تواصل ألمانيا وبعض العواصم الغربية والعربية الاحتفاء بالذكرى المئتين والخمسين على ولادة الكاتب الألماني يوهان فولفغانغ غوته 1749-1832 وقد صدرت عنه كتب عدة متناولة عالمه الرحب والمتنوّع شعراً ورواية ومسرحاً وفلسفة. هنا قراءة جديدة في مسرحية "فاوست" الشهيرة التي كتبها غوته خلال سنوات واعتُبرت من أبرز إبداعاته، وفيها يتطرّق الناقد المسرحيّ السوري نبيل الحفّار الى جذور أسطورة "فاوست" والى تجلياتها في الأدب العالميّ، والى صيغها العربية التي أنجزها بعض المترجمين العرب. موضوعة "فاوست" مثلها مثل موضوعة بروميثيوس أو أوديب أو دون جوان وغيرها تثير أمام الباحث الكثير من التساؤلات، حول ما يتعلق بمصادرها وتداولها واقتباساتها الفنية الفكرية عبر العصور، وفي مختلف الأجناس الأدبية والفنية، بحثاً عن الأسباب والتصورات التي تجعل هذه الموضوعة أو تلك صالحة لعكس ومعالجة قضايا انسانية جوهرية تختلف تمظهراتها حسب ظروف العصر الذي تعاود الظهور فيه اجتماعياً ودينياً واقتصادياً وسياسياً. فما هو موقع خرافة أو أسطورة فاوست من انعكاساتها الأدبية والفنية عالمياً، وما هو محمولها الفكري الذي أهلها لاحتلال هذه المكانة المهمة منذ القرن السادس عشر؟ تقول الشواهد التاريخية من النصف الثاني للقرن السادس عشر أن يوهان فاوست شخص حقيقي ولد ومات في المانيا قبل منتصف القرن السادس عشر. وتجمع الشواهد على أن فاوست حصل على الدكتوراه في اللاهوت، ومارس الطب، وعلى أنه درس علوم السحر في جامعة كراكوتيا في بولونيا. أما في ما يتعلق بتفاصيل حياته فتتضارب الآراء والشائعات حسب موقع أصحابها. أما بالنسبة لأبناء الشعب العاديين، فمنهم من أحبه واحترمه بسبب الخدمات الطبية المجانية التي كان يقدمها لهم، ومنهم من رهبه وخافه نظراً للغموض المحيط بشخصيته ولسعة معارفه، ففي أواخر العصر الوسيط ومطلع عصر النهضة كان يُنظر الى العلماء على أنهم مرتبطون بالشيطان الذي يزودهم بهذه المعارف التي لا تخدم الإيمان بالله والتقوى. شغلت شخصية فاوست مختلف الأوساط. وظهر في 1587 كتاب مجهول المؤلف، أطلقت عليه تسمية "الكتاب الشعبي" يتضمن سيرة حياة وأفعال فاوست حتى نهايته المشؤومة. ثم ظهرتفي 1599 سيرة جديدة له بقلم الأديب فيدمان أضاف فيها الى الكتاب الشعبي الكثير من التفاصيل الجديدة. وفي عام 1674 صدرت صيغة الطبيب يوهان بفيتسر التي تعتبر تهذيباً وتشذيباً وتعديلاً للسيرتين السابقتين. هذا بالإضافة الى عدد كبير من المخطوطات التي تروي نوادر من حياة فاوست أو من التي نُسبت اليه على مر الزمن. وهكذا نرى أن شخصية فاوست الحقيقية قد تحولت خلال قرن من الزمن تقريباً الى أسطورة شعبية مشوقة تبرز غرائب وعجائب ما اجترحه فاوست خلال حياته. ان اللافت للانتباه هو أن أول من استلهم هذه الأسطورة أدبياً لم يكن المانياً، إنما هو المسرحي الإنكليزي كريستوفر مارلو في مسرحيته الشهيرة "التاريخ المأساوي للدكتور فاوستوس" عام 1588، وقد استند في صياغتها على الأرجح الى "الكتاب الشعبي" الألماني والى قصيدة مجهولة المؤلف نشرت في العام نفسه حول "حياة فاوست وموته المستحق". والمعروف أن مارلو في حياته وأعماله هو أحد أهم المعبرين عن اشكالية انسان عصر النهضة المتأرجح بين الدين التقليدي والعلوم الجديدة التي فتحت أمام الفرد آفاقاً واسعة للبحث والتفكير. والجديد