على صورة الصداقة التي جمعتهما وعقبات الأزمنة التي فرقتهما، هكذا تلتقي روائع جبران خليل جبران ويوسف الحويك في صومعة الفن على عتبات قاديشا والأرز، وسط الطبيعة المهمة، بجمال صخورها وجبالها وأوديتها وينابيعها، كي تعانق وجوه جبران المنبعثة من ضبابها الأزرق السماوي، حكاية الصخور التي طوعها أزميل الحويك ليكون أول نحات في تاريخ المشرق العربي الذي أسس لمسيرة النحت في التشكيل اللبناني. فجبران والحويك الرفيقان المغامران والثائران على العبودية والجهل والتخلف والرافضان للاستعمار والمناديان بالحرية واللذان جمعتهما أقدار الفن في مطلع القرن في باريس، يعودان ويلتقيان في نهايته، في متحف جبران في بشري، عبر المعرض التكريمي الذي نظمته لجنة جبران الوطنية وجمعته من مقتنيات أكثر من عشر مجموعات خاصة كتحية ليوسف الحويك 1883 - 1962 وقد تضمن 29 منحوتة بين تماثيل نصفية ونحت نافر وميداليات على الحجر والرخام والبرونز والجص والطين و36 لوحة زيتية ومائية وفحمية و37 رسماً سريعاً بقلم الرصاص والحبر الصيني وهي ليست إلا جزءاً ضئيلاً من انتاج الحويك المشتت والمجهول والموزع في غالبيته بين الساحات العامة وحدائق البيوت البيروتية وبعض كنائس لبنان وأديريته... وكأن النجاحات والأمجاد التي حققها الحويك في كلٍ من روماوباريس، قد انقلبت الى يأس ومرارة وخيبات متعاقبة، عاشها في غمرة تقلبات سياسية كان الحويك طرفاً في بعض تجاذباتها وصراعاتها. فلم يسلم من الظلم والنكران والجحود، مما دفعه ليكتب في وصيته قبيل وفاته بألا يقام له جنازة كبيرة وأن يوضع في تابوت متواضع وألاّ يُعَلَّق على صدره أي وسام لطالما رفضه طوال حياته. هو من مواليد حلتا - قضاء البترون - درس في مدرسة الحكمة في بيروت من عام 1898 حتى العام 1902. موهبته بدأت منذ الطفولة حين كانت دفاتره المدرسية مرصعة بالأشجار والأزهار، ولم يكن في قريته من مشجع سوى الطبيعة التي شغفته ألوان فضولها وتقلبات أضوائها. من بواكيره صورة لجدته وأخرى لأمه يتتجلى فيهما عبقريتته ورهيف حسه الفني. هكذا لم يكن مستغرباً أن يستجيب يوسف وهو بعد يافع لرغبة عمه البطريرك الياس الحويك ذي النفوذ العظيم آنذاك ويهاجر الى روما أولاً فراراً من الطغيان العثماني وثانياً طموحاً للارتواء من مناهل الفن الإيطالي العريف. فكان في العشرين من عمره حين التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في روما حتى العام 1908 حين بلغه أن رفيق دراسته في بيروت جبران خليل جبران جاء الى باريس لدراسة الرسم والتصوير، فاستقل القطار من روما الى باريس، حيث تفرغ كلياً للنحت بناء على نصيحة صديقه جبران، فتتلمذ على يد "بوردال"، الذي كان بدوره من طلاب محترف "رودان" ومن المنفذين لأعماله. ومما زاد اعجاب الحويك برودان هو أنه عاصر ذروة صعود روائعه النحتية في معارض باريس وصالوناتها ومجتمعاتها المخملية، كمجدد للكلاسيكية ومحرك لها، بقدر ما هو محرض عليها... ولأن فنه ذو نزعة انسانية كبيرة حاملة لجمالية التراث الكلاسيكي القديم لا سيما الإغريقي منه بأسلوب متحرر، فقد تأثر به كل من جبران والحويك لدى مخاطبتهما لإنجازات رودان في بارولييف "بوابة الجحيم". تلك المرحلة الباريسية من زهو الشباب وغبطة التحصيل العلمي، التي تقاسمها جبران