} طرق ثلاثة ملثمين باب منزل سمير البكري 46 عاما في نابلس فجر امس واردوه بتسع رصاصات للاشتباه في تعاونه مع اسرائيل. وسبق ذلك ان اعدمت السلطة الفلسطينية "متعاونيْن" بعد ادانتهما بمساعدة "وحدات خاصة" من الجيش الاسرائيلي في اغتيال ناشطين فلسطينيين. وكان مسلسل الاغتيالات التي نفذتها اسرائيل اخيرا بحق ناشطين فلسطينيين، وضع مشكلة العملاء في دائرة الضوء وفي صلب اهتمام المواطن العادي، رغم انها لم تُغفل للحظة لا في وعي الشارع ولا الاجهزة الامنية الفلسطينية المتخصصة في مكافحة التجسس. قبل ايام من دخول السلطة الوطنية الى الاراضي الفلسطينية، رحّلت السلطات الاسرائيلية معها عملاءها الكبار الذين كانوا نتاج جهد استخباري وعمل ممنهج ودؤوب لاكثر من 35 عاما. وكانت الانتفاضة الكبرى ادت الى لفظ العملاء، فسكنوا في "تجمعين" معزولين هما "فحمة" في الضفة الغربية و"الدهنية" في قطاع غزة، قبل منحهم الجنسية الاسرائيلية وترحيلهم مع عائلاتهم الى داخل "الخط الاخضر". أما من تبقى من العملاء في الاراضي الفلسطينية فتم استجوابهم وتحذيرهم من العودة الى الاتصال مع اسرائيل، واستخدم معهم اسلوب "عفا الله عما مضى" من باب "معالجة مظاهر الاحتلال ونتاجه". ولحماية العملاء، ضمنت اسرائيل اتفاق اوسلو الموقع في 13 ايلول سبتمبر عام 1993، بندا يلزم السلطة الفلسطينية عدم التعرض للعملاء. وينص البند الثاني من المادة 16 على الآتي: "الفلسطينيون الذين اقاموا صلات مع السلطات الاسرائيلية لن يكونوا عرضة لاعمال المضايقة او العنف او الانتقام او التعسف او المحاكمة، وسيتم اخذ اجراءات ملائمة بالتنسيق مع اسرائيل من اجل حمايتهم". وكان لسلطة الشعب في الانتفاضة الاولى أساليبها في "معالجة ظواهر الاحتلال" وكانت بلدة قباطية القريبة من جنين الرائدة في تنفيذ حكم الشعب في واحد من العملاء الذي قُتل وعلقت جثته على عمود كهرباء وسط البلدة ليشكل عبرة لباقي العملاء لكي يرتدعوا. كذلك اعتقل أحد اذرع الاجهزة الامنية الفلسطينية يشكل نواة العمل لمكافحة العملاء والتجسس منذ بدء عمليات الاغتيال مئة شخص للتحقيق وأبقى هذا النشاط في طي الكتمان لأن المتهم بخيانة الوطن في المجتمع الفلسطيني مدان، وبالتالي يجب التعاطي مع قضية مفرطة الحساسية كالخيانة بحساسية مماثلة. فللمشتبه به عائلة وأطفال وحياة يمكن ان تدمر بلمحة بصر قبل ان يصدر قرار بالادانة او التبرئة. فاذا ثبتت الادانة يقدم العميل للمحاكمة. لكن السؤال الذي يطرح منذ الازل والى الابد: لماذا يخون انسان وطنه وشعبه؟ "الاسقاط" للحالة الفلسطينية خصوصيتها في مسألة "التجنيد لصالح العدو"، ذلك ان آلاف الفلسطينيين يتنفسون من خلال "رئة الاحتلال". فعلى امتداد سنوات الاحتلال الذي لا زال قائما رغم مرور سبع سنوات على اتفاقات اوسلو، اتبعت الاجهزة الاسرائيلية الاساليب نفسها ل"اسقاط" فلسطينيين وتجنيدهم لصالحها لسببين اولهما طبعا جمع المعلومات لاستخدامها في قمع الفلسطينيين، وثانيهما لتدمير بنية الشباب الفلسطيني عن طريق المخدرات والجنس والاموال. والمال والجنس والمخدرات جميعها وسائل "ترغيب" تستخدمها هذه الاجهزة لجس نبض الشخص الذي تريد تجنيده، وتعتمد في حجمها على اهمية "الاتصال" الذي سينشأ مع هذا الشخص وذاك. أما اساليب "الترهيب" فهي تشمل ايضا المال لافراد يحصلون على لقمة العيش لاسرهم من خلال العمل في المصانع والورش الاسرائيلية التي لا يمكنهم الوصول اليها داخل "الخط الاخضر" من دون الحصول على تصاريح خاصة تمكنهم من دخول اسرائيل. وهذه العملية تستوجب الذهاب الى المقرات العسكرية التابعة لسلطة الاحتلال والتي تطلق عليها اسرائيل "مكاتب الادارة المدنية". وهناك يخضع العمال الى عمليات تحقيق تأخذ طابع "الدردشة" يحكم بعدها احد افراد جهاز الاستخبارات الداخلية شاباك اذا ما كانت هنالك "فائدة" من تجنيد هذا الشخص، وبعدها يتم العمل على استشراف امكانات النجاح وليس اعتباطا او مبالغة القول ان الاف الفلسطينيين يتنفسون عبر رئة الاحتلال. فاسرائيل كسلطة محتلة، تتحكم في حركة الفلسطينيين وفي اسباب معيشتهم، بدءا من غاز الطبخ الذي يأتي من اسرائيل ... الى