حظيت الجزائر في الخارج باهتمام كبير في السنوات الأخيرة، مما دفع بعدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين الجزائريين الى التفكير في إعداد مؤلف يطمح الى تقديم نظرة تتميز بالشمولية. أي ذات طابع انسكلوبيدي، عن الجزائر. هذه الفكرة أثمرت كتاباً جماعياً باللغة الفرنسية، ساهم في انجازه خمسة عشر باحثاً وأستاذاً جامعياً، نشرته دار القصبة بعنوان "الجزائر. تاريخ، مجتمع وثقافة". الكتاب يتكون من ثلاثة أقسام، يحمل الأول عنوان "تكون الجزائر" وهو استقصاء وتتبع لتاريخ الجزائر منذ المنشأ الى بداية غزو فرنسا، سنة 1830م. ثم من سنة 1830 حتى اليوم. الى جانب مواضيع حول جغرافية الجزائر وثقافاتها ولغاتها. القسم الثاني "مؤسسات ومجتمع الجزائر بعد الاستقلال" يدرس النظام السياسي من حيث خصائصه وكيفية عمله، مثلما يتطرق الى الرهانات الاقتصادية والى نظام التعليم وقطاع الرياضة. القسم الثالث يدور حول الأثريات، العمران، الأدب، السينما، الفنون التشكيلية وأخيراً الموسيقى. الدراسات التي تميزت بقدر معتبر من الموضوعية والاتزان على رغم حساسية بعض الموضوعات، بسبب ما تثيره في الجزائر من اشكاليات مشحونة بالحدة والصراع لارتباطها بقضية الهوية والخلافات الايديولوجية. فقد حرص الباحثون على انتهاج نزعة التوفيق وعدم اقصاء أو اهمال أي جانب من جوانب الثقافة الجزائرية التي تتميز بعض مجالاتها، كاللغة والتاريخ والأدب، بثنائية تنازعية كثيراً ما أسست لممارسات تميزت بالإقصاء والتهميش. الباحثة خولة طالب الإبراهيمي، من جامعة الجزائر، ترى في دراستها المعنونة "الجزائر: اللغات، الثقافات والهوية" ان المجتمع الجزائري مجتمع متعدد اللغات العربية، البربرية والفرنسية. وبهذا الصدد تشجب "ميكانيزمات فرض ايديولوجيات الميز اللغوي التي أدت في السنوات الأخيرة الى تجذير المطالب الثقافية والهوياتية... والى الاغتصاب اللغوي وفقدان المراجع الثقافية الأصلية...". في السياق نفسه يدافع واسيني الأعرج وزينب الأعرج، من جامعة الجزائر، في دراستهما المشتركة المعنونة: "الأدب الجزائري في بحثه عن وضعيته القانونية" عن ازدواجية الأدب الجزائري لغوياً عربي وفرنكوفوني، معتبرين تعدد الممارسات اللغوية ثروة مكتسبة. الاتجاه نفسه نحو تجاوز الاعتبارات الاقصائية نجده في الجزء المتعلق بتاريخ الجزائر، ذلك التاريخ الذي كانت النظرة الإيديولوجية إما انها تقصي أو تهمش أو تشوه ما تعلق منه بتاريخ الجزائر قبل مجيء الإسلام، معتبرة إياه كنوع من الجاهلية، أو على العكس، تركز عليه على حساب المراحل التي جاءت بعد دخول الإسلام. الموضوع الذي كتبه غالم محمد من جامعة وهران، يتجاوز هذا النوع من المقاربات، مهتماً بكل مراحل التاريخ الوطني. المنحى نفسه تنتهجه فاطمة الزهراء ماطوي سوفي، محافظة المتحف الوطني أحمد زبانا، في وهران، في دراستها المعنونة "الأثريات وفن العمارة"، مقدمة صورة وافية عن المخلفات الأثرية لما قبل التاريخ في الجزائر وللمرحلة النوميدية - الرومانية وكذلك للمعالم الموروثة عن الحضارة الإسلامية. هذا لا يعني ان هذه الدراسات لا تثير بعض الملاحظات والتحفظات هنا أو هناك، مثل استعمال تعبير "الغزو العربي" في أكثر من موضع من طرف غالم محمد، نازعاً بذلك عن هذا "الغزو" خلفيته الدينية، أو وصف واسيني الأعرج وزينب الأعرج للأدب الجزائري الفرنكوفوني بأنه "غنيمة حرب"، لما في هذا القول من لبس ونسيان لكون الظروف الكولونيالية قد فرضت "الفرنكوفونية"، جاعلة المثقفين الجزائريين، أو على الأقل الكثر منهم، يجهلون لغتهم الأصلية" أو حديث خولة طالب الإبراهيمي عن "ثقافات" الجزائر، مما قد يوحي بعدم وجود ترابط ثقافي بين الجزائريين ككل. والحال انه لا توجد حواجز ثقافية قاطعة بينهم بالنظر الى عمق ظاهرة التفاعل والامتزاج الثقافيين في المجتمع الجزائري، مما يضفي على الظاهرة