يعمل المخرج الفلسطيني علي نصار في فيلمه "درب التبانات" على تقديم حياة قرية فلسطينية في الجليل، عام 1964، ومعاناة اهاليها ضيق العيش وإرهاب الحكم العسكري المفروض عليهم. وعبر مجموعة من الشخصيات، مثل مبروك الذي يؤدي دور مخبول القرية الذي قتل اهله عام 1948، ومحمود المناضل، والمختار وابنه وجميلة، تدور حبكة هذا الفيلم الجميل الآسر والذي يعبق بأجواء القرية الفلسطينية وحياة الأهالي، بحلوها ومرها، وبنضالاتهم وخيباتهم وانتصاراتهم. عن هذا الفيلم الذي يعتبر واحداً من أبرز الأفلام الفلسطينية كان هذا الحوار مع مخرجه علي نصار. كيف تكونت لديك فكرة فيلم "درب التبانات"؟ أنا انسان قروي اعيش في عرابة البطوف في الجليل. وبالنسبة الى عنوان الفيلم "درب التبانات"، هو تسمية مأخوذة من ظاهرة فلكية، ولكن بالنسبة الينا نحن الفلسطينيين، درب التبانات مشابهة للدرب التي كنا نسلكها لتأمين القمح والغمار في موسم الحصاد. أذكر درب التبانات التي تربط القرية بالسهل، حين كنا نجلب الغمار في الصيف وأنا صغير. تلك المرحلة تركت في نفسي، سنوات طويلة، اثراً ومعاني عدة أردت ان احكيها في هذا الفيلم". "درب التبانات" بالنسبة اليّ رمزت الى درب الخير والهدى والطمأنينة للانسان وللفلاح الفلسطيني. انها الدرب التي كنا نجلب فيها الخبز، زمن كان الفلاح الفلسطيني يحس بالطمأنينة والاستقرار، اذا أمّن لقمته. كنت أحس بالناس وأراهم على البيدر وأسمع حكاياتهم. كان اهالينا، من جيران وأصدقاء وأقرباء، يجتمعون ويتحدثون، ونحن حولهم، عن الغمار والقمح والمستقبل بفرح وأمل. اثّرت تلك المرحلة في نفسي كثيراً وتمنيت ان تدوم وأن يدوم الأمل والتفاؤل والبركة. من هنا اذكر انني ربطت "درب التبانات" التي في السماء بدرب التبانات التي على الأرض، رمز الخير والبركة، فأحببت ان احكي عن هؤلاء الناس البسطاء الذين ضُرب خيرهم وأملهم بكارثة 1948، وأحبطوا طويلاً. وعلى رغم الصورة السوداء والقاتمة في الفيلم، حاولت ان اجد بعض نقاط الضوء لكي لا أتهم انني ادعو الى انتحار جماعي. فإذا لم نعد نرى الهدى والطمأنينة على الأرض، ففي نهاية الفيلم أرى درب التبانات السماوية تضيء على الأرض، فلربما من خلالها نهتدي الى الحقيقة. لذا عندما سئل في نهاية الفيلم أين ذهب او اختفى محمود ابن الشهيد، أجيب: لوين ما بعرف؟ ذهب الى درب التبانات اللي جابوه منها؟ درب التبانات اصبحت رمزية ولها معانٍ عدة. لكن المعنى الأساسي هو درب الخير والبركة التي أدت بمبروك الى العودة الى وطنه، عندما قتل والداه عليها، وفي نهاية الفيلم، يذهب محمود، بطلنا الثائر، في درب التبانات. الى أين؟! اتركها مفتوحة للمشاهدين. قدمت في الفيلم قصة قرية فلسطينية في الجليل إبان الحكم العسكري المفروض على التلة الفلسطينية عبر حبكة درامية قوية، لماذا اخترت تلك المرحلة بالذات، هل لأنها تميزت بإرهاب فلسطينيي العام 1948، وكانت مرحلة صعبة وقاسية جداً وزاخمة في الوقت نفسه؟ كل حياتنا مليئة بالاحداث والصور السينمائية. وقد يعتقد المشاهد انها اخذت من افلام هوليوودية رهيبة ومرعبة. ولكن انا في هذا الفيلم احببت ان اطرح قضية مهمة جداً، خصوصاً في ضوء اوسلو واتفاقات السلام بين اسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. فكما هو معروف، فلسطينيو عام 1948 مهمشون. لا احد في العالم يعرف عنا شيئاً، ولا أحد يعرف ان ثمة فلسطينيين في اسرائيل لم يهاجروا او بقوا في ارضهم يقاتلون ويناضلون من اجل وجودهم وبقائهم والحفاظ على ترابهم وتراثهم ولغتهم وقوميتهم. فالعالم، وبالذات اقرب المقربين حتى في عالمنا العربي، يسألونني اين يقع الجليل؟ وهل ثمة فلسطينيون في اسرائيل؟ رسالتي الأولى كانت ان احكي للعالم ان في اسرائيل فلسطينيين لا يعيشون في رغد ونعيم، بل في "غيتو" وفي ظل الحكم العسكري، واستعملت السلطة الاسرائيلية مختلف الأساليب ضد هذه الاقلية القومية لتيئيسها وترحيلها. وأحببت ان أبرز أسطورة هذه الأقلية، لهذا العدد القليل الذي بقي والذي يعيش على رغم كل محاولات التهجير. ولكل هذا تناولت حقبة نهاية العسكري. ولكي يعرف المشاهد ان الانسان الفلسطيني عاش تحت الحكم العسكري وما زال على رغم نهايته شكلاً. الحكم العسكري ما زال جاثماً على حياتنا، بقي المضمون ولو تغير الشكل. آلة الضغط والقمع بقيت حتى الآن ولكن بأشكال وأساليب حضارية. المختار الذي كان في "حطة" و"عقال" اختفى. اليوم حل محله مختار ببزّة جديدة وربطة عنق، مختار اوجدته دولة اسرائيل التي تريد لنا بوابين ومخاتير. ثلاث شخصيات رئيسية اجتمعت في الفيلم، هي محوره: مبروك المجنون ومحمود المناضل، والمختار. هل كنت تصبو بها الى تصوير المجتمع الفلسطيني في الجليل في مرحلة معينة تصويراً شبه تسجيلي او واقعي؟ تسجيلي كلا، اما واقعي فنعم. بالطبع، في الفيلم عناصر واقعية وعناصر توثيقية، اضافة الى بعض الخيال. مثلاً، كل الشخصيات يمكن ان توجد في مجتمعنا الفلسطيني، فهل اجتمعت في قرية واحدة؟ لا ادري. ولكن اعرف انها موجودة. ذهبت اكثر الى شرح صورة انسانية وعلاقات انسانية في ظل الحكم العسكري الرهيب، مع تطعيم الموضوع بعناصر وثائقية من تلك المرحلة، لكنني لم احاول ان ادعو الى النفور والكراهية. ما الذي تقصده بالكراهية والنفور؟ ان يتبنى المشاهد بسبب ما ينقله الفيلم مواقف الكراهية والنفور التام من الاسرائيليين، حاولت ان اترفّع عن العصبية وأن اذكر بما حصل لنا، وأن أبرز الصفات الانسانية لهؤلاء البشر الذين يرزحون تحت نير الظلم، كي نفكر معاً، اننا اذا اردنا ان نستمر في عملية السلام فيجب اولاً ان يبدأ السلام هنا في البلاد مع الاقلية القومية الفلسطينية الموجودة على ارضها داخل اسرائيل. الموضوع فيه نظرة شخصية، فيه علاقتي الشخصية بهؤلاء الناس وهذا المجتمع الذي نشأت فيه وعشت داخله وتفاعلت معه. انا لا استطيع ان اعتبر الفيلم وثائقياً، انما هو واقعي. أخرجت افلاماً اخرى قبل هذا الفيلم. ما هي؟ اخرجت افلاماً عدة في موسكو. بعد التخرج كان الفيلم الوثائقي "حكاية مدينة على الشاطئ" عن يافا، ويركز على سياسة تهجير العرب منها ومحو معالمها الفلسطينية. وأول فيلم روائي لي اسمه "المرضعة" كان عام 1993. ثم توقفت بسبب صعوبات انجاز اعمال سينمائية كبيرة. لا يمكن الانسان ان يصنع سينما في هذه البلاد في شكل مستمر الآن، فمتطلبات المعيشة تفرض عليك ان تبحث عن لقمة الخبز احياناً بعيداً من الموضوع الذي تتمنى ان تعمل فيه. ولكن آمل بعد نجاح "درب التبانات" ان اخرج العمل المقبل الذي اتمنى له ان يكون قفزة اخرى على طريق سينمانا الفلسطينية في هذه البلاد، اضافة الى مشروع آخر عن القدس.