أعيشُ عادة بين منحوتاتي، تتناثر حولي، أحيا بها وتحيا بي. أتأملها كمخلوقات أليفة، أعرف كل لحظة في تاريخ تكوينها مذ كانت حجراً في مقلع أو معمل، على طرف جبل أو في مجرى نهر. وباختصار، يشكل تنوعها وتسلسلها تاريخ حياتي. المكان الذي اسكنه عادة يكون محترفي حيث أعمل، مثلاً محترفي في بيروت هو بيت قديم محاط بحديقة تنمو فيها أشجار النارنج والسرو ونباتات الصبار والياسمين، تعيش بينها منحوتات بعضها من أعمالي الجديدة، وبعضها أكثر قدماً، ومنها ما دمرته قذائف الحرب، فبقي من المنحوتة أجزاء صغيرة أو بقايا محطمة. جزء من هذه الحديقة حولته الى محترف حيث تنتظرني دائماً حجارة من كل الأنواع، منها الرخام الأخضر الأردني، والرخام الأبيض الايطالي، الحجر اللبناني الأصفر كالذهب، والحجر الأردني الوردي. أعمل عادة في ساعات النهار، لمعالجة الحجر أثناء فترة انتشار الضوء الطبيعي، حيث يتآخى الضوء مع الحجر، ويتكون نشيدي الحجري بين مطرقة الروح ورنين الأزميل. عزف يولّد من الحجارة مخلوقات تسعى في الأرض. حين اخترتُ أن أكون نحاتة، اخترت طريقة في الحياة. البدايات فتنتني المنحوتات منذ طفولتي، أول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني في عمان، وكان ملعب طفولتنا، أما بيتنا فكان جزءاً من الموقع الأثري المسمى سبيل الحوريات، والذي كان يشكل بأعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية. وهكذا عشت طفولتي بين هذه الحجارة المنحوته مسحورة بجمالها وديمومتها. وبدأت احلم أن أصبح نحاتة، أي صانعة أشكال. كان من حظي أن أذهب الى مدرسة بعيدة عن البيت، فقد أتاح لي ذلك ان امشي على قدمي يومياً للذهاب والعودة، أترك الطرق المعبدة، وآخذ طرقاً ترابية تصعد عبر جبال عمان اللولبية. وكانت سفوح الجبال حقول حنطة أحياناً، أو بقايا مقالع قديمة. والمشي يولد صداقة مع الأرض والشجر والحجر والناس والطبيعة وهو مسافة للحلم والتأمل. وبدأتُ أتأمل جسد الأرض، تداخل الجبال والوديان، سقوط الضوء على تنيات التلال. لقد شغلتني في هذه الطفولة أسئلة متيافيزيقية عن الخلق والتكوين، من أين نأتي والى اين نذهب، وعرفُت الموت باكراً بفقدان أخي فتحي، وكان شاباً مولعاً بالأدب والشعر والفكر، قرأ لي جبران خليل جبران، أخبرني عن احتلال فلسطين، وحكى لي قصة جلجاميش، وأساطير اليونان. وكنتُ في العاشرة من عمري حين فقدت هذا الصديق، أخذه الموتُ بعد مرض طويل ورأيته ينام مبتسماً، وهكذا عرفت أن الموت يتداخل في نسيج الحياة، وأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة الحياة البديعة على هذه الأرض الوافرة العطاء. وأن الحياة تستحق التمجيد، ولكي نمجد الحياة ونكون في نبضها علينا أن نأخذ طريق الفعل والحلم، وأن نكون كلمة صافية صادقة وجريئة. في ذلك الوقت البعيد بدأت اصنع أشكالاً من الجبس، أرسم وأقرأ، وأتأمل كتب الفن عملتُ لبضعة أشهر في محترف الفنان مهنا الدرة، وكان قد عاد الى عمان بعد دراسة الرسم في ايطاليا، إلا أن الألوان الزيتية والقماش لم تستهوني. وكانت عمان مدينة صغيرة، محدودة الأبعاد الثقافية. من الكتب التي أثّرت بي، وكنتُ ما أزال في الصفوف الثانوية، كتاب "اللامنتمي"، اذ تعرفتُ عبره الى نماذج من المبدعين، كتاباً وفنانين وفلاسفة وكلهم آثروا الحياة بإعادة خلق الحياة. بدأت أخطط وأحلم بالسفر في العالم الكبير، من أجل أن أعيش وأتعلم وأرى وأعرف. الخروج الى العالم كانت محطتي الأولى بيروت