في اطار مواكبة الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة، ورفض الشعب العربي الفلسطيني كل محاولات تهديد القدس، أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر كتاباً مهماً تحت عنوان: "القدس - عربية وإسلامية"، لسيد فرج راشد. وتعود أهمية هذا الكتاب، الذي يحتوي على تسعة فصول، الى أنه يفند اسطورة الوعد الالهي، كما يفند المزاعم اليهودية في ما يسمى بالحق التاريخي، وذلك من خلال البحث في الجذور الجغرافية والتاريخية للمدينة المقدسة، التي وجدت خلال التاريخ القديم، وذلك قبل ظهور أي وجود يهودي في المنطقة. فالكتاب يتتبع بداية نشأة القدس، منذ أن كان يقطنها سكانها الاصليون من اليبوسيين في الألف الثالثة قبل الميلاد. ويذكر أن هؤلاء من العرب، تعود أصولهم إلى الجزيرة العربية، التي كانت تدفع بموجات هجرة متتالية الى المناطق المتاخمة لها في اتجاه الشمال. يشير الكتاب إلى اسماء القدس المتعددة عبر التاريخ، فهي: يبوس وشالم وأورشاليم وايليا كابيتولينا، ثم ايلياء في العصر المسيحي بعد أن زالت دولة أصنام الكابيتول، ثم بيت المقدس، وأخيراً القدس الشريف. وكانت القدس قبل استيلاء اليهود عليها، تحت حكم ملك ومرشد ديني في آن، هو "ملكي صادق" ومعناه "العادل هو ملكي" ورد ذكر ذلك في التوراة. كما أشارت التوراة الى أن النبي إبراهيم صلى مع "ملكي" عندما مر بمدينة "شالم"، وذلك قبل أي ظهور لليهود كتجمع بشري في فلسطين بزمن طويل. ووردت أول إشارة إلى القدس في المدونات الفرعونية السائدة في القرنين 19 و18 ق.م، إذ كان ينطق اسمها "روشاليمم" ثم ورد بعد ذلك ذكرها في رسائل تل العمارنة القرن 14 ق.م باسم "أوروسالم"، كما جاء في رسالة وجهها حاكمها من قبل أمنيوفيس الثالث، يطلب فيها العون العسكري لصد هجمات أهل البادية "الحابيرو"، وهذا الاسم كان يطلق على القبائل الرعوية عموماً. وكان يطلق على المدينة ايضاً اسم "يبوس" نسبة إلى اليبوسيين، كما كان المصريون يطلقون عليها اسمها اليبوسي "يابيتي" و"يابتي" وأحياناً كانوا يستخدمون اسمها الكنعاني "أوروسالم". ومن المحتمل أن هذا الاسم هو كلمة آرامية تتركب من مقطعين: الأول "أور" بمعنى موضع أو مدينة، والثاني "سالم" بمعنى السلام، وهو غالباً اسم إله وثني لسكان فلسطين الأصليين، وهو إله سلامة القوافل. وعلى ذلك فكلمة "أوروسالم" الكنعانية تعني في النهاية "مدينة السلام". وظل اسم "يبوس" علماً على المدينة كما ورد في سفر القضاة الإصحاح 19: 10، حتى استولى عليها داود وصار اسمها بعد ذلك "مدينة داود"، كما ورد في سفر أخبار الملوك الأول الإصحاح 11 : 207. ومن المؤكد أن الاسم العبري "أورشليم" هو نفسه الاسم الكنعاني القديم للمدينة، بعد إبدال حرف السين بالشين في العبرية. ويشير الكتاب الى أن الاسرائيليين عندما تسللوا الى فلسطين، بعد خروجهم من مصر، وجدوا اليبوسيين والآدوميين والمؤابيين والعمونيين والكنعانيين، وهم جميعاً من العرب، حيث كانوا يقطنون سورية وفلسطين. وبذلك يؤكد المؤلف أن العرق السامي هو عرق عربي في أصوله الجغرافية في ما عدا العبرانيين. كما يؤكد أنه بعد أن تحولت المنطقة الى المسيحية في عهد الرومان، ظلت تلك الشعوب سامية من حيث العرق والسلالة البشرية، وكذلك بعد أن أصبحت إسلامية من حيث الديانة. وفي مقابل هذا التاريخ الممتد للجنس العربي/ السامي الذي استوطن فلسطين على مدى زمن يجاوز الخمسة