أما في ما يتعلق بموضوع المعارضة العراقية فيجيب المسؤولون في الحزبين، أن هذه المعارضة لم تعد موحدة، وأنهم لم يعودوا جزءاً عضوياً من تلك المعارضة التي تتلقى أموالاً من الإدارة الأميركية، لإطاحة النظام! أما ذهابهم الى أميركا لتوقيع اتفاقات في ما بينهم، كلما حصل خلاف، من نوع ما جرى في العام 1998، حين وقع الحزبان الاتفاق الذي يحمل اسم اتفاق واشنطن، فيبررون ذلك، صراحة، بأنه إجراء لم يجدوا بديلاً منه لوقف الاقتتال الناشئ بينهم. وقد ذهبوا الى واشنطن للتفاوض، ثم لتوقيع الاتفاق، بمحض إرادتهم. ولكن هذا الإجراء لا يلزمهم بشيء إزاء الأميركان. على أن الاتفاق لم ينفذ منه، حتى الآن، سوى وقف الاقتتال. وقد توقفوا عن الذهاب الى واشنطن، بعد ذلك، إلا في إطار نشاطاتهم السياسية، التي يعتبرون أن من حقهم وواجبهم عدم استثناء أي بلد وأي قوة سياسية يمكن ان تشكل زيارتها أو الاتصال بها عنصر دعم لقضيتهم. وفي ما يخص صراعاتهم فإنهم يجرون اللقاءات لحلها في داخل الإقليم. أما السؤال المتعلق بالحصار، وبضرورة رفع شعار إزالته عن الشعب العراقي، فيجيب المسؤولون عن ذلك بالقول إنهم، هم أيضاً، يعانون من هذا الحصار، وإن اختلفت نتائجه بين منطقتهم وبين المركز، وأنهم معنيون برفعه عنهم وعن أشقائهم العرب في الداخل العراقي. لكنهم يخشون من رفع هذا الحصار، إذا هو لم يقترن بتدابير تحول دون تمكين النظام من العودة الى ممارسة حربه ضدهم، وتضع حداً لسياسة التنكيل بأشقائهم العرب في الداخل. يريدون شروطاً لذلك، بضمانات الأممالمتحدة، أسوة بما يجري في الكثير من البلدان التي تعاني انقسامات وحروباً واستبداد أنظمة. يبقى السؤال الأصلي، المتعلق بحق تقرير المصير وبفهمهم الملموس لهذا الحق. وعن هذا السؤال يجيب المسؤولون بوضوح وبجزم أنهم لم يطلبوا في السابق، ولم يطلبوا اليوم، سوى حق تقرير المصير في وطنهم ووطن أشقائهم العرب، الوطن العراقي. ولكنهم يحددون، اليوم، فهمهم لحق تقرير المصير بما يسمونه الفيديرالية، داخل العراق الديموقراطي الموحد. ويضعون هذا المفهوم لحق تقرير المصير على محك التفاوض عندما تتوافر شروطه. وحتى لا يبدو من هذا العرض أن الحزب الديموقراطي وحزب الاتحاد الوطني هما الحزبان الوحيدان في إقليم كردستان نشير الى أن الإقليم حافل بالأحزاب الكردية والعربية، وبالمؤسسات الثقافية والاجتماعية للأقليات القومية والدينية. فهناك الحزب الشيوعي العراقي، ومقره الرئيسي في مدينة شقلاوة الجبلية، في محافظة اربيل. وله مقرات أخرى في كل المنطقتين. ومعروف أن القيادة المركزية للحزب الشيوعي تقيم منذ سنوات عدة في اقليم كردستان، بسبب الاضطهاد. وقد التقينا مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب حميد مجيد موسى، ومع أعضاء القيادة، في مقر الحزب في مدينة شقلاوة، بحضور أعضاء في قيادة الحزب الشيوعي الكردستاني، الذي تأسس منذ اواخر الثمانينات، لكي يكون، كحزب كردي، جزءاً من الواقع القائم في الإقليم. وهناك حزبان إسلاميان وأحزاب صغيرة أخرى. وباستثناء الحركة الإسلامية فقد اتيح لنا ان نلتقي مع قيادات جميع الأحزاب، من دون استثناء. وأجرينا معها المناقشات ذاتها التي أجريناها مع