخابات الأخيرة. فعلى المستوى الداخلي يبدو ان غالبية الأميركيين العرب صوّتت لمصلحة بوش كرد فعل على التحالف القوي بين اليهود والحزب الديموقراطي وقياداته. ولوحظ ان بوش ذكر الأميركيين العرب بالإسم، أثناء الحملة الانتخابية، مُعرباً عن تعاطفه معهم في نيل حقوقهم الكاملة في المجتمع الأميركي. أما الترحيب المنتظر بين القيادات السياسية في العالم العربي بالرئيس الجمهوري بوش فإن مبرراته سياسية على الأكثر وذات علاقة وطيدة بالصراع العربي الإسرائيلي. فالرئيس الجمهوري أَيْزِنهاور هو الرئيس الوحيد الذي أَجْبَرَ اسرائيل على الانسحاب من الأراضي المصرية عقب العدوان العدوان الثلاثي على مصر في 1952. فهذا الوقوف الحاسم مع الجانب العربي من طرف رئيس جمهوري لم يحدث بين الرؤساء الديموقراطيين منذ نشأة اسرائيل. ومن ثم فالآمال أكبر، في مخيال القيادات السياسية العربية، في الوصول الى حلٍّ عادل للنزاع العربي - الإسرائيلي في ظل قيادة سياسية جمهورية بالبيت الأبيض تملك قوة ضغط أكبر على الطرف الإسرائيلي. وما يزيد في فرحة العرب بالرئيس الجمهوري الجديد هو ان البديل أسوأ بكل المقاييس تقريباً. فلو نجح غور بالرئاسة لازداد الضغط اليهودي على الادارة الأميركية بسبب ان نائب الرئيس غور هو يوسف ليبرمان، وهي أول مرة يُرشح فيها يهودي لهذا المنصب العالي في قمة السلطة السياسية العليا للولايات المتحدة ويُنتظر ان تستغل اسرائيل هذا العامل السياسي الرفيع المستوى لمصلحتها في التعامل بكثير من الحيف والغطرسة مع الفلسطينيين، من جهة، والسوريين من جهة أخرى. 3 - لا تُبشر المعالم الأولى لفريق ادارة بوش بخير بالنسبة لرفع الحصار عن العراق. فالرئيس الجديد ذو رصيد معرفي هزيل بشؤون السياسة الخارجية، وبالتالي سيكون اعتماده كبير جداً على وزير خارجيته كُولِنْ باول الذي قاد حرب الخليج الثانية صحبة وزير الدفاع آنذاك ديك شيني والذي هو اليوم نائب الرئيس لبوش. وليس من غير المنتظر في ظل نائب الرئيس ووزير خارجيته العسكريين أن تُشن هجمات عسكرية جديدة على العراق في الأشهر والسنوات الأربع المقبلة. * أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس الأولى، ومقيم الآن في واشنطن.