والحويك عكسها المعرض في رسوم سريعة من دفاتر يوميات الحويك ذات الحجم الصغير، وهي ذكريات نادرة وحميمة، تبدأ بوجه جبران ثم تصور نزهاتهما على ضفاف السين وفي شوارع باريس وحدائقها بين آثارها أو متاحفها ومقاهيها، في حوارهما الحميم أو محاطين بالأصدقاء والزملاء وفي المكتبة حيث يطالعان أو خارجها حيث يتسكعان ويتسليان. مثل شريط متسلسل تبدو تلك الرسوم الصغيرة أو العجالات التي تبدأ العام 1908 وتنتهي أواخر العام 1910 حين قال جبران للحويك "الشرق يحتاج لمثَّال وستكون الأول. إذا شئت الرحيل معي الى الولاياتالمتحدة الأميركية فالمجال هناك أوسع". هكذا عاد جبران الى أميركا والحويك الى لبنان، إلا أن وقوع الحرب العالمية الأولى جعلته يهرب الى باريسوروما من حبل المشنقة. فتزوج العام 1925 من مركيزة ايطالية من عائلة باوليني ما لبث أن هجرها بعد عام وقد أنجب منها ولداً، وكان منغمساً في السياسة حتى أذنيه، فانتظم في صفوف مليك العراق فيصل الأول، الذي نحت له تمثالاً نصفياً، كما نفذ مجموعة كبيرة من التماثيل منها للبابا بندكتوس الخامس عشر الذي وُضع في الفاتيكان، ولأمير الشعراء أحمد شوقي وأهمها في تلك الحقبة تمثال يوسف بك كرم راكباً على حصانه شاهراً سيفه موجود في باحة كنيسة اهدن كما خلد على خامات متنوعة وجه عمه البطريرك الياس الحويك تماثيل نصفية وكاملة العام 1939 عاد الحويك نهائياً الى لبنان فأقام محترفه أول الأمر في حديقة قصر الشاعر شارل القرم في بيروت، وبتواضع الزاهد المتقشف راح ينحت وجوه عصره مكرساً حياته للفن الذي طالما اعتبره رسالة عظيمة لنفس طاهرة وموهبة مثل "نسمة الهية" على حد قول جبران، ثم ما لبث أن شيد منزله ومحترفه الخاص في قريته عورا بالقرب من حلتا في البترون بين أحضان الطبيعة وأشجار الصنوبر حيث أمضى أنضج سني عمره وأزميله رفيق أنامله، يصقل وجه صخور الأرض وحجارتها بملمس الحرير، مسجلاً بذلك ظهور مجموعة "النفس الطاهرة" ووجوه قرويات وعذارى نائمات أو عاريات، بالإضافة لتمثال الشهداء الذي صممه ليحتل مركزه لفترة من الزمن، في ساحة البرج في بيروت وقد جسد فيه الوحدة الوطنية عبر تآخي جناحي لبنان المسلم والمسيحي موجود في حديقة متحف سرسق ولكن اللجنة الفنية المشرفة على مباراة نصب الشهداء ما لبثت أن استبدلته بنصب للنحات الإيطالي مازاكوراتي، مما جعله يصاب يخيبة أمل كبيرة زادت في انطوائه وعزلته لا سيما بعد تعرضه لحملات التشهير المتعمدة. ومن الصورة الزيتية لوجه يوسف الحويك في محترفه الإيطالي، وهو يقوم بدعك قطعة طين بأنامله السحرية قبيل أن يشكلها، بريشة الفنان مصطفى فروخ الذي تردد عليه أثناء فترة دراسته للفن في روما العام 1926 انتقالاً للإنتاج المتنوع الذي يكشف لأول مرة عن أهميته كرسام كلاسيكي متمكن وملون بارع في آن، فضلاً عن عبقريتته كنحات طليعي ظل مرجعاً ومعلماً للأجيال اللاحقة. فقد عرف بعمق أحوال الجسد الإنساني بأدق تفاصيله التشريحية والجمالية، كما تُبينها دراساته "للموديلات" التي تبوح بليونة الخط الواحد المتواصل من الحافة الى الحافة، في استقامته والتوائه لتجسيم الشكل بلا تردد أو تعقيب. فقامات العذارى كأنهن ولدن من عري الطبيعة، يتردد بينهن مثال المرأة التي تغطي صدرها بذراعيها خجلاً وغواية. ولطالما أحب الحويك