من يقرأ مسرحية «فاوست» لوولفغانغ غوته، وهي العمل الفني الأدبي المصنف عادة بين أعمال القمة في الآداب العالمية والانسانية، يستحيل عليه أن يتصور إمكان تحويل هذه المسرحية الى عمل أوبرالي، تدخل فيه الموسيقى طرفاً أساسياً، وتتحول الحوارات الى غناء إفرادي أو جماعي. ومع هذا تمكن الفرنسي شارل غونو، من وضع أوبرا في عنوان «فاوست»، تعتبر من أفضل الأعمال الفنية التي افتتحت النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما صنعت لغونو نفسه شهرة ومكانة في الموسيقى الأوروبية عادت وعززتهما أعمال لاحقة له، مثل «روميو وجولييت» عن مسرحية شكسبير المعروفة. واللافت ان التفاوت بين «فاوست» و «روميو وجولييت» مناخاً ومن الناحية الموسيقية والتعبيرية، هو من الضخامة الى درجة يصعب معها القول إن فناناً واحداً هو الذي وضع موسيقى العملين. وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا ان كلاً من هذين العملين المسرحيين حوّل الى أوبرا على أيدي أكثر من موسيقي وفي أزمان مختلفة. ولكن يقيناً ان انجاز غونو في العملين يظل الأفضل والأبقى، اذا استثنينا، مثلاً، تفوق الروسي تشايكوفسكي حيث حوّل «روميو وجولييت»، الى باليه لا إلى أوبرا... لكن هذه تبقى مسألة أخرى. ان موضوع «فاوست» كما تناوله غوته، نقلاً عن حكايات حقيقية أسطرت مع مرور الزمن، تعود الى عقود من قبله، اعتبر منذ بداية القرن التاسع عشر، واحداً من أكثر المواضيع انسانية في تاريخ الأدب الألماني، بل قيل دائماً ان تمكن غوته من أن يربط فيه بين ثلاث نزعات، تبدو لوهلة ما، متنافرة (هي الرومنطيقية، والواقعية والنزعة الانسانية المثالية) دنا من حدود الإعجاز في مجال الإبداع. والحقيقة أن موسيقى غونو عرفت كيف تنقل تلك الأجواء وتوصلها الى متفرج الأوبرا، حتى وإن كان يمكن القول إن هذا المتفرج ما كان يمكنه أبداً أن يتفاعل مع «فاوست» مباشرة، منحياً شبح غوته المظل في كل لحظة. وواضح هنا ان شارل غونو، بمقدار ما فتن بشخصية فاوست، فتن بشخصية غوته، الى درجة ان فاوست الأوبرا عمل يبدو أقرب الى غوته نفسه منه الى أية شخصية أخرى. ومع هذا فإن ما حوّله غونو الى أوبرا كان جزءاً فقط من «فاوست» غوته (القسم الأول كما ترجمه جيرار دي نرفال الى الفرنسية)، أدغمه مع مسرحية فرنسية عنوانها «فاوست ومرغريت» كتبها ميشال كاري، اقتباساً من غوته. لحّن غونو أوبرا «فاوست» عام 1857، لتقدم بعد ذلك بعامين في «تياتر ليريك» (المسرح الغنائي في باريس) في لعبة فنية جمعت بين الحوارات المغناة والحوارات المنطوقة في شكل عادي. ولقد أعطيت البطولة يومها (دور مرغريت) الى السوبرانو كارولين - ميولن كارفاليو، لتصبح أول مرغريت فاوستية في تاريخ فن الأوبرا. واللافت أن عمل غونو هذا، - وكما تفيدنا النصوص التاريخية والنقدية - لم يلق نجاحاً مباشراً أول الأمر، إذ رؤي انه شديد الأكاديمية، ويركز على العزف السيمفوني أكثر من تركيزه على الميلوديا. ومع هذا فإن غونو جدد في هذا العمل في شكل عاد وقلّده كثر من مواطنيه المؤلفين الموسيقيين من أمثال ديبوسي وبيزيه. وعلى ضوء ذلك التقليد عادت أوبرا «فاوست» وحازت مكانتها وراح النقاد يكتشفون «الجواهر» الكامنة في داخلها، بحسب رأي النقاد والمؤرخين. تتبع أوبرا «فاوست» خط الأحداث المعروف، أو جزءاً منها على الأقل، وإن كانت في نهاية الأمر تختصرها مكثفة إياها، إذ ان احداث «فاوست» الأصلية كانت لتحتاج الى خمس ساعات لكي