في صياغة مارلو عن أصل الحكاية هو إعلان فاوست عن رغبته بالتوبة ولعنة السحر. ومع عربات المسرح الإنكليزي الجوال في أنحاء أوروبا عادت موضوعة فاوست الى المانيا في صياغات وتنويعات متعددة، تبناها المسرح الشعبي الألماني مضيفاً اليها شخصية المهرج الألماني الشهيرة هانس فورست ثم كاسبار، مما أسبغ عليها طابعاً كوميدياً واضحا. إلا أن صيغة مارلو وتنويعات المسرح الشعبي ومسرح العرائس عليها لم تنل استحسان رائد المسرح البورجوازي الألماني لسينغ المعروف بأبحاثه السجالية في الدين فخطط لكتابة مسرحية يعالج فيها اشكالية شخصية فاوست وبالإطلاع على مخطط المسرحية والمشهد الوحيد منها الذي نشره عام 1759 ندرك أن لسينغ قد رفض نهاية فاوست المأساوية، ووجد أن توقه للبحث العلمي على رغم أخطائه يستحق الغفران والإحسان الرباني، لأنه لم يقصد الشر، بل ابتغى الخير للناس وللمجتمع. وهذا هو ما سنجد أصداءه أيضاً عند غوته، الذي يمثل انشغاله بموضوعة فاوست حالة فريدة من نوعها في تاريخ الأدب العالمي، إذ امتد قرابة ستين عاماً. فالشذرة الأولى تعود الى عام 1774، والجزء الأول من المأساة نشره عام 1808، أما الجزء الثاني ففي عام 1832. وخلال حياته المديدة التي تعاقبت فيها مراحل الأدب الألماني ظهرت معالجات أدبية وفنية كثيرة لموضوعة فاوست بين القصيدة والقصة والرواية والمسرحية والأوبرا. ويجمع علماء الأدب الألماني على أن هذا الأدب بمجمله لم يبدع عملاً أدبياً فنياً يضاهي "مأساة فاوست" لغوته، لا على صعيد الجمال والتجديد اللغوي، ولا على صعيد التألق الشعري والحرفية المعمارية الخارقة التي تجلت من خلالها عبقرية غوته الفذة. صعوبة ترجمة "فاوست" ونظراً الى هذا الأثر من حيث تعدد وتنوع الصياغة الشعرية والتألق اللغوي، ومن حيث غزارة الأفكار، والرموز ذات الدلالات الإيحائية التي لا يستقيم فهم معناها وترابطها إلا بتفكيكها والوقوف على ما تشير اليه حسب موقعها من سياق الحدث نظراً لكل هذا تعتبر "مأساة فاوست" من الأعمال التي يصعب نقلها الى لغة أخرى مع المحافظة على مستواها الفكري الفني الجمالي أو حتى مقاربته. ولذا فإن معظم محاولات ترجمتها نحت باتجاه نقل المعنى بلغة نثرية أو تقارب الشعر من حيث انتقاء الألفاظ وبناء الجملة ومحاولة خلق ايقاع موسيقي ما في النص المترجم. وبغض النظر عن رأي الأدب الألماني في "مأساة فاوست"، فإننا نتساءل: كيف يُحتمل أن يصنف بعض النقاد العرب المعاصرين هذا العمل؟ هل هو اقتباس، أم إعداد، أم سرقة أدبية محض؟ إذ أن القصة بتفاصيل أحداثها وشخصياتها وتحولاتها موجودة في الأعمال الأخرى منذ "الكتاب الشعبي" فشخصية الفتاة الشعبية غريتش وهيلينا الإغريقية وابنها يوفوريون، والإنسان الاصطناعي هومونكولوس ومطبخ الساحرات وليلة فاليورغيز واختراع العملة الورقية ومنح فاوست الغفران الرباني هي عناصر سبق أن قدمتها وعالجتها الأعمال السابقة والمعاصرة لغوته. وحتى ما يبدو جديداً كلياً، وهو الاستهلال على خشبة المسرح بين الشاعر ومدير المسرح والمهرج، فقد أخذه غوته عن تقاليد المسرح السنسكريتي، وتحديداً من مقدمة مسرحية "شاكونتالا" للكاتب كاليداسا والتي ترجمت الى الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر وأدهشت غوته. ان الجديد فعلاً لدى غوته على صعيد المضمون هو الاستهلال في السماء الذي