الكتاب: سراج الفتنة شعر الكاتب: عبده وازن الناشر: دار النهار - بيروت 2000 بين نصّ "حديقة الحواس" وكتاب "سراج الفتنة" للشاعر عبده وازن مسافة سبعة أعوام تطورت خلالها التجربة التي ما فتئت تتبلور وتنضج. ثمة علاقة خفية بين الكتابين تجعل من الثاني بمثابة ردّ بالكتابة الابداعية نفسها على التهم التي ألصقت بالأول فوقع عليه الحظر ومنع من التداول. ذلك أن النفحة الروحية التي تتفتق من أكمام القصائد ومعظمها قصائد نثر قصيرة لا يمكن أن تصدر عن شاعر يستسيغ الإباحية ويهوى الانتهاك المجاني المحظور. وفي اعتقادنا أن الجسد لا يحضر في كتابته إلا كمصدر لاحساس بالجمال يتولد في النفس فيبعث فيها الحنين إلى جمال آخر أبهى، ويحدث فيها التوتر الخلاق. بهذا المعنى تكون الفتنة وقوداً للنار التي ينبثق منها الضوء، وتتحول من سبب للضلال إلى سراج ينير عتمة الطريق نحو المجهول. فالعنوان الذي يجمع بين الأضداد - "السراج" وهو ينتمي إلى حقل دلالي معروف في الصوفية، و"الفتنة" وهي تتضمن شحنة سيميائية مرتبطة بالشهوة - ويخضع اللغة للعبة الخيال التحويلي، يشير إلى طبيعة التجربة التي تحرك الديوان، وإلى مناخه العام المسيطر" فالتجربة مغامرة معرفية كشفية، والمناخ السائد يتراوح بين الروحانية الصوفية وايروSية من نوع خاص، تسمو بالجسد ليتلألأ بالنور عندما يتحول إلى مرآة للجوهر الخفي، ووسيلة للكشف عما يتجاوز مادية المحسوس. ولعل ذلك واضح في بنية الديوان وهو يتألف من ثلاثة فصول وتتحكم بحركته جدلية هيغلية. ذلك أن التناقض الظاهري بين الفصلين الأول والثاني لا يلبث أن يؤول إلى التكامل أو الوحدة التي تتجلى في الفصل الأخير. فإذا كانت النزعة الصوفية غالبة في القسم الأول حيث تتحول بعض القصائد إلى أناشيد صلاة وطقوس عبادة ص 29، 34، 37، والنزعة الحسية المادية مسيطرة في القسم الثاني حيث يقع جسد المرأة في قلب القصائد، فإن القسم الأخير الذي يقوم على قصيدة طويلة واحدة يصالح بين النزعتين إذ يطلق فيه الشاعر نشيداً على اسم أوفيليا وقد أصبحت رمزاً لجمال الأنوثة حين يحررها الموت من مادية الشهوة ليجعل منها صورة لبهاء الروح عندما تطهرها نار التوق إلى المستحيل. وقد توسل الشاعر لغة الرمز والإشارة التي تفتح فضاء القصيدة فتأخر بالرؤى التي تحمل القارئ إلى الخوض في سر المعنى الكامن في الأغوار. فالعناوين الأساسية تبدو التماعات صور غنية بالشحنات الدلالية: "شجرة النار والريح"، "نجمة الصحو"، "ما لم يقله هاملت في رثاء أوفيليا". الشجرة ليست أليفة، هي شجرة فريدة تلتقي فيها النقائض: النار والريح التي تطفئها" إلى ذلك فهي ترمز إلى وحدة الكون إذ تجتمع فيها عناصره الأربعة: الأرض حيث تضرب جذورها، والماء الذي يسري في جذعها نسغاً يغذي الغصون، والهواء حيث تطلق أذرعتها، والنار التي تلتمع فيها حين تصبح أوراقها مرآة الشمس، أو حين يشتعل منها الخشب فتصير سراجاً منيراً. كذلك ترمز الشجرة التي ترفع قامتها في الفضاء وتمد جسراً بين الأرض والسماء إلى الوحدة بين المادي والروحي، المحسوس واللامحسوس، الواضح والخفي. وللنار في الصورة دلالة تضيء طبيعة التجربة. وهي احتراق في أتون الصبوة لواقع آخر يقوم في بطن الواقع أو في ما وراءه، فالنار المحرقة تطهر بل أكثر من ذلك تحول المادة فيصير المعدن ذهباً كما كان يحلم الباحثون في علم الخيمياء القديم. وتتكامل رمزية الريح مع رمزية النار على رغم التناقض الظاهري بينهما" فالريح قوة تجتاح