تروى وتغنى. والفصل الأول يدور في مكتب فاوست، الذي، إذ يئس من حياة عقيمة يعيشها كما يخبرنا غناء، يقرر أن يقضي على نفسه بالسم. ولكن هنا يظهر له الشيطان تحت اسم مفيستو، ويقترح عليه أن يمنحه القدرة على استعادة شبابه وكل الملذات، في مقابل ان يسلمه فاوست حياته كلها. ولكي يقنع مفيستو فاوست، بعدالة التبادل، يمكّنه من رؤية مرغريت، خيالياً، وهي صبية حسناء يعده مفيستو بأن تصبح له عما قريب. ولا يكون من فاوست إلا ان يقبل الرهان ويوقّع على الصك. في الفصل التالي يطالعنا احتفال (كرمس) يقام عند ابواب المدينة. الى اليسار ثمة ملهى فيه جنود وطلاب وبورجوازيون ينشدون صاخبين، كما فيه الشاب فالنتين، الجندي الذي يتوجب عليه ان يلتحق بالجيش المحارب... وها هو يوصي صديقيه فاغنر وسيبيل بأن يهتما بأخته مرغريت. وهنا يظهر مفيستو يتبعه فاوست. وحين يشاهد فاوست مرغريت يحاول أن يتحدث إليها، لكنها تصده وتركض الى غايتها مسرعة. تدور أحداث الفصل الثالث في حديقة مرغريت، ونرى هنا سيبيل المتيم عشقاً بمرغريت هذه، يضع باقة من الزهر ويذهب. وعلى الفور يدخل فاوست ومفيستو الى الحديقة. ويبدأ فاوست بغناء نشيد مطلعه: «سلاماً... أبقى طاهرة ونقية الى أبد الآبدين» ثم يترك في المكان صندوق مجوهرات ويرحل. وإذ تعود مرغريت تكتشف الصندوق فتسأل مربيتها مارتا عمن يكون تارك هذه الجواهر يا ترى... وبالأحرى من هو المعجب الغامض الذي يقدم اليها هذه الهدية. وهنا يظهر مفيستو وفاوست. وإذ يلقي مفيستو بسحره على ورود الحديقة لا تجد مرغريت نفسها إلا وهي تعانق فاوست. وهنا ننتقل من الفصل الثالث الى الرابع الذي يدور في غرفة مرغريت، التي نفهم بسرعة أنها تضع الآن طفلاً حملت به من فاوست، لكنها حزينة لأن فاوست قد تخلى عنها. وها هو سيبيل، عاشقها الأمين أبداً، الى جانبها يرفه عنها أو يحاول على الأقل. وينتقل المشهد الى الساحة العامة حيث نشاهد الجنود العائدين من الحرب وفالنتين بينهم وقد آلى على نفسه أن ينقذ شرف أخته. ويظهر فاوست ليتبارز الاثنان. وإذ يصاب فالنتين خلال المبارزة بجرح قاتل، يلعن اخته الى أبد الآبدين... تحاول مرغريت هنا الصلاة والتوسل، لكن الشياطين المتكاثرة تمنعها من ذلك... فتصر على الصلاة حتى تسقط في آخر الأمر منهكة فاقدة الوعي. في الفصل الخامس يرتفع الستار عن كهف مزيّن أفضل تزيين يملأه أهل بلاط آتون من ساحق العصور وفي وسط المكان طاولة ضخمة... أما في خلفية المشهد فنرى جبال هارز. وإذ يظهر مفيستو وفاوست معاً، نجدهما محاطين بالسحرة. وينقلب المشهد الى داخل سجن لنكتشف ان مرغريت قد قتلت طفلها. أما فاوست فإنه، بفضل مفيستو، حصل على مفاتيح الزنزانة التي وضعت فيها المرأة... وهكذا يتسلل الى الزنزانة حيث ينشد معها أغنية حب خالدة. ثم يطلب فاوست من مرغريت أن تهرب معه، لكنها تقاومه وتطلب من الرب الرحمة. وإذ ييأس هو من هذا كله يخرّ على ركبتيه فيما روح مرغريت تصعد الى السماء. عندما وضع غونو ألحان «فاوست» كان في التاسعة والثلاثين، وهي تحتل مكانة وسطى زمنياً في أعماله الكثيرة والتي اقتبس معظمها من مسرحيات شهيرة مثل «الطبيب رغم أنفه» و «فليمون» و «بوسيس» و «اليمامة» (وكلها أوبراتات هزلية). وشارل غونو (1818 - 1893) عاش خلال سنواته الأخيرة مجداً كبيراً أمنته له أعمال أوبرالية ولكن أيضاً أعمال أوركسترالية وقداسات وشتى أنواع الأوراتوريو. وحين مات أقيمت له جنازة وطنية صاخبة. [email protected]