لدراسة تاريخ المساجد العثمانية ومراحل تطورها وازدهارها، لا بد أن نسلّط الضوء سريعاً على تاريخ هذه الدولة، بنشأتها وتوسعها الذي دام ستة قرون حافلة بالمعارك والفتوحات في انحاء العالم. وهي الدولة التي كان لبعض سلاطينها سليم وسليمان القانوني ومحمد الفاتح وعبدالحميد الدور الرئيسي في تغيير مجرى التاريخ عموماً، والاسلامي خصوصاً. يعود تاريخ العثمانيين الى قبيلة صغيرة مؤلفة من أربعة آلاف إنسان تدعى قايي، هاجرت من آسيا الوسطى هرباً من المغول التي كان يتزعمها جنكيز خان، في الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي. ترأس هذه القبيلة كوندوز ألب وخلفه ابنه أرطغرل والد مؤسس الدولة العثمانية الأمير القبلي عثمان. إن الانطلاقة الحقيقية لهذه العشيرة كانت في منح سلطان قونية السلجوقي أرضاً تقع في الشمال الشرقي من تركيا حالياً، وعلى الحدود بين سلطنته والامبرطورية البيزنطية لهذه القبيلة تعبيراً عن شكره لهم لمساندته في محاربة جلال الدين خوارزمشاه خاقان تركستان. ثم عُين عثمان أميراً على قبيلته بعد وفاة والده أرطغرل عام 1281م. وعلى رغم صغر سنه وكونه أصغر إخوته، اختاروه لذكائه وقوته وتميزه عن الآخرين. كانت مساحة الإمارة حينها 4800 كيلومتر مربع. وبوفاة عثمان عام 1326 م تسلّم ابنه أورخان الحكم بينما كان يحاصر مدينة بورصة، وفتح المدينة لتصبح عاصمة للدولة العثمانية بل وصارت مسرحاً لآثار عثمانية لا تزال الى يومنا. بوفاة أورخان بن عثمان، تولى مراد الإمارة العثمانية عام 1360 م. وفي العام نفسه فتح ادرنة، لتكون عاصمة الدولة العثمانية بدلاً من بورصة. في عام 1389م استشهد الأمير مراد الأول غدراً إثر طعنة بخنجر مسموم من أحد الجنود الصرب الجرحى، بعد نصره على ملك الصرب وأمراء ألبانيا في منطقة قوصووه. ويقال أنه إثر هذه الحادثة تحول العلم التركي الى اللون الأحمر وبداخله هلال ونجمة العلم الحالي لتركيا. ثم تولى الحكم بايزيد ابن مراد الأول فتحولت الإمارة الى دولة في عهده عام 1396 م وبات أول سلطان عثماني، بعد انتصاراته في أوروبا الشرقية. في تلك الفترة أرسل بايزيد الى الخليفة العباسي في القاهرة أنباء انتصاره، فاعترف به المتوكل كسلطان على إقليم الروم مرسلاً له تشريفاً وخلعة وسيفاً، تعبيراً عن اعترافه له بسلطنته. بداية النهضة العمرانية منحت انتصارات السلطان بايزيد المتلاحقة الدولة الازدهار والنشاط من الناحية العمرانية. أهم نموذج عمراني لتلك الفترة هو جامع بورصة الكبير الذي أمر السلطان بايزيد بتشييده عام 1396 م. فالجامع مستطيل الشكل 56×58 متراً، مقسم الى عشرين وحدة متساوية بواسطة 12 دعامة، مما أطلق على هذا النوع من العمارة العثمانية اسم الوحدات المتعددة المتماثلة وذلك نقلاً عن الدكتور ثروت عكاشة في كتابه: القيم الجمالية في العمارة الاسلامية. أما هذه الوحدات فجميعها مسقوفة بقبب متساوية الشكل. يتم الدخول للجامع عبر ثلاثة أبواب موزّعة على جوانبه الثلاثة لتقودنا الى الشادروان الواقع في وسط الوحدة الموجودة في الصف الثاني بعد المدخل الرئيسي مباشرة لتضفي على المكان الروعة والحركة، مع تدفق مياهها عبر ثلاثة مستويات، ينخفض مستواها بدرجتين عن الوحدات الأخرى، ويلتف حولها المصلّون للوضوء، مما جعل أرضيتها رخامية. أما قبتها فمغطاة بغطاء زجاجي لتكون أشبه بالفناء الداخلي، علماً أن كلمة شادروان فارسية