الثقافية في الجزائر طابع التنوع والخصوصية من جهة، وطابع التداخل والاشتراك، من جهة أخرى. كما يمكن أن نلاحظ ان الحرص على الإحاطة والشمولية والموضوعية، لم يحل دون غياب بعض القطاعات الثقافية في هذا المؤلف، مثل الأدب الشعبي الجزائري الغزير والمتنوع، والفنون الشعبية من فولكلور وصناعات تقليدية، فضلاً عن غياب الكورغرافيا وقطاع الدين والمعتقدات والفكر. أضف الى ذلك العرض التاريخي الذي ميز الدراسات أدى الى عدم تسليط الضوء بالقدر الكافي على الراهن في بعض الفصول. فمثلاً واسيني الأعرج وزينب الأعرج لا يقولان شيئاً عن مشكلات الكتابة في عهد اقتصاد السوق أو عن الأدب الذي أفرزته الأزمة الوطنية في العشرية الأخيرة. وعلى العموم، فإن المشكلات التي أنجزت من هذه "العشرية السوداء" التي أتت على الكثير من المثقفين والمبدعين وتسببت في هجرة المئات منهم الى الخارج، غير مطروحة في هذه الدراسات سواء في ما يتعلق بالمسرح أو الأدب أو السينما التي أصبحت تعيش حالة تشبه الوفاة، أو بمجالات أخرى. غير ان هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية هذا المؤلف الجماعي الأول من نوعه عن الجزائر، أو من فائدته الأكيدة للقارئ الذي يرغب في أن يتعرف على الجزائر بكيفية شاملة ومتنوعة. الحال المزرية التي أصبحت تعيشها السينما في الجزائر الى درجة ان السينمائي غوتي بن ددوش اضطر - بحسب ما كشف عن ذلك المخرج عمار لسكري في لقاء له مع الجمهور باتحاد الكتاب الجزائريين - الى ان يستعير بالعملة الصعبة آلة تصوير قديمة، شبه عاطلة، من بلد عربي مجاور لانجاز فيلم له، لا تمنع أن ممثلين وسينمائيين جزائريين يحققون نجاحات في مجال عملهم، لكن خارج الجزائر. من بين هؤلاء سيد - أحمد أقومي الذي حاز على الجائزة الأولى للتمثيل في مهرجان "موسترا" في فالنسيا، بإسبانيا، في دورته الواحدة والعشرين، على الدور الذي أداه في فيلم "الناطقون بالحقيقة" للمخرج الجزائري كريم ترايدية المقيم بهولندا. وسيد - أحمد أقومي الذي شارك في أعمال مسرحية كثيرة، معروف بأدواره الرئيسية التي قام بها في أفلام جزائرية ك"الوردة الحمراء"، "الجثة المطوقة"، و"الأفيون والعصا" و"الخارجون عن القانون". أما الدور الذي مثله في الفيلم الأخير الذي نال من خلاله جائزة أحسن ممثل فهو دور صحافي جزائري مهدد بالقتل، يرفض العيش خارج الجزائر. القصة مستوحاة من حياة صحافي جزائري معروف ذهب ضحية الارهاب. وكان سيد - أحمد أقومي قد اختار المنفى، تاركاً الجزائر سنة 1993 شأنه شأن العشرات من الممثلين والسينمائيين ورجال الثقافة عامة. الفيلم نفسه نال جائزة مارون بغدادي بمناسبة حول السينما العربية تجرى كل سنتين التي انعقدت دورتها الخامسة في باريس. من بين الجزائريين والجزائريات الآخرين الذين وقفوا في المهجر، المخرجة يمينة بن قيقة التي عرض فيلمها الوثائقي "ذاكرات مهاجرين" في قاعة "السينماتيك" الجزائرية بالعاصمة في شهر كانون الأول ديسمبر، بمناسبة قدومها الى الجزائر لوضع آخر اللمسات على فيلمها "يوم الأحد ان شاء الله"، الفيلم الوثائقي المتعلق بتاريخ الهجرة الجزائرية الى فرنسا نال 25 جائزة من مختلف بلدان العالم وعلى جائزة "الأواردس" مرتين، وعلى جائزة "بات دور" التي يمنحها التلفزيون الفرنسي. كما صدر في انكلترا كتاب حول هذا الفيلم الوثائقي الذي تدرس "تقنياته" في الجامعات الأميركية، مثلما انه مدرج في برامج السنتين، الرابعة والنهائية، من التعليم الثانوي بفرنسا، مع الإشارة الى انه شوهد أثناء عرضه في قاعة عرض صغيرة بالعاصمة الفرنسية من 130000 متفرج، وهو عدد ضخم بالنسبة لفيلم وثائقي" كما ان جريدة "نيويورك تايمز" خصصت له صفحة كاملة. أما بالنسبة الى المقالات والدراسات المنشورة حوله في الصحف فقد بلغت 5 مجلدات بحيث تعذر على السينمائيين قراءتها. وعن سر هذا النجاح تقول يمينة بن قيقة: "لقد