عام 1963، حيث انهيت دراستي الثانوية في احدى مدارسها، وكان لي فيها أول لقاء مع النحت الحديث بالتعرف الى أعمال النحات ميشيل بصبوص في قرية راشانا، وأقمت أول معرض لرسومي في مقهى الصحافة Cafe de la presse، والذي كان يشكل منتدى ثقافياً في الطابق الأرضي من مبنى جريدة النهار وفي بيروت المتميزة دائماً بحيويتها الثقافية، تعرفت على الكثير من الفنانين والكتاب والشعراء، ومنهم أصدقاء العمر، أدونيس وبول غيراغوسيان، حليم جرداق ونزيه خاطر... وكنتُ بالنسبة اليهم الأردنية الآتية من الصحراء. باريس / مدينة الحلم في شتاء 1964 أخذت الباخرة من ميناء بيروت نحو مدينة الحلم، باريس، عاصمة الفن وعاصمة الدنيا، في متاحفها فنون كل القارات وكل الأزمنة، وفي شوارعها يختلط الناس من كل الألوان والأجناس. فضاء نابض بالفن والجمال والحياة والحرية. بدأت فور وصولي الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة، وكان منهج التعليم يرتكز بشكل أساسي على دراسة جسم الانسان، عبر نحت ورسم الموديلات الحية أو التماثيل القديمة... بدأت اكتشف العلاقة بين عري الإنسان وعري الطبيعة، بين جسد الانسان وجسد الأرض، أتعلم ان الانسان مركز الكون وأن في الجسد الانساني اسرار ومبادئ الحركة والتكوين والامتلاء والفراغ والتناسق والنور والظل ودرجات اللون. وذكرت قول الشاعر "وتحسب أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر". تقع مدرسة الفنون على طرف نهر السين، وكان يكفي عبور الجسر الى الضفة الأخرى لأجد نفسي في متحف اللوفر حيث تسكن التماثيل العظيمة. وهناك اكتشفت فنون حضاراتنا القديمة، والتي شعرت بعمق انتمائي اليها. سحرتني المنحوتات السومرية والمصرية والأنصاب النبطية المنقوشة بالكتابات، رأس الملك "غوديا" مهندس مملكة سومر. وكنُت ألمس على الحجر أيدي نحاتين من بلادي صنعوا منذ آلاف السنين هذه الأعمال المجيدة ورأيت انني انتمي لرؤيتهم الفنية: خطوط صافية تحدد أشكالاً خالصة مختزلة. المنحوتة ليست نسخاً عن الطبيعة بل اعادة تكوين، هي الخارج والداخل معاً، لها هندستها ومقاييسها ونسبها الخاصة بها كعمل فني. وحضورها اضافة لما هو على الأرض منحوتات للتأمل الدائم توحد بين الحركة والسكون، بين المرئي واللامرئي. أحببتُ المنحوتات الأتروسكية، والمرحلة اليونانية القديمة ومنحوتات سكان جزر المحيطات البعيدة، وعرفت كيف حدثت ولادة فن القرن العشرين عبر التأثر بمبادئ التجريد والرمزية والاختزال التي مارستها فنون الحضارات الشرقية والافريقية، والتي حررّت الفن الغربي في القرن العشرين وفتحت أمامه آفاق المغامرة الحرة في التشكيل. في متحف الفن الحديث وصالات العرض الباريسية كان يمكن تأمل أعمال بيكاسو وميرو فان غوغ وجاكوميتي وكالدر وبرانكوزي الذي اعتبره معلمي وملهمي. هكذا بدأت حياتي الفنية بمرافقة هذه الأوركسترا الفنية الكبيرة كنتُ اتابع أيضاً قراءاتي في الشعر خاصة أدونيس وريكله وهولدرلن. أتعرف الى كتابات المتصوف حيث جذبتني فكرة وحدة الوجود. أيضاً عشقت الموسيقى الكلاسيكية وكلها روافد ضرورية للروح، ولوعي الذات. أول منحوتة من بين مواد النحت العديدة، اخترتُ الحجر، مادة الأرض الأولى. عام 1965 صنعتُ أول منحوتة من الحجر أسميتها "أمومة الأرض"، تركتُ ضربات الأزميل الخشنة، على جسد المنحوتة، والتي كانت تتألف من كتلتين بينهما فراغ يسكن فيه شكل كروي، ومن هذه المنحوتة التي تلتقي مع منحوتات حضاراتنا القديمة