أن نلجأ لفهم التراث العربي الإسلامي الى فصل "التأصيل اللغوي" عن "التأصيل السياسي" السلطوي، يعني أن نستسلم، منذ البداية، لآليات الحجب والإخفاء التي سخرت تأصيل القول لآمرية القوة، جاعلة منها مصدر القول والفعل، وأصلاً لزمن يعطّل لغة الوحي ويرسم التاريخ بما هو أطوار السلطة. لم يستهدف التأصيل اللغوي في التراث العربي الإسلامي دائماً تقريب المنقول من المأمول بما هو تقريب لغويٌ صرفٌ تأثيل وبديهي، بل إن اللجوء إليه يطرح سؤالاً منهجياً يطالُ نظام التراث برمته، إذ نحا التأصيل في جوهره الى ايجاد اصول جديدة لحقل الأفعال والأقوال في الإسلام، أكثر مما استهدف وصل الدلالة الوافدة بالدلالة الطبيعية والصناعية. وبهذا المعنى يمكننا تعيين الهدف الأكبر من الوصل بتبديل الأصل الناظم لحقل الأقوال والأفعال، وهو حقل لا يحيط به أيُ تداول متصل من الدلالات تظهر متحركيته من خلال طيفٍ يتدرج من العبارة الى الإشارة. التأنيس والتسييس لم يكن من سبيل أمام السلطة الجائرة، الساعية الى التأصّل في الزمن، لجعل ذاتها مصدر القواعد ومركز الآمرية، سوى ترسيخ فعاليتها بإيجاد أصول لغوية صناعية تفصل بها حقل التداول الداخلي عن لغة الوحي الإعجازية، وتشتت مضامين اللغة الطبيعية لتعيد ضبطها واستخدامها في مفاهيم وسياقات لا تتقايس مع معايير اللغة القرآنية، أو لتعطّل فعاليتها وتخرِّب دورات تداولها وتحرف سبل استخدامها وتموّه في الوقت نفسه هذا التحريف. ولئن ظل هذا الطابع المزدوج للتأصيل مغيّباً في تحليل طه عبدالرحمن للتراث، فلأنه، مندفعاً للرد على قراءة الجابري التجزيئية للتراث استعجل استبدال قراءة بأخرى، ليحلّ مكان العرض التجزيئي عرضاً تكاملياً، وكأنما التراث وحدات لغوية جاهزة للوصف والسرد أو المعالجة البيانية، لم تستهلك في أزمان السلطة أي خلال اندفاعاتها لاحتواء لغة الوحي وتعطيل القنوات والآليات الفقهية التي تؤمن انسحاب الوحدات التشريعية إليها وتنقيتها مما علق بها من خاص وحدثي في دورات التداول، أو كأنما المفصول لم يستقدم أساساً للتحكم بهذه العلاقة بين التداول ولغة الإعجاز، لتتمكن السلطة من إيجاد أصول لفرض قواعدها، أصول تتمثل بالعقل أو بالمصلحة، وتتوسّل لغات مفصولة عن دورة التلاوة، تقتحم بها المجال التداولي وتتحكم بمفاصله وتوازناته. فها هنا خطأ واضح يتمثل بالتستر على أفعال السلطة التاريخية الجائرة وبتغييب سبل ممانعتها، إذ حتى لو اعتمدت هذه السبل احياناً صيغ التأنيس وتوطّدت بالذكر وتوسلت اللغات الطبيعية والتأملية أو حتى الحكائية التي تنشر القوة، لا يجوز أن ينسينا هذا الأمر، أن استقدام لغات صناعية من الخارج لا يُفهم، على رغم إسهامه أحياناً بإسناد هذه الممانعة، إلا من خلال مشروع السلطة التي ظلت تمسك بزمام المبادرة بتوجيه فاعلية المفصول لتعطيل المأصول، وظل تقاطعها مع دورة التداول/ التلاوة الكبرى إلا ظرفياً أو تدبرياً. وتبعاً لذلك لا يمكننا قراءة التراث بهموم منطقية ألسُنية صرفة، تحجب تدافعاته وتكسّراته، جاعلةً منها إخفاقات عقلية في التسديد، أو عثرات منطقية في التصويب، أو بالمقابل نجاحات تكاملية لا تظهر إلا بالتمثيل بين الآليات، بعد فصلها عن المضامين وتغيب أصولها اللامتقايسة، وهو ما يقود عبدالرحمن الى إظهار التكامل بحصر الاشتغال بالموجودات الذهنية وهو أقرب الى البرهان وعدم تشغيل البيان، فيقع بما يأخذه على الجابري، ويعود للانصياع الى ما يأخذه على الخصم والتقرّب