يجري حواره بين الباري وملائكته المقربين من جهة وبين الشيطان ومفيستوفيلس من جهة أخرى، وهو الذي وظفه غوته درامياً ليبيّن دوافع الجهتين للرهان على مصير فاوست. فالباري يؤكد أن الإنسان خيّر بالفطرة، وان أخطأ في طريق سعيه. وعلى العكس يؤكد الشيطان أن غرائز الإنسان تؤهله للإنجراف وراء الغواية المدمرة. وقوس الأحداث الممتد بين هذا الاستهلال وبين الخاتمة، حيث نرى فاوست عجوزاً أعمى وراضياً عن منجزاته على رغم الضحايا التي سقطت على درب سعيه والتي جعلت الشيطان واثقاً من حصوله على روح فاوست حسب الميثاق المبرم بينهما بالدم، هذا القوس هو الذي يعرض أمامنا تطور فاوست ابن عصر النهضة الذي ضاقت نفسه من عجز علوم زمنه عن تزويده بما يجعله قادراً على إدراك جوهر الحياة وكنه الكون. انه العالم التواق الى المعرفة الكلية، لكن امكانات عصره وطبيعة النظام الكنسي الإقطاعي المهيمن تقف عائقاً في طريقه. ومن هنا فإن توقيعه الميثاق مع الشيطان، واللجوء الى السحر ما هو إلا استعانة بأدوات خارقة غير طبيعية للوصول الى هدفه، وهو ما يوضحه قوله لمفيستوفيلس "وإن خدعتني بالغريزة بدل المعرفة فهذا آخر يوم بيني وبينك". ولما كان فاوست إنساناً بشراً يسكن صدره نازعان متناقضان: العقل والعاطفة، الخير والشر، الروح والجسد، فلا غرابة في أن يخطىء ويتعثر. إلا أن توق فاوست للانعتاق من أسر الراهن وطموحه لإدراك المطلق لن يثنيه عن سعيه الدؤوب، ولن يجعل منه لقمة سائغة لغوايات مفيستو الآنية والزائلة. وبناء على ذلك فأن فاوست غوته تعبير صريح عن قابلية الإنسان للتطور والارتقاء. هذا ما يؤكده قول فاوست: ان العلاقة التناقضية بين فاوست ومفيستو هي المبدأ الجدلي الأساسي لهذا التطور. وبما أنه لا يمكن تصور وجود عنصر الخير من دون عنصر الشر، فإن وجودهما معاً ضروري، وتضادهما هو ما يولد العنصر المحرك للتطور البشري. وهذا العنصر المحرك هو تعبير غوته عن مفهومه "للرفع" أو "التصعيد" هنا وبمعنى التناقض الجدلي الهيغلي يجعل غوته مفيستو يقوم بوظيفة العنصر المحرك "الذي ينوي الشر، لكنه يدفع بالخير العام نحو الأمام". ويرى غوته أن مبدأي الخير والشر متواجدان في الذات الإنسانية وفي حالة تناقض دائم، والإنسان هو من يحسم القرار الى جانب أحد المبدأين. وفي المسرحية نجد فاوست الإنسان هو من يحسم القرار عند كل المنعطفات. وغوته يجعل فاوست ممثلاً لمبدأ الخير، وبجعله يتصرف وفق هذا المبدأ، ولكن طبعاً بما ينسجم مع مستوى إدراكه في الحالة التي يمر بها. في نهاية الجزء الثاني يوضح غوته تصوره للوضع الاقتصادي السياسي في المانيا في مطلع القرن التاسع عشر ولطبيعة الطبقة الحاكمة بكل شرائحها. وعرضه التفصيلي لمشاريع فاوست يكشف عن رؤية غوته بأن الرأسمالية قد ترعرعت في حضن الإقطاعية ونمت من خلالها، وأن النظام الاقتصادي الجديد هو الأكثر ملاءمة لطبيعة العصر، وهو الأقدر على فسح المجال أمام الفرد للتفتح والانطلاق من نير الكنيسة وتقاليد القرون الوسطى الغيبية، ولكن في الوقت نفسه لم يغب عن ذهن غوته ما يتضمنه هذا التطور من تناقضات قد تكون نتائجها دموية. ان المضمون الفكري الجديد الذي حمّله غوته لمأساة فاوست خصوصاً في جزئها الثاني هو الذي جعلها تتبوأ هذه المكانة الإستثنائية في الأدب العالمي وهو الذي جعل أسطورة فاوست في صياغة غوته الملهم الأساسي