آلاف عام، فإن الصهيونية تضع - في مقابل هذا التاريخ - سبعين عاماً فقط، هي مدة حكم داود وسليمان، وهذه فترة متأخرة، بل وغير مجمع عليها من كل طوائف اليهود. اعتبر اليهود تلك الفترة نتاج علاقة دينية بتكليف إلهي لتحقيق الايمان به في وجه الأمر الإلهي ينتهي بنهاية حياة داود وسليمان، حيث تكون الأمة مسؤولة عن عقيدتها أمام الله. وانحرف اليهود عن تلك المسؤولية، وطبقاً لمنظورهم الديني، يصبح الأمر الإلهي الذي يؤسسون عليه دعاوى الميعاد سقط، لأنهم: أضاعوا الشريعة الموسوية، ووضعوا بعد ذلك الاصنام الوثنية داخل المعبد، ثم سمحوا للنساء باحتراف الدعارة داخل الهيكل، كما أن كهنتهم كانوا يسرقون الأموال من صندوق النذور في الهيكل. واستناداً إلى تلك الانحرافات، قام يوشيا هو بعملية تطهير، أحرق فيها كل ما ينافي الاخلاق وعقيدة التوحيد، كما ورد في سفر الملوك الثاني. وورد ذكر اسم القدس في كتابات بعض المؤرخين القدامى، وهيرودوت 484 - 425 ق.م لم يشر إليها باسم "أورشليم"، بل اطلق عليها مدينة "قديشتا". ويذكر أن هذا الاسم يخضع للنطق الآرامي، وكان يطلق على المدينة المقدسة لدى العرب، قبل أن يتم تقديسها عند اليهود بزمن طويل. وإذا كان الوجود العربي من اليبوسيين والكنعانيين والآراميين سبق أي وجود يهودي في فلسطين بمئات السنين، فإن هذا الوجود لم ينقطع، حتى بعد الوجود اليهودي بها. فلقد ظلت الحروب دائرة بين اليهود وجيرانهم حيناً، وفي أحيان أخرى يعم السلام، وفي الحالين ظل هذا الوجود المتعدد الاطراف قائماً، والدليل على ذلك أنه بعد السبي البابلي لم يتم تفريغ فلسطين من سكانها، بل من اليهود وحدهم. بالإضافة إلى أنه بعد النفي اليهودي الثاني الذي فرضه الامبراطور هادريان، ظلت فلسطين تعج بالكثير من السلالات العربية. ويشير الكتاب الى أنه بعد أن استولى يوشع بن نون على فلسطين، وقام بتقسيمها الى أنصبة قبلية بين الاسباط، جاءت مدينة القدس في قطاع سبطي يهوذا وبنيامين. وعلى رغم ذلك التقسيم، ظلت القدس مدينة يبوسية حتى عصر داود، فورد ذلك صراحة في الفقرة 63 من الاصحاح 15 من سفر يوشع: "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم، فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فكان اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم الى هذا اليوم". لذلك استمرت القدس على تسميتها القديمة "يبوس" كما جاء في سفر القضاة اصحاح 19 : 11: 112: "وفيما هم عند يبوس، وقد اشرف النهار على نهايته، قال الغلام لسيده: تعال نميل على مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة حيث لا أحد من بني اسرائيل هناك". عاش اليهود كأقلية بين اليبوسيين حتى السبي البابلي 587 ق.م. ويشير الكتاب الى وجود اليبوسيين في القدس، حتى في أوج درجات المد اليهودي في فلسطين، ونقصد بذلك بعد قيام مملكة داود. فحين خطط داود لبناء هيكل للرب، بدأ بشراء بيدر أرونا اليبوسي الذي كان يتخذه جرناً ومربضاً لماشيته، فوافق على بيعه لداود بما فيه من المواشي بخمسين شاقلاً من الفضة. ويؤكد الكتاب أن القدس "يبوس" قبل إقامة داود فيها كانت مدينة ذات حضارة، حيث اشتملت على منازل كبيرة فيها الكثير من أسباب الراحة، وكانت فيها حكومة وصناعة وتجارة. تدمير القدس الأول بعد وفاة سليمان انتهت المملكة اليهودية إلى مملكتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. وتوالى على حكم المملكتين عدد من الملوك الضعاف الذين كانوا تابعين إما لمصر أو لآشور. وبعد أن تولى نبوخذ نصر بختنصر 605 - 562 ق.