الأصل ومعناها حوض الماء الذي يقام في المساجد للوضوء أو لتزيين حدائق القصر. للجامع مئذنتان فوق الركنين الشمالي الشرقي والشمالي الغربي، وقد زينت جميع جدران الجامع بآيات قرآنية مخططة بشكل فني ومتناظر. كما انتشر في تلك الفترة نموذج ناضج للمساجد العثمانية في بورصة بتخطيط الحرف T المقلوب. وهناك الشكل البسيط للمساجد، الشكل المربع بجدران حجرية ومداميك آجر حيث القبة على البناء مباشرة. انتشر هذا الشكل طيلة القرون الستة للحكم العثماني لسهولة انشائه. وسمي بالوحدة الواحدة المقببة. كانت هذه المرحلة بمثابة البدايات لظهور الشكل الرئيسي للمساجد العثمانية التي تميزت بالبساطة مع التأثر الملحوظ بالعمارة السلجوقية. وفي مدينة أدرنة ظهرت منشآت معمارية أقامها السلطان مراد الثاني بعد عام 1434م. اعتمد الشكل العام لهذه المساجد على فكرة تخطيط المسجد بالحرف T المقلوب كمبنى المرادية الذي أمر ببنائه السلطان مراد عام 1434م. فللمبنى قبتان واحدة تلو واحدة وإيوان بقبة في كل كانب، أما القبة الرئيسية فتقوم على مثلثات منشورية. استعملت البلاطات الملونة باللون الأزرق الداكن والفاتح بكثرة في تغطية المحراب والجدران. وتحمل هذه البلاطات اشكالاً تزيينية لوريدات صغيرة وأوراق نباتية. في عام 1447م تم الانتهاء من انشاء جامع أوج شرفلي معناه الشرفات الثلاث وسمي بهذا الاسم لأن إحدى مآذنه الأربع لها ثلاث شرفات وارتفاعها 75،67 متر وهو أعلى ارتفاع تصل اليه العمارة العثمانية في بناء المآذن لتلك الفترة. يعتبر جامع أوج شرفلي نموذجاً مهماً وجديداً بشكل مخططه العام. إذ ظهرت قبة رئيسية ضخمة قطرها 10،24 متر، مرتكزة على دعامات سداسية الأضلاع وبعقود مدببة. وأضيفت قبتان في كل جانب للقبة، قطر الواحدة منها 50،10 متر، لتزيد من المساحة. ظهر أيضاً صحن الجامع بشكله المستطيلي وحوله البوائك وفي وسطه الشادروان. تعددت أساليب عمارة مآذنه الأربع الموزعة في أركان الصحن، فالأولى ذات قنوات حلزونية والثانية ذات قنوات عمودية والثالثة لها أشكال معينات أما الرابعة فلها ثلث شرفات للمؤذن، وبداخل المئذنة سلم مستقل الى كل مطاف. الطابع البيزنطي في المرحلة الانتقالية فتحت صفحة وضاءة مشرقة في تاريخ الدولة العثمانية، وفي تاريخ العالم الاسلامي، بفتح القسطنطينية عام 1453 م على يد السلطان محمد الفاتح، بعد استعدادات عثمانية دامت أعواماً من التخطيط والتحضير، على رغم محاولات سابقة للخلفاء العرب العثمانيين في محاصرتها، بعدما بشر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح قائلاً: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش. ونذكر من أهم الصحابة الكرام أبا أيوب الأنصاري الذي توفي وهو يحاول فتح القسطنطينية وقد دفن هناك. وبدخول السلطان محمد الفاتح توجه الى كنيسة أيا صوفيا مصلياً ومعلناً تحويل هذه الكنيسة الى جامع تقام فيه الصلاة. وتم إنشاء أربع مآذن على زوايا الجامع خلال فترات زمنية متفرقة. وتأثرت عمارة المساجد العثمانية بشكل هذه الكنيسة ذات الطابع البيزنطي بقبتها الضخمة وارتفاعها الشاهق إذ يبلغ قطر قبتها 9،30 متر وارتفاعها 92،55 متر من الأرض الى عقدة القبة. فاقتبس العثمانيون طريقة التسقيف بالقباب البيزنطية للحصول على مساحات واسعة في بيت الصلاة. وبلغ عدد المساجد التي بنيت في فترة حكم السلطان محمد الفاتح والتي دامت ثلاثين عاماً 300 