في باريس، كان العرض المسرحي الذي استمر اسبوعين في "بيت ثقافات العالم" عن حكاية إعدام "ساكو وفانزيتي" في الولاياتالمتحدة، وكان انتاجاً مشتركاً فرنسياً - فلسطينياً بين "مسرح بريتيكست - بانيوليه" و"مسرح القصبة - القدس"، ولكن الحديث مع محمد بكري الذي كان يؤدي الدور الرئيسي في المسرحية التي أخرجها نجيب غلال جرى خاصة حول نكبة 1948. لماذا 1948؟ السبب بسيط ذلك ان نكبة 1948 هي موضوع وعنوان أول فيلم وثائقي يخرجه الممثل والمخرج المسرحي الفلسطيني الذي يعمل في المسرح منذ أكثر من 22 سنة وبدأ التمثيل في السينما عام 1982 مع كوستا غفراس في فيلم "هنا... ك" وتابع في هذا المجال الى جانب عمله المسرحي. أين أفلام النكبة؟ يقول بكري: "ما عدا ادوارد سعيد، لم يخرج أحد من الفلسطينيين فيلماً عن النكبة. في البداية، كان الإحساس بالواجب طاغياً وهذا الفيلم يشكل، بصراحة، تحدٍّ للاسرائيليين الذين انتجوا مسلسلهم الشهير عن خمسين سنة للنكبة وسمّوه "النهضة". شعرت بأنه يجب عليّ أن أجاوب على هذا المسلسل، وان أظهر كيف أرى النكبة من خلال عيني كولد نشأ داخل اسرائيل وعاش أيام الحكم العسكري وعرف ما حصل من أمه وأبيه وجده وخاله وعمه. قرأت الكثير عما حصل ووجدت بأنه من المهم جداً ان أخرج بين ما قرأته وما سمعته وما عشته وما عملته طيلة هذه السنوات كي أوقع فيلماً اسمه 1948". تربط بين اللقطات واللقاءات المختلفة مقاطع من مسرحية "المتشائل" التي تعتمد على قصة اميل حبيبي الشهيرة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" حيث يخبر سعيد أبو النحس المتشائل، بسخرية ومرارة، وهو في مستشفى للمجانين سيرته، سيرة عربي بقي يعيش في اسرائيل. والرواية التي نقلها محمد بكري الى المسرح ويعرضها منذ 1986 في كل مكان - في فلسطين وتونس ومصر واميركا وباريس ولندن وبودابست وبراغ وقبرص والمانيا... - تشكل، حسب كلامه، "هويتي وأنا مجبر أن أعرضها ما دمت حياً، في كل مكان، لأنها شهادة تاريخية وانسانية تحكي عن واقعنا. ويجب ان يفهم أكبر عدد من الناس هذه الحقيقة". ويفسر سبب استخدامه "المتشائل" في الفيلم كالتالي: "المتشائل هي رواية فلسطينية من الداخل تحكي عن كل ما حدث بين 1948 و1967، وهذا موضوع فيلمي، وقد استخدمتها كلسان حال هؤلاء الناس البسطاء والعاديين. في المسرح، كل واحد منهم هو سعيد أبو النحس المتشائل". ويخبر محمد بكري: "قال اميل حبيبي يوماً فيما نحن نعد للمسرحية انه سمع مرة يغال ألون، أحد قادة اسرائيل، يهمس لأحدهم انه: لو كان هناك شعباً فلسطينياً لترك ورائه حضارة فلسطينية. وأردف اميل قائلاً: صممت عندها أن أترك رواية تبقى بعدي وبعد يغال ألون زمناً طويلاً وربما طويلاً جداً...". فيلم رجل وحيد وفيلم "1948" الذي يستمر 45 دقيقة أخرجه محمد بكري وتكفل بمصاريفه كلها وهو يعمل على بيعه وتوزيعه فيبدو وكأن الفيلم مشروع خاص جداً. يقول المخرج: "انه مشروع خاص جداً ولكنه عام جداً، أي انه خاص للعام. انه خاص لأنني لا أريد ان أمدّ يدي لأحد، وعام لأنني أحكي بلسان كل الناس". والاشخاص الذي يلتقيهم بكري في الفيلم هم أشخاص عاديون عاشوا النكبة من قريب ولكن ياسر عبدربه، وزير الثقافة والاعلام الفلسطيني، موجود ليتذكر منزل عائلته في حيفا والكاتبة ليانة بدر تزور بيت جدتها في القدس، والشاهدان الاسرائيليان هما الكاتب عاموس كنعان ودوفير ميان، ضابط سابق في الجيش الاسرائيلي، وابنة محمد بكري تواكب المشاهد بغناء لا تفقه أي آلة موسيقية. كيف تم اختياره للاشخاص الذين يظهرون في الفيلم وهم يبدون قريبين منه؟ يوضح: "أحب شخصياتهم لأنهم صادقون ويحكون ما شاهدوه ولمسوه وأحسّوا به. أنا لا استطيع ان أحكي ما سمعته، فأتيت بالذين سمعتهم يحكون. ولدت بعد النكبة بعدد من السنوات وبالتالي لم أعايشها ولا أعرف ما الذي جرى فعلاً. أما هم، فيعرفون لأنهم شهود عيان لما كان يحصل. عندما يتكلم والدي عن الشباب الأربعة الذين قتلهم الاسرائيليون في قرية دير الأسد فهو يتكلم لأنه كان شاهداً لهذه الحادثة. وانا أذكر القصة جيداً لأنه خبّرني عنها وكذلك خبرني عنها أشخاص آخرون، والجميع روى التفاصيل ذاتها. كان ضرورياً ان أنقل هذا الكلام على الشاشة كي نسمعه كلنا من المصدر الأول وليس من المصدر الثاني. عندما نحكي شيئاً الى شخص آخر وينقله هذا الأخير فلا بد ان يدخل على "الموضوع تغيير، وعندما الثاني يحكي الى الثالث تتحول القصة اكثر والخ... كان همّي تقديم الكلام من اللسان الأول ومن العين الأولى والأذن الأولى وان تصل القصة الى كل الناس، سواء كانوا عرباً أم يهوداً، انكليزاً أو فرنسيين... وأنوي توجيه الفيلم خصوصاً الى جمهور غربي وعربي خارج حدود فلسطين اي الى جمهور لم يدر فعلاً بما حصل". وهل سيوزع الفيلم في اسرائيل؟ يقول: "سأعمل جاهداً كي أوزعه في اسرائيل، ولكنني أشك في أنهم سيسمحون بعرضه في التلفزيون الحكومي، ذلك ان المدير ينتمي الى ليكود وسيرفض عرض فيلم كهذا، وأما بالنسبة للتلفزيونات غير الحكومية فسأحاول لأنه يهمني ان تُقدم وجهة نظر مختلفة عن النكبة الى جمهور اسرائيلي". الذين تراجعوا وعن اختياره للشاهدين الاسرائيليين في الفيلم، يوضح محمد بكري: "الأول كاتب معروف وضع كتباً عدة وله مقالات اسبوعية في الصحافة، وهو طبعاً يساري ومناهض لحكومات اسرائيل. في البداية، كان صهيونياً جداً وتم تحول موقفه كما حصل مع عدد كبير من الكتاب الاسرائيليين والاشخاص النشيطين سياسياً الذين كانوا محبين لاسرائيل ومندفعين بإحساسهم الوطني، وراحوا يتراجعون بعد احتلال الضفة عام 1967 وبعد الجرائم التي حصلت في لبنان عام 1982. بالطبع، لم يتخلوا عن صهيونيتهم ولا استطيع القول بأن عاموس كنعان اليوم ليس صهيونياً. ولكنه من اليسار الصهيوني الذي يمكن التفاهم معه. انه لا يمت بصلة اليّ من ناحية ايديولوجيته: عنده رؤيته ولي رؤيتي وأنا، على مدى السنوات الماضية، اعيش صراعاً دائماً مع اليسار الصهيوني. انه صراع عقائدي لأن قضيتي عادلة من خلال منظاري أنا ومن خلال الحقيقة. ليس بالضرورة ان نعيش في البيت ذاته وان نكتب في الكتاب ذاته أو نعمل الفيلم ذاته، ولكنني استطيع ان اتفاهم معه". ويتابع: "الشاهد الثاني كان ضابطاً وكان من الذين احتلوا قسماً من الجليل. كان مثل موشي دايان وكان بإمكانه ان يكون موشي دايان آخر، ولكنه - كما يتحدث في الفيلم - بدأ يتراجع عندما رأى ان الصهيونية حركة عنصرية وعندما اكتشف بأنهم يكرهون العرب لمجرد أنهم عرب. نشر كتاباً اسمه "جرائم وفظائع جيش الدفاع الاسرائيلي في لبنان"، وبغض النظر عن الخلاف العقائدي لجهة نظراتنا، انه انسان احترمه واستفدت منه جداً في الفيلم". أقسى من دير ياسين ويظهر في الفيلم امر مهم يتكلم عنه ميان وهو ان مجزرة دير ياسين لم تكن أكبر مجزرة حصلت، بل ان مجزرة الدوايمة كانت أفظع بكثير. يقول بكري: "مجزرة الدوايمة ذهب فيها 500 ضحية ذلك ان الذي نفذها في شهر تشرين الأول اكتوبر من العام 1948 كان جيش الدفاع الاسرائيلي الذي إذا أصبح جيشاً رسمياً "مسؤولاًَ" كان لا بد لقادته بالتالي ان يخفوا المعلومات التي تتعلق بما اقترفوه هناك. اما الذي نفذ مجزرة دير ياسين فكانت عصابات "إليت سلوليخي" وليس جيشاً رسمياً. لم أعرف هذا من قبل، ومن خلال أبحاثي للفيلم عثرت على هذه الحادثة وهو رضي ان يتكلم عنها". سجل محمد بكري نحو ثلاثين ساعة احتفظ منها ب 45 دقيقة من اجل الفيلم، ولكنه يقول: "المادة موجودة عندي، وسأتركها للذكرى والتاريخ محفوظة. هؤلاء الناس سيختفون بعد عشر سنوات. وأحد الأسباب التي دفعتني الى تسجيل الفيلم هو ذلك بالذات: خفت ان يموت الاشخاص دون ان تبقى ذاكرة مسجلة. الحكاية، كم تدوم؟ أما الصورة مع الصوت فهما هدية القرن العشرين"