م الحكم خلفاً لوالده، كانت مصر هدفاً لمطامعه. لذلك بدأ بفتح الطريق إليها عبر اسقاط يهوذا في القدس. وعندما شعر ملكها يهود باكين بخطر الهجوم البابلي، استسلم بعد 3 أشهر من توليه الحكم، وأخذ اسيراً إلى بابل. ثم قام نبوزرا وأن العاشر البابلي بتهديم اسوار القدس، وتخريب المدينة تماماً بما في ذلك هيكل سليمان واحراقه، كما ورد في سفر الملوك الثاني اصحاح 25. وقد عين بختنصر جداليا بن احيقام حاكماً على ما بقي من أهل يهوذا وبقية العرب في القدس. وبعد اغتيال حدايا، هرعت اعداد كبيرة من اليهود إلى مصر في صحبة النبي آرميا .ومنذ هذا التاريخ لم يقم لليهود كيان سياسي يعتد به في فلسطين الى شهور الدولة الصهيونية الحديثة، عدا كيان سمح الفرس بإقامته، ودمره الرومان في ما بعد. وجاء على لسان لودز تعليقاً على نقش من البرونز، يصور مشهد الرحيل إلى بابل: "ان الرجال ربطوا بعضهم الى بعض في جماعات وذلك لمنعهم من الهرب، بينما سمح للنساء والأطفال بالسير من دون اغلال... حتى وصلوا إلى القرى المحددة لهم كمقر لإقامتهم ومعظمها الى الجنوب من نينوى. ومن هذه القرى: تل أبيب وتل مرشا وتل ملح" عزرا الاصحاح الثاني: 59. وفي العام 539 ق.م تمكن الملك الفارسي قورش من هزيمة بابل، واستولى عليها، ثم سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين وبناء الهيكل مرة أخرى. القدس في العصرين اليوناني والروماني أطاح الاشوريون مملكة إسرائيل 722 ق.م، وأطاح الكلدانيون مملكة يهوذا 587 ق.م، وبذلك فقد اليهود استقلالهم السياسي. وانتقلت السيادة في المنطقة من الكلدانيين إلى الفرس العام 539 ق.م، ومن الفرس إلى الاسكندر الاكبر العام 333 ق.م، بعد سيادة دامت قرنين، واستمرت فلسطين تحت سيادة البطالمة قرناً تقريباً، وفي العام 220 ق.م نجح انطوخيوس الثالث الملك السلوقي في السيطرة على فلسطين وفينيقيا. وتناوب البطالمة والسلوقيون السيادة على فلسطين حتى الفتح الروماني عام 63 ق.م، ومنذ سيادة الفرس أقام اليهود مجتمعاً سياسياً دينياً جديداً بعد العودة من السبي، حيث تحول نظام الحكم باتجاه الثيوقراطية. وفي أثناء سيادة الملك السلوقي انطيوخيوس الرابع 75 - 164 ق.م، قام بمهاجمة الفرس، واقتحم المعبد ثم استولى على كنوزه، وكان الكاهن الأعظم منيلاوس هو الذي ارشده اليها، وبعد ذلك قام بتدمير الهيكل، ثم حوله إلى مكان لعبادة زيوس اوليمبوس. وبعد أن فرض بومبي السيادة الرومانية على فلسطين 27 - 63 ق.م قام هيرودس الحاكم المحلي بمهاجمة مدينة القدس عام 37 ق.م ثم اقتحمها. وفي مرحلة لاحقة اندلعت الثورة في القدس في الفترة من 66 - 70م، وحاصر القائد الروماني تيطوس القدس، ثم قضى على الكيان الذاتي لليهود في فلسطين، بعد أن كان تم القضاء على الكيان السياسي لهم على يد البابليين والآشوريين. وقام الامبراطور الروماني هادريان بإخماد ثورة اليهود الثانية 132 - 135 م، وقام بتغيير اسم القدس الى ايليا كابيتولينا، وأقام معبداً لجو بيتر. وعلى ذلك، فإن اليهود في العصر الروماني لم تستقر أمورهم في معظم الأحيان، واستمرت هذه الأوضاع قائمة في فلسطين تحت حكم الرومان طوال مئتي سنة، حتى استولى الامبراطور قسطنطين على الحكم في روما، وجعل المسيحية دين الدولة الرسمي. * كاتب مصري.