البنزين والسولار وطحين خبزهم وعلاجهم، وغير ذلك من مواد يتم احتجازها عند الحواجز الفاصلة بين المدينة الواحدة عن محيطها القروي، وبين هذا المحيط عن المدن الاخرى. وحتى المركبات التي يستقلونها يتم استلامها من المرافئ الاسرائيلية. اذن محاولات التجنيد تبدأ على المعابر والحدود والحواجز العسكرية وتحاول "استدراج" المرغوب في تجنيدهم من خلال استغلال حاجاتهم الانسانية او "ضعفا في الجانب النسائي" او المخدرات او الجرائم الجنائية. "الاستدراج" "التعامل" مع الاحتلال ليس نتيجة يحددها مستوى الوعي الوطني لاساليب "الاسقاط"، بل بمدى الحصانة والارادة التي يمتلكها الشخص. فكل فلسطيني يعرف منذ سنوات الطفولة ان التعامل مع سلطة الاحتلال جريمة يعاقب عليها القانون وكذلك الشعب. وفي هذا الصدد، امضت اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية سنوات كثيرة في درس المجتمع الفلسطيني الذي هو امتداد وجزء من المجتمع الشرقي ... هذا المجتمع الذي يعرف تماما ما معنى خيانة الوطن، لكن له خصوصيته في ما يتعلق بالجوانب الاخلاقية، خصوصا عندما يدور الحديث عن "فضائح جنسية" او "فضائح اجتماعية". في حال اتخاذ القرار باغتيال احد الكوادر او الناشطين، وبعد اختيارها "الصيد السمين"، تشرع الاستخبارات الاسرائيلية بفتح ملف سميك للاشخاص المحيطين بها من اقاربه واصدقائه ومعارفه واتصالاته ومصالحه. وعندما تعثر على غايتها، يفتح ملف جديد للشخص الذي يمكنها عبر تجنيده من تحقيق هدفها. وهذه العملية يمكن ان تأخذ اشهرا او سنوات يتم خلالها تتبع تحركات هذا الشخص للكشف عن "مستمسك" تستطيع ان تقيده فيه وتجبره على قبول ما يعرض عليه، وغالبا ايضا ما يشمل التسهيلات المعيشية التي كان محروما منها بفعل الاحتلال ذاته. أحد العملاء الذين كشف امره اخيرا، اعترف خلال التحقيق معه بان تجنيده جاء بعد تهديده بكشف علاقة اقامها مع امرأة متزوجة. وهذه المعلومة حصلت عليها الاستخبارات الاسرائيلية من عميل آخر كلف رصد تحركات العميل الاول، اضافة الى عمليات التنصت على الهاتف وغيرها من وسائل الرصدوهنا يكون الامتحان في الارادة: هل هناك "فضيحة" توازي او تعادل عار الخيانة؟ الاسرى والمعتقلون الفلسطينيون الذين امضوا اشهرا في "غرف العصافير"، وهو المصطلح المتداول في ادب السجون للاشارة الى الجواسيس والعملاء، يقولون ان بوصلتهم التي اوصلتهم الى بر الآمان كانت دائما الاصرار على كلمة "لا" مهما كان الامر متعلقا ب"الشرف" الذي يحمل معناه الكثير للمجتمع. مكافحة العملاء التفاهمات التي افرزتها اتفاقات اوسلو في ما يتعلق بعملاء مرحلة ما قبل دخول السلطة، لم تمنع الاجهزة المختصة في متابعة العملاء التائبين للتحقق من عدم عودتهم الى الاتصال مع الاستخبارات الاسرائيلية، والتعامل بقصوة بالغة مع "المجندين الجدد" بما في ذلك محاولة زرع عملاء داخل هذه الاجهزة نفسها التي تكافح التجسس. وهذه المسألة تثير قلق الشارع الفلسطيني الذي علمته التجربة ان الاستخبارات الاسرائيلية لا توفر جهدا في تجنيد من لهم علاقة ب"الفساد". المسؤولون الامنيون الفلسطينيون لا ينكرون تورط بعض الضباط والمسؤولين في قضايا فساد وحتى تجارة مشبوهة مثل السيارات المسروقة. وهذه القضايا تعتبر مادة خصبة للاستخبارات الاسرائيلية تستغلها لتجنيد اناس من الداخل. ويشدد أحد الاجهزة الامنية على اهمية التدقيق في عملية انتقاء الافراد الذين ينخرطون فيه. وتشكل نواته الصلبة من الكوادر التي جربتها السجون عبر السنوات. ففي السجن يقول بعض هؤلاء، كان من الضروري ان يشمل الانضباط الاخلاقي والنزاهة حتى السيجارة. داخل السجون ورغم صعوبة الاوضاع، كان يصدر تعميم بين رفاق السجن اذا تبين ان احدهم سرق سيجارة ليست له. المسؤولون في الاجهزة الامنية يقولون أنهم يقومون بعملهم ويرفعون التقارير الى المستوى السياسي الذي يأخذ قرارات وينفذها، وهو ليس من صلاحيات الاجهزة الامنية التي تعمل بهدوء وصمت وحذر لكي لا تحدث جلبة تتسبب بفتن. واسرائيل التي نجحت في زرع عملاء لها في قلب البنتاغون، لن توقف محاولاتها لزرع عملاء لها في الاراضي التي لا زالت تحتل ثلثيها فعليا.