مما أراد أن يصرفه عنه. فرض القواعد يعتبر طه عبدالرحمن التراث مخزوناً هامداً فيجمعه ويكامل بين أجزائه، وكأنما المستَهلَك يُستعاد منقّاً من استخداماته بمجرد القراءة، فيما هو أمر لا يتم لأحد إلا اذا استكملت متحركيات التراث انطلاقاً مما يحررها من النظم الإقفالية الماضية ويكاملها في الراهن، ومثل هذا الأمر يتطلب معاودة طرح السؤال المركزي الذي حكم حقل التداول وعيّن دوراته وتنازعاته، وهو سؤال يدور حول القواعد وجهات فرضها ومصادر آمريتها ومشروعيتها في فضاء يتعين أساساً بلغة الإعجاز القرآني التي لا تضبط بمفاهيم التداول. ومن غير الممكن تعيين معنى القاعدة قبل ربطها بآليات فرضها التي لا تنفك عن طبيعة مصادر تزوّدِها بالفعالية واشتغالها في مدار تداولها وسبل استردادها بتنقيتها من تعلقاتها الحدثية التخصيصية، وإن هذا المعنى المشروط هو الذي يكشف زيف تعميم مفهوم القاعدة الذي يقود آرنست غلنر مثلاً الى تقريب نظم غير متقايسة حيث يأخذ مفهوم القاعدة دلالات واستخدامات يمتنع العبور في ما بينها. وإغفال هذا المبدأ نفسه هو الذي يحول دون أن يكتشف عبدالرحمن ما ينطوي عليه الإخلال به عندما تقرّب قواعد من أنظمة تعطل نظام الإعجاز، من عنف سلطوي ينحجب وراء أساليب التأثيل اللغوية. العبارة والإشارة إن التزاحم بين الأصول اللامتقايسة لفرض القواعد الوحي، العقل والقوة الذي يفسّر جهود الدولة الإسلامية التاريخية لتطويع اللغة القرآنية بلغات بديلة موازية النقل/ العقل، هو ما يخفيه نظام التراث حين يظهر نفسه كنظام لغوي مستقل عن السياسة ومتعالٍ عن التسييس، من دون أن يكون المقصود هنا تبرير قراءة هذا النظام بوصفه ظلاً لحركة الفعل التاريخي وتغييب دور نظام الإعجاز القرآني بما هو مبدأ الجماعة ومصدر حركيتها الممانعة لبروز أي قوة مركزة تجعل نفسها مصدراً لتشريعٍ يخرج على مدار لغة الإعجاز. وتبعاً لما تقدم يتطلب فهم القول التراثي التنبّه الدائم الى أن تكوين حقل التراث لا يجعله حقلاً تداولياً من حيث طبيعته نفسها، أي حقلاً يتأمن فيه كتحصيل حاصل إمكان تدرج الكلام في طيف من القول مزاجه العبارة والإشارة بحيث يتزايد أحد العنصرين كلما تقدمنا من قطب الى آخر، أو آليات ذاتية تهزم الأنا الآمرة الفارضة ليبدأ الكلام دائماً من الاثنين بحسب النظرية التداولية الحديثة وكأنما لهذه النظرية صدقية منيعة وكاشفية تجعلها قادرة على احتواء دورات الأقوال والأفعال في حقل ذي فرادة لا مثيل لها تتمثل بانفتاحه على لغة إعجازية تحدد نفسها خارج أي تصرّم وفوق أي تداول. ليس صحيحاً أننا هنا أمام تواصل وتناغم بين عبارات وإشارات يشدُّها نزوعٌ الى التحاور والتبليغ وقهر الآنية السلطوية الفارضة لأسس الحوار وموضوعاته ومناطه، ليس صحيحاً أننا أمام انجازية الأفعال في القول ما يذكّر بإنجازية أوستن في عالم يسوده التعاشق التأنيسي، بل نحن أمام مشهد المساحات المتكسرة حيث تطعن التقسيمات الكلامية المذهبية وآليات التبديع والتكفير وخضوع المحاورات لاحتياجات السلطان أو تحولها الى طاقة رمزية تستهلك في دائرة تدبيره كونها لا تنفصل عن أفعاله ولا تختصر بمفهوم الإيديولوجيا الحديث الذي لا يخلو "تقريبُه" من تعمّلٍ وسخف. ليس ها هنا أي توازن بديهي وتناسق أصلي بين صنفين من الكلام يتعينان بنوعين من الدلالة، إذ لا شيء يؤكد تفضّل الدلالة الموضوعة التي تجعل معنى اللفظ هو عين الشيء الذي وضع له على "الدلالات" الاستعمالية في هذا الحقل التنازعي حيث تتغالب القوى والأطراف على فتح وإغلاق السياقات وعلى تحجيم المقامات وفرض المعاني، لا شيء يؤكد أيضاً أن العبارة والإشارة عنصران في مزاج متكون واحد وليسا متكونين يهدد أحدهما مزاج الآخر، ويخرب آليته ويعطّل حركيته، ليس من المستبعد أبداً أن تتنطّح استعارة - بعد أن يفرض استعمالها - الى احتكار "الحقيقة"، التي ليست سوى هذا الاحتكار الذي يحوّلها الى صيغة عبارية. "ما هي الحقيقة"؟ يتساءل نيتشه، ويجيب بما ينقل عنه عبدالرحمن: "إنها حشد مضطرب من الاستعارات والمجازات المرسلة والتشبيهات بالإنسان أو قل باختصار جملة من العلاقات الإنسانية التي تمّ الارتقاء بها وتغيير صورتها وتحسين لفظها ومعناها على طريقة الشعر والبلاغة، والتي، بعد طول استعمال تظهر لشعب ما، مكينة ومشروعة ومُلزمة: إن الحقائق إنما هي أوهام تُنوسي أنها كذلك واستعارات اضمحلت قوتها الحسية ونقودٌ ذهبت نقوشها فصارت تُعدُّ معدناً غفلاً، لا سكة مضروبة1، هنا لا يدور جوهر كلام نيتشه حول أصالة الإشارة كما ينوه طه عبدالرحمن، بل حول مصدر الحقيقة، وبدل أن يتذكّر عالِمُنا الجامع بين علوم التراث وعلوم الألسنية، إن اقتصار الحقيقة على دلالة عبارية واحدة لا يخلو من تعطيل لمبدأ التعارض ومن تقويض للتداول نفسه، استخف برأي دافيدسن ولم يرَ فيه كشفاً وصفياً لمتحركية العبارة والإشارة في حقل يقوم على مبدأ فرض القواعد من قبل مركز متأصل في داخله" إذ ما ينكشف من رأي دافيدس، إنما الآلية العميقة التي تحكم حقل القول والفعل في أنموذج تخاطبي يشهد تعطيل التداول وقطع التحاور بإحلال الآمرية مكان الإنجازية القولية2. أليس صحيحاً أن التحاور لا يقوم بالبرهان؟ يُجيبنا عبدالرحمن هذا صحيح. وألا يقوم البرهان على العبارة وألا تدعي العبارة التدليل على الحقيقة وحصرها بمعناها؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فكيف يجتمع الصدق والحقيقة والحرفية مع المجاز والمضمر والمتعارض. إنه يجتمع شرط أن لا نسلّم حكماً بأن المنطق والحساب لا يقبلان التحاور والتعارض وهما فعلياً يقبلانه إلا إذا صرف عنهما بالقوة وبفرض العبارة البرهانية لفعالية ناجزة، وإذا تتبعنا فلسفة العلم باتجاهها النقدي نرى أن لاكاتوس لا يستبعد التحاور في الرياضيات، معتبراً في سياق نقده للدوغمائية الرياضية، أنّ تثبيت الاستعمالات المتعددة على دلالة واحدة لا يتم إلا بالفرض الخارجي أو لما يقتضيه التحليل وليس لطبيعة جوهرية رياضية3. إن الإشارة لا تقول شيئاً برأي دافيدتسن وتفعل كل شيء، ولذلك يجب أن تُحذف من حقل القول لتصنف كأفعال تابعة للتلفظ أما ما هو قول حقيقي ما هو قول ذو معنى فهو ما معه التقرير، والتقرير لا يكون في أنموذج تداولي إلا بكسر التداول وتفريغ الفعالية من حقله وحصرها بالمركز الذي يؤصّل القول ويغلّب استخدامه الخاص له ويفرضه كقاعدة حقيقية، خافياً أن حقيقته تأتي من كونه يعطّل بالفرض الأولي والأمر التعسفي جميع الأقوال/الاستخدامات الأخرى، وبهذا المعنى لا يمكننا درء احتجان القدرة على فرض القواعد من قبل السلطة بمواجهتها بالتداول والتحاور، وذلك لأن شرط اشتغالهما يكمن في وجود نظام لا يتقايس مع الفرض السلطوي من حيث أنه يؤمن لغة تقعيدية تنخرط في مدار لغوي مكتمل يخترق التداول ولا يخترقه وهو ما لا يحققه إلا نظام الإعجاز القرآني. * أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية. * مراجع البحث تنشر في الحلقة الثانية.