مسجد بالاضافة للمدارس والقصور والحصون والقلاع. واستحدثت العمارة العثمانية فناً خاصاً بها مع منتصف القرن الرابع عشر، وخصوصاً في عهد بايزيد الثاني الذي امتد حكمه من عام 1481 الى عام 1512. ففي عام 1501 أمر بإنشاء جامع يحمل اسمه في مدينة اسطنبول وقام المعمار خير الدين بتشييد الجامع الذي انتهى عام 1506، مستغنياً عن الأعمدة التي كانت موجودة في المساجد العثمانية السابقة، لأنها كانت سبباً في إعاقة صفوف المصلين أو في رؤية الخطيب. وحقق ذلك بإنشاء قبة مركزية مرتكزة على خناصر متدلية فوق أربع دعائم، ويتوسط كل اثنين منها عمودان من حجر اليورفير. على جانبي القبة من الشمال والجنوب وحدتان متساويتان، مساحة كل منهما نصف مساحة الوحدة المركزية. ويعلو كل وحدة جانبية نصف قبة. وفي جهتي الشرق والغرب جناحان، سقف كل واحد منها بأربع قباب صغيرة. ولهذا السبب سمي هذا النوع من المساجد بالوحدات المتعددة وغير المتماثلة. لفناء الجامع أربع وعشرون باكية، ولكل باكية قبة كروية. ويتوسط الفناء أو صحن الجامع الشادروان. وبهذا صار الشادروان عنصراً مهماً وثابتاً في عمارة المساجد العثمانية وعنصراً جمالياً بشكله المتناسب مع حجم الجامع عموماً ومساحة صحن الجامع خصوصاً. لجامع بايزيد مئذنتان على طرفيه، وله ثلاثة مداخل، اثنان جانبيان يتم الدخول من خلالهما للقبلية مباشرة، ومدخل رئيسي منفتح على صحن الجامع. وحظيت جميع جدرانه وقببه من الداخل بتزيينات هندسة ونباتية وكتابات قرآنية. المعمار سنان تولى السلطان سليم الأول الحكم عام 1512، بعد أن اعتزل والده العرش. وخاض السلطان سليم معارك عدة ومهمة، ما جعل فترة حكمه التي دامت ثماني سنوات مملوءة بالحروب والمعارك وخالية من أي نشاط معماري. ففي عام 1514 انتصر على الشاه الصفوي اسماعيل في موقعة جالديران ليدخل مدينة تبريز عاصمة ايران. ثم حارب المماليك بقيادة قانصوه الغوري على مشارف مدينة حلب عام 1516 ليقتل قانصوه منتصراً. ودخل حلب ثم دمشق واصلاً لمسجد الصخرة بالقدس مصلياً هناك، منتقلاً الى القاهرة ليتسلم مفاتيح مكةوالمدينة. في فترة تولي السلطان سليم كان هناك شاب يدعى سنان مرافقاً ومشاركاً في الحروب العثمانية، متنقلاً في الشرق والغرب، مما أثرى لديه الروح الفنية. حيث تعرف على العمارة الصفوية والفن الايراني. ودخل سورية متعرفاً على العمارة الأموية وعلى العمارة المملوكية في مصر. تخرج سنان في مدرسة عجمي أو غلانار وصار انكشارياً فنياً، في فترة وفاة السلطان سليم عام 1520 ليرتقي ابنه سليمان القانوني الحكم في البلاد. وتابع سنان تنقلاته ومشاركاته للجيش العثماني في فتحه لأوروبا وانتصاراته لأنه أحب السفر والتجوال في بقاع العالم. وفي كل زيارة لأية دولة عربية أو أوروبية يزداد تعمقاً ونضوجاً دارساً الأشكال المعمارية بنماذجها المختلفة التي تحمل الهوية المعمارية للعهد الذي أنشئت فيه. الى أن عين عام 1534 في منصب كبير المعماريين وكان عمره آنذاك 50 سنة. وتوزعت أعمال سنان في أرجاء الدولة العثمانية، ففي عالمنا العربي بنى أول اثر له وهو مجمع الخسروية في مدينة حلب عام 1536 - 1537، وفي مدينة دمشق بنى التكية السليمانية عام 1557، وقام بترميم قباب الحرم المكي في مكةالمكرمة وله آثار عدة في المدينةالمنورة والقدس وبصرة. أما أهم أعمال سنان وأشدها ضخامة في تركيا فثلاثة جوامع بكلياتها هي جامع شهزادة 