لمعظم المعالجات الجديدة لها حتى يومنا هذا، سواء على صعيد المسرح أو الرواية أو الأوبرا أو السينما. ولنتذكر مسرحية إبسن "بيير غونت" ورواية توماس مان "دكتور فاوستوس" ورواية ابنه كلاوس "مفيستو" التي تحولت الى الفيلم الشهير بالعنوان نفسه على يد المخرج المجري شابو، أو مسرحية بول فاليري الساخرة "فاوستي أنا" ومسرحية بوشكين "فاوست" وسواها. ولنتذكر من أدبنا العربي المعاصر مسرحية "فاوست الجديد" لمحمد فريد أبو حديد في العشرينات، مسرحية "فاوست والخيل والبارود" للمغربي عبدالكريم برشيد في منتصف الثمانينات وتضمين موتيف هيلينا في رواية السوري هاني الراهب "بلد واحد هو العالم" حسب تفسير غوته له، ثم مسرحية السوري سعد الله ونوس "ملحمة السراب" في منتصف التسعينات المبنية على شخصية مفيستو. وعلى صعيد الترجمة الى العربية بدأ الاهتمام ب"مأساة فاوست" منذ عام 1949 عندما نشر محمد عبدالحليم كرارة في الإسكندرية ترجمة الجزء الأول شعراً، ومع اعترافنا بجرأة هذه المحاولة وأهميتها في حينها، إلا أنها أخفقت في اصابة الهدف. إذ أن عظة غوته لم تتجل في النظم الشعري فحسب، وإنما في تطويع اللغة الشعرية الى لغة مسرحية، يستطيع الممثل أن ينطقها على الخشبة من دون أن تربكه. وعلينا ألا ننسى أن غوته كان مديراً لمسرح البلاط في مدينة قايمار ومشرفاً، بمعنى مخرجاً لأعماله بالتنسيق مع فريد ريش شيلر، وهذا الجانب هو ما أغفلته ترجمة الدكتور كرارة، فتحولت الى نص للقراءة وليس للتمثيل، أضف الى ذلك أن حفاظ المترجم على عمود الشعر العربي قد اضطره الى حذف مفردات هنا وإضافة مفردات هناك كي يستقيم وزن البيت وفق عدد التفعيلات. وفي عام 1958 قام محمد عوض محمد في القاهرة بترجمة الجزء الأول مع تقديم تلخيص للجزء الثاني. وهذه المحاولة الثانية كانت أكثر أمانة من سابقتها من حيث نقل المعنى، ولكن من دون القدرة على إيجاد الوعاء الفني الجمالي المعادل للأصل. وفي عام 1980 قام المحامي السوري سهيل أيوب بنقل المأساة بجزأيها، أي كاملة لأول مرة الى العربية، لكنه لم يترجمها عن الألمانية، وإنما عن ترجمتين انكليزيتين وترجمة فرنسية، وزود ترجمته بكثير من الهوامش التوضيحية لتفسير الرموز والإحالات التاريخية والميثولوجية، لكنه لم يرفق نصه بأي مقدمة تعريفية. ورغم الترجمة عن لغتين وسيطتين تمكن أيوب من تحقيق معادل لغوي واضح وجزل، يسهل القاؤه على الخشبة، ولكن دون أن يرتقي الى مستوى الأصل. ثم وفي عام 1989 أصدر المفكر والمترجم عبدالرحمن بدوي في سلسلة "من المسرح العالمي" الكويتية ترجمة كاملة أيضاً لجزأي المأساة نثراً، وعن الأصل الألماني، كما قدم لها في كتاب من ثلاثمئة صفحة شرح فيها النشأة التاريخية للأسطورة وتطوراتها، وعرض معالجاتها الأدبية والفنية المختلفة داخل وخارج المانيا مع شرح مسهب لأحداث وشخصيات ورموز ودلالات فاوست غوته وتأويلاتها المتعددة في مرآة النقد. لكن ترجمة بدوي غلب عليها كالعادة الإنشاء الفلسفي الجاف بدلاً من الأسلوب المسرحي الأدبي، وهذا هو ما حدث مع ترجماته لشيلر وبريشت، مما جعل هذه النصوص المترجمة غير صالحة للمسرح، وإنما لإشباع فضول القراء. وأخيراً لا بد من التنويه الى الكتاب الهام "أسطورة فاوست" للفرنسي أندره دابيزيس الذي نشرته وزارة الثقافة السورية عام 1982 بترجمة خليل شطا، وعن الفرنسية طبعاً.