ديوان محمد علي شمس الدين «النازلون على الريح» (دار الآداب) هو عصارة تجربة شعرية امتدت على مدى عقود وما فتئت تتطور وتغتني بما يختزنه الشاعر من ثقافة واسعة وما يختمر في وجدانه من مشاعر وما ينبجس في مخيلته من رؤى تبعث الدهشة وتخرج العالم من رتابته. يفاجئك الديوان بدءاً من عنوانه «النازلون على الريح»، عبارة ملتبسة لأنها تقلب المعادلة السائدة التي تقيمها المخيلة بين الريح وأحلام الطيران وما يرتبط بها من إحساس بالحرية والسعادة والتخفف من عبء الهموم، فالحركة هنا هي على العكس هبوط على السطح بل نزول إلى هاوية بلا قاع. بسرعة تتراجع صورة بساط الريح التي تتراءى للمخيلة عند القراءة الأولى لمصلحة تأويل يتأسس على البعد السلبي لرمزية الريح كقوة تدمير وعامل خراب. فالريح تهب مع ركبها من الملمات والشدائد والنزائل. ولعل ما يعطي أرجحية لهذه القراءة ما تطالعنا به القصيدة الأخيرة التي أعطت عنوانها للديوان بأكمله من إحساس بالمرارة والحزن أمام مشهد التهجير والقتل ورياح العنف المجنون: «النازلون على الريح» هم المشردون ضحايا عواصف الاقتتال والصراعات التي ترميهم كأوراق الخريف على الطرق الغريبة: «نشر النازلون على الريح/ أشلاءهم في العراء/ نشروا سراويلهم/ وسراويل أولادهم والنساء/ أوقدوا نارهم من بقايا كراماتهم/ ولم يستريحوا/ فأعينهم شاخصات إلى حيث تعصف ريح الشمال» (ص 163). النازلون على الريح هم كذلك وكما تقول القصيدة نفسها أولئك الآتون من الغيب إلى صحراء تدمر: «قتلوا الشاة/ ناموا وقاموا ولكنهم لم يصلوا/ حفروا فوق سجادة الخيمة البدوية/ أسماءهم بالسكاكين/ أعرفهم واحداً واحداً/ وأعرف من أي كهف الأساطير جاءوا»... الزمن والوجود في الديوان غضب وثورة ومرارة وحزن وإحساس بالخيبة مردّه إلى أسباب موضوعية تتعلق بالواقع المأسوي الراهن، وأخرى ذاتية تتصل بالإحساس بالزمن وبهشاشة الوجود الإنساني في هذا العالم. للتجربة وجوه أربعة: وجدانية، وإبداعية، وصوفية، ووطنية، غالباً ما تتقاطع وتلتقي في القصيدة الواحدة ما يستدعي مقاربة تنأى عن التبسيط لكي تستطيع التقاط ما تختزنه النصوص من كثافة وغنى وما يصب فيها من روافد متنوعة. فالشاعر متجذر في التراث الديني الإسلامي والمسيحي وفي التراث العربي الشعري والصوفي والفلسفي، ومتفاعل مع معاصريه من الشعراء والأدباء، كما أنه واسع الاطلاع على الثقافات الأجنبية. يظهر ذلك جلياً من خلال الرموز والإشارات التي تتضمنها النصوص ومن خلال الإحالات في بعض عناوين القصائد: «المائدة السريالية»، «أربع حركات للسنفونية الرعوية»، (في إشارة إلى رواية الكاتب الفرنسي أندريه جيد)، «أغنية ملاح على نهر الغانج»، «محمد الماغوط»، «خروج قطري بن الفجاءة»، «الحلاج»، «أبو الطيب المتنبي». ما يجعلنا نقول إنه صاحب ثقافة استثنائية، وإن شعره يقدم مثالاً لحوار حقيقي بين الثقافات لطالما كانت