1544 - 1548 م وجامع السليمانية 1557 م في مدينة اسطنبول، وجامع السليمية 1569 - 1574 م في مدينة ادرنة. وسندرس جامع السليمية كنموذج لعمارة سنان المتميزة والثرية، خصوصاً وانه بنى هذا الجامع عن عمر يناهز الثمانين. ولهذا نلاحظ نضوج فنه وابتكاراته لتتحول الى رائعة معمارية استغرقت خمس سنوات من الانشاء. فعندما أمره السلطان سليم الثاني بإنشاء الجامع، قام سنان باختيار المكان المرتفع المناسب لهذا الصرح المعماري، وذلك على أعلى ربوة في مدينة ادرنة بحيث يمكننا رؤيته من جميع أنحاء المدينة بقبته الضخمة ذات القطر 5،31 متر التي فاقت قبة أيا صوفيا، محققاً بذلك حلماً رافقه لسنوات طويلة وأقض مضجعه. فنقلاً عن "كتاب فنون الترك وعمائرهم" الصادر عن "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة" الاسلامية باسطنبول، الذي قام بتأليفه أوقطاي أصلان آبا وترجمه احمد محمد عيسى، أنه ورد في تذكرة البنيان التي يقال انها من إملاء المعمار سنان: واذا كان قد شاع بين المهندسين المسيحيين القول بتفوقهم على المسلمين، لأنه لم تقم في العالم الاسلامي كله قبة تضارع أو تنافس قبة أيا صوفيا، فقد حز في نفسي كثيراً أن يقال أن بناء قبة بمثل ضخامة أيا صوفيا، ربما يكون من الأعمال العسيرة. ولهذا قررت - مستعيناً بالله - إقامة هذا المسجد في عهد السلطان سليم خان جاعلاً قبته أوسع من أيا صوفيا بمقدار ستة أذرع، وأعمق منها بمقدار أربعة أذرع. استغنى المعمار سنان عن أنصاف القباب، التي استخدمها من قبل في جامعي شهزادة والسليمانية. وارتكزت القبة على قاعدة مثمنة، محمولة على ثماني دعامات قوية وهذا ما نلاحظه في القبلية من رحابة في المكان وارتفاع في القبة. أما مآذن جامع السليمية الأربع السامقة فتطل على مدينة ادرنة بارتفاعها الرشيق حيث يبلغ ارتفاع كل مئذنة 81،70 متر. ولكل مئذنة ثلاث شرفات، يتم الصعود اليها عن طريق ثلاثة سلالم مستقلة. مع هذه الرحابة والعظمة في إنشاء القبة والمآذن حظي الجامع من الداخل بالعناية في محرابه البالغ عمقه ستة أمتار وبقبة بارتفاع منخفض. وبمنبره المنحوت من قطعة حجرية واحدة، ليكون شاهداً على براعة الصناع في تلك الفترة بالاضافة للبلاطات الخزفية المغطية جدران القبلية ومحفل السلطان الواقع شمال المحراب ويوجد أسفله نافورة صغيرة لشرب الماء وزينت القبة بالكتابات القرآنية التي قام بها المولوي حسن بن قره حصاري. وتحيط بصحن الجامع البوائك المغطاة بالقبب، وفي وسطه الشادروان الرخامي. وبهذا يعتبر جامع السليمية عملاً متكاملاً من جميع النواحي الانشائية والمعمارية والفنية والجمالية. في عام 1588 رحل المعمار الشهير والفذ سنان عن عمر يقارب المئة، بعد أن قام بعمل ضريح متواضع لنفسه تعلوه قبة صغيرة. وبعد أن عاصر خمسة سلاطين هم: بايزيد الثاني، سليم الأول، وسليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، مخلداً أعمالاً منتشرة في العالم الاسلامي ولتكون مصدر إلهام لتلامذته الذين ساروا على نهجه حتى الربع الأول من القرن الثامن عشر الميلادي. ومن النماذج المهمة التي أنشئت بأسلوب المعمار سنان جامع السلطان أحمد الشهير أو الجامع الأزرق في مدينة اسطنبول، والواقع أمام جامع أيا صوفيا ليرتفع بمآذنه الست وبقبته الضخمة التي يحيط بها نصفا قبة أصغر حجماً، اكتمل إنشاء هذا الجامع في عام 1617. وأمر بإنشائه السلطان أحمد، ليكون