كما هي الحال بالنسبة الى هاملت ودون جوان ودون كيشوت وغيرها من الشخصيات الفنية، تنتمي شخصية "فاوست" الى تلك الفئة من الشخصيات التي بها يؤرخ دخول الانسانية العصور الحديثة: انها الشخصيات الاشكالية التي انبعثت من قلب الإنسان، عن طريق المبدعين، بالمسؤولية عن نفسه ذات عصر، وشعوره بالقلق والتجاذب ازاء تلك المسؤولية التي كان ألقاها قبل ذلك على قوى الماوراء مرتاحاً الى يقينات سهلت حياته وألغت اسئلته. وأيضاً كما هي الحال بالنسبة الى تلك الشخصيات، يرتكز بناء شخصية فاوست على واقع حقيقي وشخص عاش فعلاً غير انه لم يعد على مر السنين هو نفسه، بل عملت فيه ريش الكتاب وأفكارهم تغييراً حتى بات غريباً تماماً عن الأصل الذي انبنى عليه، وبالتالي صار أكثر خلوداً وحضوراً... لأنه بات رمزاً لشيء أوسع بكثير مما كان عليه. وهكذا، لئن كان الدكتور فاوستوس الاصلي، مجرد "مهرطق نصاب" حسب ما وصفته سجلات مدينة بامبرغ الالمانية أواسط القرن السادس عشر، فإن هذا النصاب سرعان ما ارتدى في أعمال أدبية ومسرحية وشعرية مسوح الانسان الساعي وراء الحقيقة، الضائع بين الشك واليقين، بين العلم والتجربة الحسية، والمتسائل عن الخلود. وهكذا راحت تنبني هذه الشخصية من كاتب الى كاتب حتى وصلت ذروتها، كما نعرف، مع الألماني غوته، الذي "استولى" على الشخصية وجعل منها الشخصية المحورية في واحد من أعظم الأعمال الكتابية التي ظهرت خلال القرون الأخيرة: مسرحية "فاوست" بجزءيها، تلك المسرحية التي ظل غوته يكتبها ويعيد كتابتها طوال ستين عاماً، واصفاً فيها كل خبرته وحيرته ومواقفه الانسانية. ولكن أيضاً أسئلته الشائكة المنبثقة من تحوله من البروتستانتية الى الكاثوليكية. كثيرون تناولوا فاوست قبل غوته وكثيرون تناولوه بعده. وظل الموضوع دائماً هو هو: رهان الشيطان على قدرته على تملك روح العالم الانساني فاوست، ورضوخ هذا لإغواء ذلك الشيطان مفيستوفيليس، حيث يبيعه روحه في مقابل الخلود والمعرفة. غير ان ما اختلف دائماً هو التفسير والموقف، وهما وصلا مع غوته الى الذروة. لدى غوته، صار فاوست صاحب مشكلة هوية حقيقية تتجلى عبر الصراع بين الانسان والقوى الفوق طبيعية. وهنا يكمن لب الموضوع في معرفة ما اذا كان في وسع فاوست، الذي يجسد تصوراً رفيعاً لموقع الانسانية ودورها، ان يُفشل قوى الشر. إن فاوست، مثل هاملت، يقف عند نقطة المنعطف بين العالم الحديث والعالم المنتمي الى العصور الوسطى، انه يمثل انسان عصر النهضة الحديث، الذي يشعر في الوقت نفسه ان انتماءه الى العصور الوسطى يقيده، من ناحية سيطرة عالم الشر على تلك العصور وابنائها. ومن هنا ذلك الميثاق الذي يعقده مع الشيطان، الذي يمثل هنا نوعاً من تحد قام دائماً في وجه العصور القديمة. ان مفيستو هو في نهاية الأمر رمز لتلك القوة التي تنحو الى ابتلاع عالم الانسان في لعنة ابدية لتسهيل السيطرة على هذا العالم. والسؤال هنا يظل، اذاً: هل سيتمكن الشر من السيطرة على العالم. لا... وذلك بكل بساطة، وحسب ما يؤكد لنا غوته، لأن فاوست هنا يقف حاجزاً في وجه انتشار الشر من ناحية تمثيله لمستقبل الانسانية. واذا كان فاوست يقبل بخوض الرهان مع الشيطان، فما هذا إلا لأن الشباب الذي يشكل محور الرهان، انما هو شباب البشرية وأملها في المستقبل. واللافت هنا ان المرأة غريتشن لا تمثل الإغواء فقط، بل أيضاً التضحية بالذات، لأنها اذ تقبل بلعب دور الاغواء والشر انما توفر السبيل لوصول فاوست الى التوبة. ومن هنا تلعب هي، ومفيستو دوراً أكثر أهمية بكثير من دور فاوست، لأنه بحسب غوته، لولا الشر ولولا تضحية غريتشن. ما كان في امكان فاوست ان يحقق حلمه النهضوي، وأن يعطي انسان العصور الجديدة مكانته، وشكّه الانساني في الخالص، بعيداً من اليقين المريح؟ واضح اننا هنا لسنا بعيدين كثيراً من التفسير الذي سيعطيه جورج لويس بورخس لاحقاً لشخصية يهوذا الاسخريوطي، ودوره في صلب المسيح، وصولاً الى افتداء هذا للبشرية. عشرات الكتاب عكفوا دائماً على الاهتمام بشخصية فاوست، من مارلو الى فاليري، لكن غوته يبقى الأهم، ويبقى عمله الأبرز والأكثر قدرة على تقديم المعاني المتوخاة. واللافت ان "فاوست" التي تتجاوز كونها مسرحية لتصبح أشبه بملحمة شعرية ضخمة، كتبها غوته على مدى ستين سنة، ما يعني ان هذا الأخير ظل يعيش في قلب عمله وشخصيته في حيرة وتبدل، لأن أزمة فاوست، كانت هي هي أزمة غوته، وبالتالي أزمة الانسان الذي يرى العصور الحديثة تطل عليه مطالبة اياه بالكثير. ولد يوهان وولفغانغ فون غوته العام 1749، ويعتبر من رواد الكلاسيكية والرومانسية الألمانية الرومانسية كما تجلت في "فاوست" بخاصة. درس القانون وبدأ كتابة المسرحية باكراً. وكان في الخامسة والعشرين حين كتب روايته الرائعة "آلام فرتر". ثم شكل جمعية أدبية فكرية هي "العاصفة والهجوم". وبعد ذلك انتقل الى فايمار التي أمضى فيها بقية حياته كاتباً لامعاً ومؤلفاً للبلاط. وانتج الكثير من المسرحيات والنصوص الروائية، كما عرف عنه اهتمامه بالآداب الشرقية وبشخصية النبي محمد ص. الذي كتب عنه عملاً مهماً.