بدأ بحثي الخاص. شعرت انني أجد اشكالي وطريقي، عبر اختزال الأشكال، استداراتها، تمحورها حول مركز، نموّها، عرفت كيف ينبض الحجر ويحيا، وبدأت رحلتي في اكتشاف لذة تحويل الحجر الى منحوتة، ودخلت عالم البحث في الشكل هذا البحث المتوالد الغامض. النحت بالنسبة الي هو بحثُ في الشكل، وهو بحثٌ وتوليد لامتناه لأن امكانيات التشكيل لامتناهية، وان كنّا قد تعلمنا ان العالم قد تكوّن وانتهى، فقد علمني النحت أن الحياة والكون هي في استمرارية التكوين الدائمة. حتى اني عشقت كلمة "تكوين" وبدأت امنحها للكثير من منحوتاتي. في محترف النحات كولاماريني في مدرسة الفنون كنّا عائلة من النحاتين الذين اختاروا النحت المباشر في الخشب أو الحجر، وكانت مطارقنا جميعاً تعمل في تشكيل المادة عبر تعرية الكتلة للوصول الى المنحوتة... كل يعمل بأسلوبه الخاص، كنت العربية الوحيدة بين آخرين من اليونان وأميركا اللاتينية واسبانيا واليابان ورومانيا وأوكرانيا. وكنّا في ذلك المحترف نشكل أممية من النحاتين، وقد واصلنا جميعاً النحت باحتراف بعد المرحلة الدراسية، واحتفى بنا أستاذنا باقامة معرض عام 1972 في متحف رودان عنوانه "كولاماريني وتلامذته". في ذلك العام أيضاً شاركت بمعرض "صالون أيار" في متحف الفن الحديث في باريس، وكان يعتبر ملتقى سنوياً لعرض انتاج الفنانين المعاصرين، وكان منهم بيكاسو وميرو وجاكوميتي، وكان يسمح للفنانين الناشئين بالمشاركة في المعرض بعد ان تمر أعمالهم على لجنة خاصة، وأذكر اني شاركت بعمل من الرخام الأبيض المصقول، وكم كانت دهشتي حين قرأتُ اسمي واشارة الى عملي في مقال كتبه احد النقاد في مجلة "الآداب الفرنسية". لقد غلبني يوماً الصديق الشاعر محمود درويش حين أعطيته أن يختار منحوتة هدية لعيد ميلاده الأربعين، فاختار هذه المنحوتة بالذات، ولم أكن اتوقع ان يفكر باختيارها وكلما قرأت ذكراً للرخام في قصائده أحسست انه من اشعاع هذه المنحوتة! الايمان لكي تكون نحاتاً ينبغي ان يكون لديك الايمان، لا أقصد هنا الايمان الديني، ولكن الايمان الذي يجعلك تهب نفسك صافياً لهذا العمل، وما يحيط به من جهد وصعوبات عملية وتحديات، وساعات طويلة من العمل أياماً وشهوراً لتحقيق منحوتة ما... يتطلب أيضاً العزلة والتخلي والسفر في الداخل. المنحوتة تلد الأخرى، وعناصر اللغة التكوينية تتكرر وتتغير وتتبادل المواقع، وتنتقل من حجر أبيض الى حجر أسود أو أصفر مأخوذاً باكتشاف الأشكال وصياغة النبض الحيّ. وكأنّ النحت تجسيد للسر والغموض كأنه جسد للشعر والروح، وهو سفرٌ في اللامرئي. بيروت عشت في بيروت منذ عام 1969، حيث أخذت منحوتاتي تنمو بعفوية، تركتُ نفسي تبلور أسلوبها ولغتها التشكيلية عبر العمل، وأنا مدينة دائماً للكتاب والنقاد في لبنان الذين اهتموا وكتبوا عن اعمالي، ولم تقتصر كتاباتهم على اضاءة عملي بالنسبة للقراء فقط، بل شكلت لي أحياناً نقاط تأمل وكشف أعيد عبرها قراءة أعمالي. من هؤلاء الكتاب أخصُّ بالذكر خالدة سعيد، ونزيه خاطر، سمير الصايغ جوزيف طراب، سلطان وغيرهم. أبحث دائماً عن الشكل النقي الخالص، لا أحبُّ الصراخ في الفن، لا أحبّ المأسوية ولا التعبير المباشر، لا أحبُّ النحت الذي يشوّه شكل الانسان، أيضاً لا أحب المواد البلاستيكية ولا المواد المصنعة، ولا التركيبات السريعة الزوال... اكتفي بالحجر الذي بإمكانه أن يأخذ أي شكل، ويقبل المعالجة بكل الأدوات من المطرقة والإزميل الى احدث الآلات... الحجر