استمراراً للمنهج المعماري التركي الذي اتخذه المعمار سنان. سمي هذا الجامع بالأزرق لأن جدرانه الداخلية مغطاة ببلاطات خزفية ملونة بالأزرق القاتم والفاتح وبأشكال هندسية ونباتية رائعة، من أعمال الفنان الصدّاف محمد آغا. وتبلغ مساحة هذا المسجد 64×72 متراً وقطر قبته 5،23 متر، إذ ترتكز القبة على أربع دعائم اسطوانية قطر كل واحدة منها خمسة أمتار. وللجامع سور مرتفع يحيط به من جهاته الثلاث وله خمسة مداخل: اثنان منها يؤديان للقبلية مباشرة وثلاثة مداخل تؤدي الى صحن الجامع الواسع الذي يتوسطه الشادروان، ليكون مركز تجمع المصلين قبل أدائهم الصلاة. وتحيط بصحن الجامع البوائك المحمولة على 26 عموداً من الغرانيت او المسقوفة بقبب نصف كروية يبلغ عددها 30 قبة. تدهور العمارة العثمانية بعد هذا التطور الواسع في عمارة المساجد العثمانية ذات الضخامة والارتفاع في قببها وفي تعداد مآذنها وتميزها بشكلها المخروطي المدبب والسامق، عصفت رياح التجديد في الدولة العثمانية، مع التحرك التدريجي نحو أوروبا وفرنسا خصوصاً، بعدما دخلت بلاد المجر تحت سيطرة الدولة العثمانية عام 1689 معاهدة كارلوفيتش. ففي خلال فترة حكم السلطان احمد الثالث 1703 - 1730م، ومع توطد العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا بدأت العمارة العثمانية تحمل طابعاً أوروبياً مستحدثاً ومتأثراً بفن الباروك والروكوك لتسمى هذه المرحلة بزهرة التوليب. ولم ينعكس هذا التطور على المساجد فحسب، بل على القصور العثمانية والحدائق المحيطة بها أيضاً. أول جامع عثماني بني على هذا الطراز هو مسجد نور العثمانية الذي انتهى بناؤه عام 1755 في فترة حكم السلطان عثمان الثالث. وحمل هذا الجامع جميع الأساليب الباروكية الجديدة التي دخلت على العمارة لعثمانية. فقبته ذات القطر 25،75 متر محمولة على أربعة عقود كبيرة مدعمة بأبراج ركنية. وظهر المحراب خارج جدار القبلية. وقد تحول صحن الجامع المعهود الى شكل بيضاوي مع انعدام الشادروان الذي كان أحد أهم العناصر في المساجد العثمانية. وللجامع مئذنتان مرتفعتان عند ركني المدخل. ثم تطور هذا الأسلوب في أيام السلطان محمود الثاني 1808 - 1839م ليأخذ أسلوباً امبراطوريا كما أطلع عليه، وهو مختلف بعض الشيء عن الأسلوب الأوروبي واستمر هذا الأسلوب في عهد السلطان عبدالمجيد حين تم انشاء جامع دولما بهجة القريب من قصر دولما بهجة وجامع أورطاكوي عام 1854، وبالأسلوب الجديد نفسه. ما نلاحظه في الجامعين أن الجامع أصبح عبارة عن مبنى غني بالزخارف والقبة محمولة على أربعة عقود وذات أبراج ركنية مع انقراض نظام أنصاف القباب. وهكذا أصبح الدخول للجامع أو القبلية من الخارج مباشرة لعدم انشاء الصحن والبوائك. هذه المرحلة في عمارة المساجد العثمانية شكلت تدهوراً وابتعاداً عن العمارة العثمانية، على رغم انه ظهر في الفترة الأخيرة بعض المعماريين الذين قاموا بتصاميم أقرب للعمارة العثمانية أمثال المهندس كمال الدين 1870 - 1927 الذي كانت له آثار عدة أهمها مسجد بوسطانجي ومسجد ببك. وتحافظ تركيا الى يومنا هذا على تراثها المعماري عبر تشييد الكثير من المساجد ذات الطابع العثماني، مما يبقي أسلوب الباروك محصوراً في نماذج عدة فقط، ليستمر منهج المعماري سنان صامداً مثلما بقيت أعماله قروناً عدّة صامدة في وجه الزلازل. * مهندس معماري سوري يعمل في المملكة العربية السعودية.