الساحة العربية المشرقية مسرحاً له وذلك قبل أن تزدهر منتديات الحوار ومؤتمراته التي غالباً ما تقتصر على الضجيج الإعلامي ولا يكون لها انعكاسات ملموسة على أرض الواقع. يتصدر القصيدة الأولى إهداء: «إلى أبي حامد الغزالي في محنته» في إشارة إلى ذلك الجسر الممدود بين الماضي والحاضر في لحظة تاريخية يسودها التشويش والاضطراب وتختلط الحقائق، وفي لحظة ذاتية يعيشها الشاعر الذي تسرّب إليه الشك في كل ما حوله، بل في معنى الوجود ذاته. فالزمن زمن الخيبة والجدب والأفكار المحنّطة واللغة العقيمة: «حين أخذت إنائي المغلق بين يدي/ وصرت أصب الماء عليه/ وجدت الماء مضى هدرا/ ما نفع الماء المتدفق فوق إناء مغلق» (ص 17)، شعور بالهزيمة والعجز ينتاب الشاعر: «ماذا بيدي؟/ ماذا أفعل؟/... أيامي هلكى/ وسفني غارقة في القاع»، يسببه اختلاط الحقائق والأكاذيب، وبلبلة في سلم القيم، وتشكيك في الثوابت والقناعات: «تتدافع في بابي أسئلة/ وجموع طيورٍ عمياء/ حشود لا أعرف كيف تناسل منها الشك إلي»، فيلجأ إلى عالمه الداخلي يسافر فيه بحثاً عن بوصلة. يدخل في غرفة أحواله، يسائل حدودها من جهة الشرق فيرى «صنوبرة تنشط فيها الغربان»، ومن جهة الغرب فتطالعه شطآن يعذبها سوط الموج». لوحة مظلمة ترسمها الصورة لأن بريق الأمل الذي تبعثه الصنوبرة بغصونها الخضر وقامتها المنتصبة باتجاه السماء، لا يلبث أن تبدده الغربان السود المستوطنة فيها، ونداء الموج إلى سفر واعد بالتجدد يزيد من وطأة الألم على أسرى الشطآن المقيمة في ثباتها. فهل يسعف استحضار الأيام الخوالي لتملأ مساحة الغرفة الحزينة بذكريات العمر الجميل؟ للشاعر حياتان: إحداهما لا يتميز بها عن سائر خلق الله تعيشها الأنا الفردية في يومياتها، وأخرى تتطور في فضاء مغاير، مركّب وسريّ وخاص بامتياز يختبرها الشاعر الخلاق في لحظة إبداعية تختصر الزمن كله. والشاعر بينهما كأنه في برزخ يتنازعه عالمان: العالم الخارجي وهو الواقع بمآسيه وخيباته وأكاذيبه، وعالم الداخل حيث الذات المتسامية على الواقع والمتجاوزة إلى فضاءات الإبداع والصدق والأصالة. إنه سؤال الحقيقة والوهم، سأله من قبل أفلاطون الذي قرّر أن كل ما في هذا العالم إنما هو ظل كاذب لعالم المثل وأجاب عليه النفري في جملته الشهيرة: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وطرحه الفيلسوف الفرنسي باسكال حين اعتبر أن الحياة البشرية ليست سوى لهوٍ يلجأ إليه الإنسان لينسى مأساة وجوده. ليس معنى الوجود، إذاً، داخل الوجود بل يجب البحث عنه في ما هو فوقه أو ما يتجاوزه، أي المافوق عند المتصوفة، والتجربة الإبداعية عند الشعراء. أوجه شبه عدة يمكن رصدها بين التجربة الصوفية والتجربة الشعرية، إلا أن هذه الأخيرة تتميز عن الأولى بأنها في الآن نفسه حضور في قلب العالم وتجاوز له. فالشاعر لا يعتزل الناس ولا ينقطع عن الواقع، بل يستمد منه