اذا كان فيلم "المصير" الذي حققه يوسف شاهين قبل سنوات قد نقل ابن رشد من رفوف المكتبات واهتمام الأكاديميين والمثقفين، الى صفوف الناس، وصار لفيلسوف قرطبة اعتباراً من عرض الفيلم ملامح الفنان نور الشريف ولهجة مصرية غير مبرزة، فإن هذا لم يعط ابن رشد بعد حقه تماماً. اذ حتى في صفوف الطبقات المتوسطة من المثقفين لا يزال ينظر الى ابن رشد بوصفه فيلسوفاً وبالأحرى شارحاً لفلسفة أرسطو. هكذا دخل الرجل التاريخ بصورة عامة، وهكذا كتب عليه أن يبقى. غير ان الوقت حان للعودة الى وجه آخر من وجوه ابن رشد، وجه أساسي، لعل خير ما يمثله كتابه الأكبر "الكليات في الطب" ذلك الكتاب الذي ينأى بنا بعض الشيء عن شارح ارسطو أو مساجل الغزالي في "تهافت التهافت" والساعي الى الجمع بين الحكمة والشريعة في "فصل المقال". "الكليات" كتاب عن الطب. ولعلنا لا نغالي اذا قلنا انه كان كتاب "الطب" وحكمة الطب الأساس، حتى في أوروبا نهاية العصور الوسطى، إذ نعرف اليوم ان كليات الجامعات الأوروبية ظلت تدرس "الكليات" حتى نهايات القرن السادس عشر، من ناحية لقيمته الخاصة، ومن ناحية أخرى لأنه الكتاب الأفضل الذي عرف كيف يقارن بين مدرستين قديمتين في الطب: مدرسة ابيقراط ومدرسة جالينوس. وابن رشد كان ينظر الى كتابه هذا نظرة متواضعة، حيث كان يعتبره "لمعالجة المسائل العامة، ومن احتاج الى معرفة جزئيات هذا العمل، فعليه بكتاب ابن زهر". غير ان ما لم يشر اليه ابن رشد، كان الأمر الأهم وهو ان كتابه "الكليات" لا يحب أبداً، اعتباره كتاباً تقنياً، بل سفر يجمع وربما للمرة الأولى على مثل ذلك النطاق الواسع، بين الفلسفة والعلم، ما يجعل الكتاب كتاباً في صناعة الطب وأهدافه. وما هي أهداف الطب، في نهاية الأمر، غير شفاء الانسان برد ما يصيبه إلى العوامل الطبيعية والمادية التي تطرأ على الإنسان في حياته؟ بعد هذا، هل علينا التحدث عن سعي ابن رشد الى انسنة الطب والمرض، في كتاب مفتتحه انتقاد من سبقوه في ذلك المجال: إن المفكر محمد عابد الجابري يوضح الأمور في شكل معاصر جداً، في مقدمة وصفها لطبعة جديدة من "الكليات" اذ يقول "ان عمل ابن رشد هنا يدخل في اطار مشروعه العام الذي يتوخى الاجتهاد و"التصحيح"، ولذلك فهو يضم الجانبين معاً: الاجتهاد في بعض المسائل التطبيقية والادلاء بآراء مخالفة لما كان سائداً: وتطور الطب كعلم وهو ما يتعلق بالتصحيح، أي بإعادة بناء المعارف الطبية بالصورة التي تجعل منها علماً، وفي تحليله للكتاب ينطلق الجابري عن حق من تعريف ابن رشد الطب "تعريفاً لم تعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب، اذ يقول: ان صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يلتمس بها حفظ صحة بدن الانسان وابطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الابدان". بالنسبة الى الفكر الغربي يعتبر كتاب الكليات COLLEGET باللاتينية الذي وضعه ابن رشد 26-11-1198، كتاباً موسوعياً يتألف من سبعة أقسام للمرة الأولى في البندقية في العام 1482 وهو، أي الكتاب، يتبع عن قرب كتاب "القانون في الطب" لابن سينا فينقده عبر رؤية نظرية ونقدية أمينة لتعاليم جالينوس. ويرى الفكر الغربي، الذي ظل يعتمد "الكليات" مرجعاً طوال عقود من السنين، أن الجزء الأول من الكتاب هو الأهم حيث يعالج المؤلف مشروع الجسم ويلخص في صفحات رائعة ما كان وصل اليه علم الطب في زمانه. أما الأقسام السبعة التي ينقسم اليها الكتاب فهي، تشريح الأعضاء - الصحة - المرض - العلامات - الأدوية والأغذية - حفظ الصحة - وشفاء الأمراض. أما ابن رشد نفسه فإنه يؤكد أن "ما سلكناه في كتابنا هذا يخالف الطرق التي سلكها الأطباء الذين وصفوا الكتب، وطريقتنا أليق بهذه الصناعة، وينبغي ان تعلم ان الناظر في هذا الكتاب لن يقدر أن يتقصاه ولن يفهم حل معانيه اذا لم يتقدم فينظر في صناعة المنطق أدنى نظر فيعرف اصناف البرهان الثلاثة، وينبغي كذلك ان تكون له أدنى معرفة بالعلم الطبيعي". ولد ابن رشد في قرطبة في أسرة علم وقضاء ودرس الفقه والكلام والطب والفلسفة، شرح ارسطو تلبية لرغبة الخليفة أبي يعقوب يوسف وعين قاضياً على أشبلية ثم قرطبة وصار قاضي القضاة. اتهم بالزندقة وأحرقت كتبه. من أهم هذه الكتب "تهافت التهافت" و"فصل المقال" و"الكليات". ابراهيم العريس