القديم الجديد، الساكن والمتحرك... نون انسان عام 1981 عملت أول منحوتة بحجم كبير، ارتفاعها 225سم، وكانت بوحي مقال لصديقي كمال بلاطة عن كلمة "انسان". وقد اخترت حرف النون لكونه حرفاً بخطوط دائرية تتمحور حول نقطة والمنحوتة تتكون من ثلاث قطع تشكل الماضي والحاضر والمستقبل في بناء عمودي. أسميتُ المنحوتة "تنويعات على حرف النون". اشتغلت المنحوتة في أحد معامل الرخام في بيروت، ثم نقلتها معي الى عمان عام 1983، وأقمتها في ساحة أمام البيت الذي سكنته هناك. وحين تركت عمان أحببت ان تبقى في مكانها أثراً مني لأهل مدينتي. وللأسف فوجئت قبل شهور عدة أنهم حين أرادوا نقلها من موقعها الى مكان آخر سقطت من الرافعة، وتركت قطعاً على الأرض في المكان. وهكذا تتعامل مدينتنا مع الأعمال الفنية، حيث القيم الثقافية ما زالت في هامش الهامش. النهر منحوتة من الجرانيت الأزرق انجزتها عام 1983، دائرة قطرها حوالى 5.1م، ويعود الفضل في امكان انجاز هذه المنحوتة للدكتور أحمد الحلبي، والذي كلّفني عام 1983 بعمل ثلاث منحوتات، وترك لي الحرية المطلقة في عمل ما أريد. ومنحوتة النهر تنتصب حالياً على مدخل بنك القاهرة في عمان، وقد أنجزت هذه المنحوتة في معمل للرخام، من دون أي افكار مسبقة، وانطلقت من شكل دائري، ثم جرى فيه شكل النهر، بعدها كانت الأجنحة. وتركت جزءاً من المنحوتة على خشونة طرق الإزميل، وصقلت اجزاء منها حيث تولد اختلاف كبير في اللون. أما النهر في المنحوتة فهو نهر الأردن، والجناحان هما الضفتان: الأردنوفلسطين... دائرة الأيام السبعة منحوتة من الجرانيت، أنجزتها عام 1986، بتكليف من عبدالمحسن قطان، والذي قدمها هدية لجامعة العلوم والتكنولوجيا في شمال الأردن. والمنحوتة عبارة عن قرص دائري مشقوق في الوسط، حيث يتقدم نصف الدائرة الى الأمام ونصفها الآخر الى الخلف، وهذه المسافة توحي بالبعد الزمني في المنحوتة، يتوسط المنحوتة فتحة دائرية تعبرها عمودياً 7 مسننّات وفراغاتها وهي دائرة الأيام السبعة. احدى الوحدات الزمنية التي نعيش فيها وعلى رغم أن وزن المنحوتة النهائي حوالى ستة اطنان إلا ان بوسع طلاب الجامعة ان يجعلوها تدور حول محورها بتحريكها باليد، مما يخلق حواراً بين المشاهد والمنحوتة والقدرة على تحريكها تمنح شعوراً بالدهشة والفرح. هندسة الروح منحوتة من الرخام الأبيض بارتفاع 3 أمتار، انجزتها عام 1987، وكانت هدية الأردن لمعهد العالم العربي في باريس وهي عبارة عن كتلة مستطيلة، تنقسم طولياً الى مسافات أقرب الى التقاسيم الموسيقية، يقطعها أفقياً تموجات نصف دائرية هي في آن تموجات الرمل أو الماء يتوسطها شكل هلال يولد. أسميتها "هندسة الروح" لشعوري أن كل عمل فني هو تجسيد بناء هندسي لما ينتمي لعالم الروح أو الوجدان... وهذه المنحوتة مستوحاة من الأنصاب النبطية بمعالجة حديثة معاصرة. ملاحظة النحت هو لغة الشكل بامتياز، والشكل هنا هو الجوهر وهو المعنى. كتبت الصديقة أسيمة درويش تقديماً لمعرضي في حزيران يونيو الماضي، أنّ "منى السعودي تنحتُ الحجر بقلبها لا بيديها". أحببت هذه العبارة لأنها تلخص بعداً أساسياً في عملي وفي حياتي حيث يذهب القلب أبعد من العقل، والعمل بالقلب بالنسبة إليّ هو أيضاً العمل في الحرية، أن لا يحدّني عملي ولا عمل الآخرين، وأن يبقى العطاء الفني بحثاً مفتوحاً خالصاً وصافياً... * نحاتة اردنية مقيمة في بيروت - والنص كلمة عن تجربتها، قدمتها اخيراً في دارة الفنون في عمان.