المادة، وحركة تخرجها من الجمود فتتجاوز ماديتها. و"نجمة الصحو" إنما تشير إلى الحبيبة وقد غدت دليل المسافر، الضوء الذي يبرق في العتمة ليرشده. وهي تلتمع في سماء الحلم فيلتقطها الحالم ليستعيذ بها من حالات صحوه عندما يسدل نور العقل حجبه، وتغمض عين البصيرة. والنجمة صورة محورية في الكتاب وهي تتجلى بأشكال عدة، فهي "نجمة الصبح"، و"نجمة اليقظة"، و"نجمة الكآبة". وتتضح دلالتها إذا وضعت في إطار المسار الكشفي الذي يشكل جوهر الديوان. تسير الى لؤلؤ السر الذي تجلى في عتمة المادة للمغامر في أعماقها، الخارج منها ملفحاً بالنور الذي يترك عليه الغموض بصماته، وهي مجازياً القصيدة، ميراث تخلفه العتمة للهائم بسرها. وكما النجمة، الزهرة رمز متعدد الأبعاد: فهي الحبيبة التي روتها خمرة العين ص 12 ولم تلمسها اليد ص 16، وهي جمال الحقيقة النائمة التي لا تستيقظ إلا إذا نظرت إليها العين، في إشارة واضحة إلى قناعة لدى الشاعر بأن العجيب والخارق والجوهري يحيط بنا ويملأ وجودنا لكننا في غفلتنا لا نراه ولا ننتبه إليه، وحده الرائي يرفع القناع، وحدها عينه تبدد حجب الشمس. تبرر هذه الصلة الخفية بين الزهرة والحقيقة العلاقة التي تربط في الصورة الزهرة بالشمس وبالضوء وبالقربان المقدس. تتحرر الزهرة من ماديتها، فهي لا تتميز بشكل أو بلون، بل بالعطر الذي يفوح منها والذي يجول حقيقتها المادية إلى وجود أثيري، فيصبح حضورها إشارة إلى الغياب الذي يحضر فيها. تصبح الزهرة رمزاً للحضور - الغياب، للجوهر الخفي المقيم في الداخل والذي لا يتجلى إلا ليمعن في استتاره، مؤججاً نار التوق إليه. لذلك فهي زهرة غريبة موحشة ص 26، 27، لا تستطيع اليد أن تقطفها فتذوي كباقي الزهور، وتترك منسية على طاولة ص 35. وربما تكون "وردة الجنة" التي يصبو الشاعر إليها وهو يتمتع بجمال "زهرة الحواس": "لا تخدعيني أيتها الزهرة، يا زهرة الحواس، إنني أبصر أديمك وألمس ماءك السري. وإن قطفتك بيدي فلأشم رحيق السماء التي تخفينها في روحك" ص 42. في هذه العبارات مفتاح للدخول في عالم القصائد التي تنطلق من حدس بالجوهر الروحي القائم في اللاوعي، يغيبه العقل، ويبقيه الوضوح في النسيان، ولا يشرق إلا في ليل الحلم: "لآلئ السماء لا تحتاج إلى الضوء لتخرج من بئر الذكرى. انها هنا منذ أن التمعت زرقة، ويكفيك أن تفتح عينيك على شعاعها لتبصرها" ص 10. يشكل هذا الحدس محطة تحول في وعي الشاعر لذاته فيتولد لديه إحساس بالأنا الأخرى الغامضة التي تسكنه في غفلة منه، ولكنها تشكل حقيقته الأصيلة المتخفية تحت قناع الانا الفردية الواضحة المعالم والحدود. تستيقظ الذات على ثنائيتها وتنقسم الصورة في المرآة بين وجه مظلم يسجنه الأليف والعابر واليومي، وآخر مضيء يقيم في الخفاء ويلفه سحر الغموض: "في المرآة تنظر لترى أن عينيك غيمتان، في ظلهما يستلقي طيفك الغامض" ص 40. فتسعى العين الى أن تخترق المرآة وتكسر جدارها الفاصل بين الأنا في وجودها اليومي، والآخر الذي يرافقها كظل ويقيم فيها جوهراً يعطيها المعنى، ولتستعيد الوحدة الأصلية والانسجام القديم المفقود: "انتظرني لأني من دونك لا أعرف حتى وجهي: معاً سنكون ما كنته وحدي قبل أن تدهمني شمس العالم، معاً سنكون ما كنته وحدك قبل أن أبصرك في عيني، قبل أن أراك تتهادى خلفي حيناً وتحل فيّ حيناً. أيها الظل، أيها الجسد الخفي، أيها الآخر الذي كنته، الآخر الذي سأكونه" ص 17. يعيش كاتب هذا المقطع تجربة شعراء السريالية وقبلهم بودلير