عندما تنظر فيما قاله مراد وهبة من مصر والجابري من المغرب وعبدالمجيد الشرافي من تونس وغيرهم كثير، ستجد أنهم يتجاوزون بعض الشيء عندما يكون الحديث عن فيلسوف قرطبة: أبي الوليد محمد بن أحمد "ابن رشد الحفيد". إنهم يقدمونه وكأنه الأنموذج الذي ينبغي أن يحذو الشباب حذوه، وكأنه المثقف الحر المستقل الذي يُلبسه مثقفونا ثياب التفكير النقدي، كما لو كان أعمق في ذلك من إيمانويل كنْت نفسه. مما لا شك فيه أن الرجل كان عالما موسوعياً، فهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاض وفلكي وفيزيائي عربي مسلم، وكان يحفظ موطأ مالك وديوان المتنبي، ودرس العقيدة على المذهب الأشعري، ثم انقلب عليه، فهو أحد أكبر خصوم الأشاعرة عبر التاريخ. وفي كتب سيرته يذكرون أنه لم يترك القراءة إلا في ليلتين : ليلة زفافه وليلة وفاة أبيه، وهذه بلا شك من مبالغات كتّاب السير، فالإنسان يمرض ويسأم وينشغل. لا شك في أن ابن رشد مثقف كبير، وأنه ذو أثر في العالمين الإسلامي والمسيحي، لكن هل كان كما يصفه هؤلاء الأساتذة بأنه المفكر الحر القدوة؟ جوابي هو لا، لسببين: الأول: هو طبيعة العلاقة التي ربطته بأرسطو، فقد كانت علاقة افتتان لا مجرد إعجاب، ولذلك وجدناه يكتب في تلخيصه لكتاب (البرهان): بأن فطرة أرسطو تختلف عن فطرتنا، وكأنما أبرزته العناية الإلهية لندرك نحن معاشر الناس العاديين، وجود الكمال الأقصى في النوع الإنساني! وبناء على ذلك فإن مذهب أرسطو هو (الحقيقة المطلقة) بسبب بلوغ عقله لأقصى حدود العقل البشري! وأنه يجوز لنا الاختلاف في فهم أرسطو ولكن لا تجوز لنا مخالفته الجهرية! وأنه ينبغي أن ندعو أرسطو بالرجل الإلهي لا الرجل البشري! وفسر ابن رشد الآية الكريمة (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) بأن المقصود هنا هو أرسطو! وفي كتابه (تهافت التهافت) الذي رد به على شيخ الأشاعرة أبي حامد الغزالي وكتابه (تهافت الفلاسفة) كان يكتفي لتفنيد كلام الغزالي بالقول: "لقد خالف أرسطو هنا" وكأنه إذا خالف أرسطو قد خالف القرآن أو العقل أو الفكرة، رغم أن العلم الحديث قد أثبت صحة كلام الغزالي في عدة مسائل وخطأ ابن رشد وأرسطو معاً، مثل مخالفته لهما في قولهما بأن الشمس بسيطة واختياره بأن الشمس مركبة! لقد كانت علاقته بأرسطو أشبه ما تكون بعلاقة عبودية فكرية، أرسطو الذي انهار تماما منذ 3 قرون. ومن تابع تغريداتي خلال الشهرين الماضيين في تويتر، فسيجد أنني التزمت بسرد تاريخ الثورة العلمية في أوروبا ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وكيف أن الفلسفة القديمة التي تُوجت بأرسطو كانت ذات ثلاثة أقسام 1 – إلهية 2 -طبيعية 3 – رياضية. وأوضحت بالتفصيل المملّ كيف أن العلماء كوبرنيكوس وكبلر وغاليلي (خصوصاً الأخير) قد هدموا ثلث الفلسفة القديمة (فلسفة الطبيعة الأرسطية) وحولوها إلى أنقاض، بحيث لم يبق فيها ما هو صالح إلا بعض كونيّاته مثل قوله (إن الأرض كروية) وهو أمر مجمع عليه منذ أن رأى الإنسان ظاهرة الخسوف. أما إلهيات أرسطو وقوله بقدم العالم، فهذا قد هدمه العلم الحديث أيضا، والذين يقولون بنظرية الانفجار العظيم يوافقون مَن يقولون بالخلق، على أنه يستحيل أن يكون هذا العالم من دون بداية زمنية محددة. الثاني: هو تفريق ابن رشد بين الخاصة والعامة فيما يتعلق ببث العلم، فابن رشد يرى أن معرفة الحقيقة ليست لكل البشر، بل للفلاسفة فقط، أما العامة فواجبهم الالتزام بظاهر الشريعة، وهو يلوم ويشدد اللوم على علماء الكلام من الفرق الإسلامية، لأنهم حاولوا كشف ما هو للخاصة من الفلاسفة بحيث يكون متداولاً بين العامة. هذان السببان، أراهما كافيين، لعدم قبول دعوى الأساتذة في أن ابن رشد هو ذلك المفكر الحر الذي ينبغي للشباب الاقتداء به والسير على نهجه، مع كل التقدير لموسوعيته وعلمه الغزير.