على رغم أن القدس لم يشيدها داود التوراة- الذي لا نعرف مَن هو بالتحديد كما سيأتي- إلا أن يهود كل عصر ينسبونها إليه محاولين طمس هوية المدينة العربية. فالمدينة المقدسة بنيت في الألف الرابع قبل الميلاد. بناها الكنعانيون– أهل فلسطين- وسموها مدينة يورد سالم أو يوروشالم، ومن اسمها هذا جاءت تسميتها الغربية Jerusslem وتسميتها في العهد القديم؛ أورشليم. ووفق رواية العهد القديم؛ والتي لا يوجد دليل على صحتها؛ والتي يذكرها اليهود في قشعريرة توراتية؛ بدأ تاريخ العبرانيين الاتصال بهذه المدينة الكنعانية، عندما استولى عليها الملك داود، في القرن العاشر قبل الميلاد، أي بعد نحو ثلاثة آلاف عام مِن تأسيسها. ووردت القصة في الإصحاح الخامس من صمويل الثاني على هذا النحو: «ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض... وأخذ داود حصن صهيون وعاش داود في الحصن وبنى تحصينات جديدة حوله». ومع أن هذه الرواية لا تعطي تفاصيل عن المعارك التي خاضها الملك داود مع العرب أصحاب الأرض حتى يتمكن من الاستيلاء عليها؛ فإنها تشير إلى الطريقة التي استعملها الملك لدخول المدينة وهي القتال وأخذها من أصحابها اليبوسيين. حتى لو سلمنا-جدلاً- بصحة هذه الرواية التي ليس لها دليل سوى الكتبة اليهود، فإن القدس التي انتزعها داود بني إسرائيل من اليبوسيين بالحرب ونقل قاعدة حكمه إلى قلعة حكم اليبوسيين على جبل صهيون التي كانت حتى السنة الثامنة لتوليه الملك في «جبل جزريم» قرب نابلس شمالاً وسماها منذ هذا الوقت مدينة داود؛ وهي المدينة العربية عكس ما قال به اليهود؛ والتي لم تدم السيطرة العبرية عليها- إن صحّت- لأكثر من أربعة قرون؛ أي إلى تاريخ هدمها على يد البابليين. ونحن نعرف أخبار النبي داود مِن الكتابات التي جاءت عنه في المصادر الدينية، مثل القرآن والتوراة والإنجيل. لكننا لا نعرف أي شيء عن الملك داود من مصادر التاريخ؛ فكان طبيعياً أن يحاول الأثريون في العصر الحديث العثور على الأدلة التي تؤكد صحة هذا الجزء من الرواية. ولذلك تمّ الحفر في كل شبر من أرض فلسطين سعياً وراء العثور ولو على قطعة صغيرة من الفخار تشير إلى هذا الملك، لمعرفة الوقت الذي عاش فيه وأين كان مسكنه، والأهم من ذلك هو الوصول إلى دليل– بخلاف ما ذكره كتبة اليهود- يثبت أنه استولى على مدينة القدس عام 1005 ق.م أو أنه قام ببناء أي جزء فيها. فإذا ما تم العثور على دليل أثري يثبت إصابة أسوار القدس ببعض مظاهر الدمار، عند بداية ق10 ق.م وعلى بناء بعض الاستحكامات؛ فلسوف يكون هذا كافياً لتصديق هذه القصة بخصوص داود بني إسرائيل. ولكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً، فالأدلة الأثرية؛ ليس فقط تجهل هذه الأحداث، ولكنها تختلف معها صراحة، وعجزت عن العثور على أي بقايا تدعم هذه الرواية كما قال البروفسير الإسرائيلي المتخصص في علم الآثار رئيف هرتزوغ. التوراة أوردت أن سليمان بني اسرائيل قام ببناء معبد في القدس وذكرت أيضاً أن هذا المعبد دمر تمامًا أكثر من مرة ، لكن الأبحاث الأثرية خلال المئة سنة الأخيرة لم تظهر أي دليل على وجود أي جزء من معبد سليمان في القدس وفي فلسطين كلها. ونتناول هنا ما قاله الكاتب اليهودي جون روز حين تحدث عن محاولات علماء الآثار الإسرائيليين الدؤوبة في دولة الاحتلال الصهيوني، للعثور على أي أثر يؤكد وجود إسرائيل القديمة قائلاً: «... فبعد عشرات السنين من الحفريات، واستخدام تفاصيل من الكتاب المقدس للبحث عن بقايا هذه المباني– الإسرائيلية القديمة- هناك اتفاق علمي يظهر ببطء، وعلى استحياء شديد بين علماء الآثار في إسرائيل الحديثة على أن هذه المباني لم توجد قط أو أن هناك بقايا المباني ولكن لا يمكن إرجاعها إلى زمن سليمان». وإزاء هذا الموقف واجه عِلم الآثار الإسرائيلي أزمة خانقة اضطرته إلى «... التخلص من الفروق المهمة بين المواقع الكنعانية والمواقع الإسرائيلية. فعند نقطة ما من المحطات الزمنية، بعد الرواية الخيالية الواردة في الكتاب المقدس عن المملكة الوهمية المعروفة بمملكة داود وسليمان المتحدة، ربما بعد قرنين من الزمان، فيما بين سنة 800 ق.م إلى سنة 700 ق.م تقريباً، ظهرت هوية تاريخية تحمل اسم إسرائيل، على رغم أنَّها كانت في تجسدها الأول هوية وثنية متمايزة، لها إله وثني هو «يهوه» وربة وثنية هي عشيراه». رئيف هرتزوغ، ذكر أيضاً أن «أي محاولة للتساؤل عن إمكان الاعتماد على الأوصاف الواردة في الكتاب المقدس ستؤخذ على أنَّها محاولة لتقويض «حقنا التاريخي في الأرض»، وعلى أنَّها تحطم الأسطورة الأم التي تحدد مملكة إسرائيل القديمة. هذه العناصر الرمزية تشكل مكوناً حاسماً في بنية الهوية الإسرائيلية، من الواضح أنَّها تمثل تهديداً لا يحتمل، ومن الأنسب أن نغمض عيوننا». ويلاحظ أن قضية حائط البراق أثيرت دولياً عام 1930م وشكلت لجنة كان أعضاؤها من الدول المسيحية، ووافق مجلس الأمم في 5 أيار (مايو) 1930م على تأليفها، وأقر اليهود صلاحيتها وكان لهم ثلاثة وكلاء، وأصدرت اللجنة قرارها بأن ملكية الحائط الغربي تعود إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه؛ لكونه يُؤلِّف جزءاً من ساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف، وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة للحائط، لكونه موقوفاً وفق أحكام الشرع الإسلامي لجهات البِر والخير. وبما أن الحفريات أثبتت أن كل الآثار التي اكتشفت كنعانية، وليست إسرائيلية، كما أن جهود الأثريين فشلت تماماً في شرح أصول الكتاب المقدس؛ فذلك يغنينا عن تفسيرات أكثر من ذلك لبطلان الزعم اليهودي، وهو الافتراء القديم الحديث من جانب اليهود تجاه فلسطين العربية.