مادة أولية يعالجها خياله المبدع وفكره الثاقب وإحساسه المرهف ووعيه العميق لتشفّ عن حقيقة سمتها الأساسية أنها لا نهائية مفتوحة على الإمكان. فلنصغ إلى هذه الأبيات التي يصف فيها الشاعر الحالة الإبداعية: «حيلي شتى:/ بين التحديق بأطراف الأشجار وأطراف الموسيقى/ والتحديق بأطراف السيل/ يأتي يجرفني مجرى من كلمات غامضة/ أتبعها حين تؤرقني الأفكار/ ومجراها يبدأ من أذني/ ويدحرجني فيه فأصحو...». هي لغة تستفز الخيال: «أي سيل هذا إن لم يكن سيل القصيدة التي تكسو العالم كثوب يمسك الشاعر بأطرافه، وأية موسيقى هي تلك التي تحدق فيها العين إن لم تكن إيقاعات البيت الذي ترتسم كلماته على الصفحة بعد أن تولد أصواتاً متناغمةً في أذن الشاعر - الموسيقي فتجتاح كيانه كله وتدخله في مناخ النشوة تتويجاً لمسيرة من العناء ومكابدة القلق المخصب، الموت المحيي. تجربتان تتماهى التجربة الشعرية مع التجربة الصوفية من حيث هي مغامرة وبحث في باطن الأشياء والظواهر وتلمس للمعنى الغائب المتخفي تحت القشرة. وينعكس هذا التماهي في لغة الديوان التي تستعير من قاموس الصوفية بعضاً من مفرداتها: النجوى، الدوران، المسالك، الغوث، القميص (قميص الجسد)، والتي تغرف من معين القصص الديني الرموز والصور. ليس الشاعر مجرد شاهد على العصر، بل هو صاحب رسالة خلاصية تقوم على تعرية الحقائق المزيفة وعلى إعادة الاعتبار للإنسان في عصر سمته الأساسية غلبة القوة، وانتصار الباطل على الحق، حتى صار فيه المتمسك بالقيم كالقابض على الجمر. هكذا، يصبح الكشف الشعري بصفته نفاذاً إلى الباطن الخفي، ومصدر إحساس بالجمال، وعامل ارتقاء بالنفس البشرية. ولا بد للشعر كي يكتمل من الموسيقى التي يتقن شمس الدين عزفها على أوتار الحروف، تماماً كما يبرع في فن الإيماء والإشارة: «تنهد الكمان مرةً/ وعاد نحو أمه/ لكي يسيل في أصابع القصب». تختزن هذه العبارات في اقتضابها شحنة رمزية كثيفة تترك للقارئ حرية استجلاء المعنى الهارب والمنفتح على تأويلات عدة. أليس القارىء خلاقاً آخر؟ هذه العلاقة بين القارئ والشاعر المبدع والتي تتأسس على مبدأ الحرية ترتكز على قناعة راسخة بلا نهائية المعنى وبأن الحقيقة التي تتجلى للشاعر لحظة الإبداع لا تلبث أن تكتنفها العتمة وهي أصل وجوهر فيها. هكذا، تبقى ميزة اللغة الشعرية أنها لا تدعي التعبير عن حقائق قاطعة بل تترك المجال واسعاً للاحتمال والمغايرة. فهل يسعف الشعر في هذا الزمن الصعب الذي يشهد التنابذ والعنف وتنامي العصبيات ونزعات الهيمنة، لتغيير الذهنيات وأنماط التفكير فيصبح الحوار ممكناً والقبول بالآخر المختلف حقيقةً معاشة لا مجرد وهم وادعاء؟ أزعم أننا في حاجة إلى إعادة الاعتبار للشعر في شكل خاص، وللإنسانيات في شكل عام في مؤسساتنا التربوية فتتغير النظرة إلى الإنسان وإلى الحقيقة وإلى العالم من حولنا، ونستطيع أن نخرج من أزمة المعنى.