ركزت على الجانب الإنساني، حاولت أن أبعد المهاجر عن برودة وسطحية الأرقام والاحصاءات. ان ما يهمني هو الإنسان وكلامه المعبر". ففي هذا الفيلم الوثائقي الذي يروي الهجرة الجزائرية عبر أجيالها الثلاثة، والذي تستخدم فيه يمينة بن قيقة الأسود والأبيض بالنسبة للجيل الأول، جيل الآباء والأمهات، أو "الجيل الضائع"، والألوان بالنسبة لشهادات الجيلين التاليين، المهاجرون وحدهم يتكلمون، يتكلمون عن تجربتهم، عن حياتهم الأولى القصديرية، عن العنصرية والتهميش والاستغلال والضياع. لكن هؤلاء المهاجرين الذين عومل الأولون منهم "كالماشية". على حد تعبير يمينة بن قيقة، لم يكونوا يعبرون فقط بواسطة الكلمة، تلك الكلمة التي لم يسبق أن أعطيت لهم، بل أيضاً من خلال صمتهم الذي كان بدوره بالغ التأثير، يمينة بن قيقة أبت أن يضاف أي تعليق على تلك الكلمات وعلى ذلك الصمت. موضوع السينما يجرنا الى الحديث عن فرانز فانون أيضاً، ذلك ان مجموعة من السينمائيين، يقودهم الشيخ جمعي، مخرج "كلمات المنفى"، متواجدون هذه الأيام في الجزائر لإجراء فيلم حول مؤلف "معذبو الأرض"، لكن شهر كانون الأول ديسمبر هو أيضاً الشهر الذي توفي فيه الكاتب والثوري المارتنيكي الذي انخرط في صفوف الثورة الجزائرية الى ان وافته المنية يوم 6 كانون الأول 1961، فرانز فانون، الذي دفن في مقبرة الشهداء ب"الطارف"، في الجزائر، بناء على وصيته، عمل طبيباً في الجزائر 1953 - 1957 في مستشفى الأمراض العقلية بالبليدة، الذي يحمل اليوم اسمه. من خلال تجربته بهذا المستشفى اكتشف ارتباط بعض الأمراض العقلية والنفسية بالظروف المتولدة عن الوضع الكولونيالي. التحق بصفوف الثورة الجزائرية سنة 1957، فكان واحداً من محرري صحيفة "المقاومة الجزائرية" وبعدها جريدة "المجاهد" الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني، كما عين عضواً ضمن الوفد الجزائري الى المؤتمر الافريقي المنعقد في نهاية 1958 بعاصمة غانا حيث تعرف على نكروما وعلى لومومبا وعلى غيرهما من الزعماء الأفارقة وممثلي حركات التحرر الأفريقية. في عام 1960 أتيح له في اطار النشاط الديبلوماسي للثورة الجزائرية الاتصال من جديد بممثلي الحركات الأفريقية ضمن مؤتمر الشعوب الأفريقية المستقلة. كما استمر يتحدث في مختلف مؤتمرات أفريقيا وأنديتها بوصفه يعبر عن وجهة نظر الديبلوماسية الجزائرية. وفي سنة 1961 عيّن سفيراً للحكومة الجزائرية الموقتة في آكرا. من بين أعمال فرانز فانون كتابه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" الصادر سنة 1952، حيث ينتقد أفكاره السابقة المتصلة بفكرة "الزنوجية"، مبلوراً تصورات جديدة تدعو الى محاربة العنصرية والاضطهاد في اطار استراتيجية الصراع الطبقي، من غير ان يرتبط ذلك بالدعوة الى اقامة دولة مستقلة عن فرنسا. لكن في كتابه "الثورة الجزائرية في عامها الخامس" - سوسيولوجيا ثورة، وهو مؤلف يتكون في معظمه من الموضوعات التي كتبها في "المقاومة الجزائرية" وفي "المجاهد"، نجد فرانز فانون الثوري، المعادي للاستعمار، الذي قطع روابطه - نتيجة لذلك - بتذبدبات اليسار الفرنسي الذي كان قبل ذلك واحداً من أبرز ممثليه. في سنة 1961 ألف "معذبو الأرض" الذي كتب مقدمته جان بول سارتر، والذي جعل من فانون أحد أبرز منظري العالم الثالث التقدميين صدرت الترجمة العربية للكاتب في تلك الفترة عن دار الطليعة في بيروت. وكان هذا الكتاب المرجع الأول لحركة "بلاك بانترس" التي قامت في أميركا في الستينات. المخرج السينمائي الشيخ جمعي يقول ان فكر فرانز فانون، على رغم بصماته الماركسية، لا يزال حياً اليوم في عالم صار ينقسم الى طغاة ومضطهدين جدد أفرزتهم الرأسمالية الجديدة المتمثلة في العولمة. الفيلم سيخرج في آذار مارس المقبل للعرض في اطار سلسلة تلفزيونية حول "مشاهير الشخصيات السود عبر التاريخ". الجزائر - ابراهيم سعدي