ورامبو ونوفاليس وغيرهم من الرومانسيين الألمان. وكذلك المتصوفة المسلمون يشكّلون جميعهم قافلة واحدة على دروب الكشف، ويطلقون نشيد صبوة واحدة لجوهر روحي واحد على اختلاف تجلياته. وتمتد خيوط خفية بين شعره وشعر أدونيس وناديا تويني التي لم تبذل جهداً لتتجاوز بالكتابة إلى الطرف الآخر من المرآة النصوص الشقراء ص 7. يعرف الشاعر في الحلم انخطاف الصوفي: "إذا اختطفك بريق الصبح في غفلة منك لا تنظر وراءك" ص 16، ويعيش حال الشطح Etat de transe: "كصياد عجوز أبتسم لموجة تخترقني" ص 19، "وتتكشف له المعرفة في لحظة يتكثف فيها الوقت تمر كالسهم أو كالشهاب المضيء الذي لا يلبث أن تبتلعه العتمة" ص 32. إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن الطابع الصوفي للديوان لا يختزله كله" ذلك ان فيه غنائية أكيدة، لكنها ليست عغنائية البوح والتعبير المباشر عن المشاعر الشخصية، بل تكشف عن معاناة الذات في مواجهة عالم تعمقت فيه المسافة بين الواقع والمثال، بين الحقيقة وظلها، بين الوجه والقناع، مما يبعث في نفس الشاعر الحزن والألم ص 14، 29، ويسلمه للقلق والأرق ص 30 ويحول الحياة إلى بئر للأحلام المطفأة ص 19. ازاء هذا الواقع المحكوم بالخوف والكآبة، وضد عربات الوقت المتقدم أفقياً نحو هاوية الموت، يقف الشاعر ليرى هشاشة المنظر فيستيقظ من غفلة اليومي ويفتح عينيه واسعتين ليرى الجوهر الأكيد في لحظة يمتد فيها الزمن عمودياً، هي لحظة الكشف الشعري حيث تولد الرؤيا فتخصب القصيدة. كذلك يسائل الشاعر في الديوان القصيدة عن نفسها ويعبر عن مفهومه للكتابة الشعرية. فالقصيدة وحي وكشف وهي حصيلة علاقة جدلية بين الحقيقة الداخلية القائمة في الذات، والحقيقة الخارجية سواء كانت في العالم أو في ما يتجاوزه. ص 14، والحقيقة التي يلتمع فيها سراب لا يمكن امتلاكه، وغالباً ما تعصى على الكلمات التي تكشف عن عجزها فينتصر الصمت: "وها أنت تنزلين كملاك، تصعدين كغيمة، وإن طال انتظاري أمام أوراقي أستسلم لسرابك، للسراب الذي يسبقك دوماً ودوماً تتركينه وراءك على صفحة أشد بياضاً من الموت" ص 14. القصيدة إذاً كتابة محكومة بالفشل لأنها في جوهرها محاولة لامتلاك ما لا يمتلك، للكشف عما لا يكشف، والقول ما يتجاوز في غناه كل قول: "نهضت لتكتب كعادتك كل يوم وحين انحنيت على الأوراق لم تجدها بيضاء كعادتها. كانت شمس تصبغها بدم أزرق. الكلمات حينذاك فقدتها جميعاً وجلست صامتاً تنظر وتنظر حتى غابت عيناك في زرقة الأوراق" ص 22. وليس من مجال هنا لنتوقف عند حضور المرأة - الجسد في الديوان" لكن لا بد من ان نشير إلى أن المرأة تحضر في غالبية القصائد كرمز وأن عريها ليس إلا صورة مجازية لعري الحقيقة، وأن جمال جسدها إشارة الى جمال جسد آخر يتشكل بالكلمات. خيط رفيع يفصل - أو يربط - بين قصيدة الحب وقصيدة التوق والكشف الصوفي، بين المرأة المحبوبة، والحقيقة المعشوقة. ولا يقتصر غنى الديوان على مضمونه وتنوع التجربة التي يكشف عنها، بل يتجلى في جمال الصور الغريبة والمدهشة التي تقيم الصلة بين الحقائق المتباعدة والتي ترتكز على تداخلات الحواس من جهة، وعلى المؤالفة بين المحسوس واللامحسوس من جهة أخرى، وغالباً ما تذكرنا الصور بنظرية المطابقات لبودلير: فلخضرة الأشجار أصوات تسمعها الأذن، وللظلمة رائحة كالأريج ص 43، وللضوء خرير كمياه الساقية. وتتميز الصورة بتكثيف المعنى: "أجراس الضوء تتفتح في الصباح" ص 30، "الليل يهطل فيَّ بلا ضوضاء" ص 31.