قيادتي الحزبين الرئيسيين. إلا أن ما لفت نظرنا، بشكل خاص، هو هذا العدد الكبير من المثقفين الأكراد. ومن بينهم شعراء وروائيون تشكيليون وموسيقيون، إضافة الى أساتذة جامعيين متخصصين في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية، وفي سائر الاختصاصات. وقد أدهشتنا النهضة العلمية التي تعرفنا الى نماذج منها خلال لقاءاتنا مع إدارات الجامعات الثالث في دهوك واربيل والسليمانية. وكان لنا لقاء جماهيري مع بضع مئات من المثقفين في السليمانية، في المركز الثقافي الذي تديره هيرو خان، زوجة جلال الطالباني، بنشاط وكفاية. وكان النقاش في هذا اللقاء بيننا وبين المثقفين، صريحاً وجريئاً، طرحت فيه آراء وأفكار لم يلتزم المثقفون فيها المواقف المعلنة لكل من الحزبين الرئيسيين في امور عدة، بما في ذلك ما يتعلق منها بمفهوم حق تقرير المصير. وأعترف بأنني لم أقرأ الأدب الكردي من قبل، إلا قليلاً. ولم أستمع الى الموسيقى والغناء الكرديين، الا قليلاً، أيضاً. لكنني دهشت لروعة ما سمعت من موسيقى وغناء، ذكرني بما قاله لي أكثر من مرة زياد الرحباني، لا سيما عشية الزيارة، بأنه معجب بالموسيقى الكردية ومتأثر بها الى حد إعلان انتمائه القومي إليها! ولقد شعرت خلال لقائنا مع الشاعر الكردي الكبير شركوبيكوس، وبعد قراءة بعض أشعاره المترجمة الى العربية، انني مقصر في التعرف على هذا الأدب الرفيع للشعب الكردي. بعض الاستنتاجات السريعة إلا أنني لا استطيع، وأنا اصل الى نهاية هذه الانطباعات عن رحلتي الممتعة الى إقليم كردستان العراق، إلا أن أشير الى الأمور الآتية: أولاً، ثمة نقص كبير في العلاقة العربية - الكردية، في الاتجاهين. وثمة نقص في الحوار ونقص في التضامن المتبادل. ويتحمل المسؤولية كلا الطرفين، مع مسؤولية أكبر يتحملها الطرف العربي. إلا أن هذا النقص لا يشمل العراق مطلقاً. فالأخوة العربية - الكردية، داخل العراق، عميقة الجذور، في التاريخ القديم والحديث. ولم تسجل أي حادثة واحدة تشير الى الخلل في العلاقة بين الشعبين، في الوطن الواحد. وتنحصر المشكلة، داخل العراق، في علاقة الشعب العراقي، عرباً وأكراداً، مع حكامه الاستبداديين، في العهد الحالي وفي كل العهود. ولذلك فالمطلب الأساسي المشترك بين أبناء الشعب العراقي، بعربه وأكراده وقومياته الأخرى، هو النضال من أجل عراق ديموقراطي موحد. ثانياً: هذا النقص في العلاقة بين الحركة القومية الكردية والحركات الوطنية في البلدان العربية، قد أدى الى النقص في المعرفة المتبادلة بقضايا كل من الشعب الكردي والشعوب العربية. وخلال التوغل في المعرفة المتبادلة للظروف، هنا وهناك، تبرز بوضوح المصالح المشتركة. وهي تتمثل في النضال من أجل الديموقراطية، من جهة، ومن أجل تحديث الدولة، من جهة ثانية، لتحقيق التنمية والتقدم، ولتحرير بلداننا من كل عناصر وعوامل ومظاهر التخلف السائدة فيها، والتي تجعل الثروات الهائلة المزدحمة على سطحها وفي جوفها عوامل قهر واستبداد وتخلف، بدلاً من ان تكون عوامل تقدم وتنمية وحرية وسعادة لشعوبها. ثالثاً، إن ما هو قائم في إقليم كردستان ما هو إلا حال موقتة. فكيف يفكر الأكراد في المستقبل؟ كيف سيواجهون، كشعب وكقضية، وكيف سيواجهون مع أشقائهم العراقيين في الداخل، مهمات المرحلة المقبلة، وكيف سيمارسون استقلالهم عن أي تدخل اجنبي في تجديد مصير العراق ومستقبله، ومصيرهم ومستقبلهم، عرباً وأكراداً؟ إنها قضايا لا تزال مواقف الأكراد غير واضحة بشأنها. وهو ما تشير إليه اجوبتهم عن الأسئلة التي طرحناها عليهم. كما لا تزال غير واضحة مواقف العرب في كل ديارهم بشأنها، أيضاً! وهو ما يشكل مصدر معاناتنا في كل ديارنا، منذ نصف قرن من الزمن. رابعاً، لقد أحسسنا، خلال لقاءاتنا مع المسؤولين في الإقليم، بمنطقتيه وسلطتيه، بأننا أمام شعب طيب مقدام وشجاع، وإننا أمام زعماء يتمتعون بذكاء ودهاء وكفاية، على رغم عدم قدرتهم على تجاوز الصعوبات الناشئة عن خلافاتهم وصراعاتهم، على السلطة وعلى أمور أخرى. وقد كنا شديدي الصراحة في التعبير عن هواجسنا، وعن مخاوفنا، حرصاً عليهم، كشعب وقضية، وحرصاً على العراق، كبلد وكشعب، كان له، وسيظل، دور مهم في مستقبل البلدان العربية بأسرها. خامساً، ثمة أفكار كثيرة تولدت عندي، بعد هذه الزيارة، أفكار حان الوقت لكي تطرح بجرأة، ولكي يجري النقاش حولها، بعد كل تلك المعاناة التي عاشها ويعيشها الشعب العراقي، منذ نصف قرن، وعاشتها، وتعيشها الشعوب العربية كلها، بنسب ودرجات متفاوتة، منذ نصف قرن أيضاً. وهي أفكار تتعلق بالأسباب التي أدت، ولا تزال تؤدي، باسم الدفاع، زيفاً أو جهلاً وتخلفاً، عن القضية القومية العربية، الى هذا الانهيار المتواصل، من دون انقطاع، للبلدان العربية، بالمفرد وبالجمع، في كل الميادين، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما تتعلق بمستقبل هذه البلدان، بالمفرد وبالجمع، أيضاً، في أوضاعها الداخلية، انظمة حكم، ومؤسسات دولة، وحركات سياسية واجتماعية، وبنى اقتصادية، وتتعلق بإمكانات تحقيق نهضة جديدة تخرج هذه البلدان من أسر الاستبداد والتخلف الى رحاب الحرية والتقدم. وكم أنا حزين، مرة ثانية، لغياب المفكر القومي العربي الطليعي قسطنطين زريق، في هذه اللحظات، بالذات. إذ حرمنا غيابه من إسهامات جليلة، من موقع العقلانية والديموقراطية، في معركة التجديد والتغيير، كان زريق قد شرع، منذ سنوات، في خوض غمارها، بشجاعة وحيوية، تفوق شجاعة وحيوية الشباب، حتى وهو يدخل في العقد العاشر من عمره. وبعد، فقد كانت الحفاوة بوفد المثقفين العرب استثنائية في كل مكان زرناه. وقدمت للوفد، من قبل المسؤولين ومن قبل القوى السياسية والثقافية والاجتماعية، كل انواع التسهيلات. ووضعت أمامه كل الإمكانات لإغناء معرفته بالواقع القائم، وبالتاريخ والجغرافيا، وبالثقافة والتقاليد. كما فتحت أمام الوفد كل الفرص للتعبير عن مواقفه في كل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، من دون أدنى حذر. وكانت لكل أعضاء الوفد آراء ومواقف نقدية عرضوها بوضوح وبصراحة، من دون أدنى رقابة، بما في ذلك في الفضائيات وعلى الهواء مباشرة. يبقى أن نشير الى الدور الذي لعبه في تنظيم الزيارة، وخلالها، فخري كريم، رئيس مجلس إدارة دار المدى، التي تصدر عنها كل من مجلة "النهج" الفكرية ومجلة "المدى" الأدبية. فله يعود فضل كبير في نجاح الزيارة. بيروت في 10/9/2000 * كاتب لبناني