أن يجسد جمال الوجوه حين تهل مثل القمر لتنتصف. تلك الدراسات المتباينة التواقيع والأمكنة والتواريخ، تعكس نهم العين وتأملاتها الدقيقة للأشكال النحتية بل هي مقاربات حقيقية لها مقاييسها الكاملة وتخطيطاتها وظلالها. فالأرث التشكيلي الضخم الذي تركه الحويك تصويراً ونحتاً، يعكس الهواجس الخفية التي كانت تتصارع لتؤكد حضورها الخاص. من جهة فأن معرفة الحويك العميقة للتراث النهضوي الإيطالي، تتضح من خلال الجدرانيات التي رسمها على طريقة "رافائيل"، لتزين كنائس سيدة لبنان الأشرفية - بيروت وعددها عشر ودير عبرين البترون وبكركي حريصا بمواضيع تنتمي للفنون الدينية المسيحية بشارة العذراء، درب الآلام والجلجلة والانزال عن الصليب... كما أن اطلاعه على النحت الإغريقي القديم يعكسه نموذجين في المعرض من نماذج "الكارياتيد" أي امرأة على العمود، ثم معالجته للوجوه المدينية بأسلوب الكلاسيكية المحدثة، الذي سوف يميل أكثر لإظهار الرومانسية العاطفية التي ألبسها الحويك طابع الريف اللبناني. ذلك الطابع الذي جعل أسلوب الحويك يضارع في براعته المهنية والتقنية كبار النحاتين ليصل الى خصوصيته الشرقية وبيئته المحلية. إذ أن حبه للأرض والطبيعة في الحقبة التي مهدت الرومانسية بدورها إبان مرحلة الاستقلال لظهور المدرسة الانطباعية، جعلاه ينغمس انطباعياً في ملاحظاته وتأملاته في أعماله الصغيرة بالمائيات. وثمة ما غذى تلك الخصوصية في فن الحويك تجلى في اختياره لمواضيعه المتجذرة في تاريخ لبنان وأساطيره وعاداته وتقاليده. فقد استعاد أسطورة أوروب ابنة ملك فينيقيا على الثور الجامح، في احدى ميدالياته البرونزية التي ما لبثت أن تحولت شعاراً لحقبة مجلة فينيقيا في الثلاثينات، كما صور ونحت صبايا الغدران وغازلات الصوفف وركز على موضوع الصبية التي تحمل على كتفها جرة الماء لتملأها من العين، وكثيراً ما خاطب الحويك التراث الفولكلوري اللبناني عبر نموذج أميرة من أميرات لبنان في القرن التاسع عشر، بلباس الطنطور والسروال الفضفاض والصدارة المزركشة بالزخارف كما يتضح في إحدى أعمال النحت النافر على الطين والأهم منها هي تجسيده لبساطة الحياة القروية اللبنانية، عبر لوحة هي من روائع الحويك في التصوير الزيتي وقد أهداها لأخته "محبة" العام 1909 فصورها جالسة على الأرض في غرفة متواضعة وهي تخيط على ضوء شحيح منديلها الأبيض. ووجه آخر في لوحة زيتية، لفتاة ريفية يدل عليها فستانها المزهّر ومنديل رأسها أو قمطتها وهي تستعد لكتابة رسالة... وفي كل المراحل تطل وجوه الحويك صافية منسابةٌ خطوطها مثل جداول المياه في الحقول البرية، لأن الفنان ظل متعلقاً بالجمال الطبيعي والبساطة التلقائية بعيداً عن الانفعال الحركي أو التضخيم العضلي للجسم. فقد مال نحو التعبير عن حالات النفس الداخلية. فجعل المرأة عالمه الأمثل كرمز للخير والجمال والفن وعطاء الأرض وتنوع فصولها. كما اعتبر مثل رودان الكتلة الصماء هي عجينة التكوين التي تجعل اليدين تبوحان بأسرار الفكر، وهي بداية لنمو الوجوه وتطورها الكتلوي والحركي، نمواً ينبت من الأرض ليعود اليها ثانية، من العدم الأصم الى الوجود الحي. هكذا تتخرج من أعماق صخور الطبيعة وحجارتها الصماء وجوه الحويك المخلَّقة، وهي في القيلولة، وقد أثقل النعاس أجفانها فنرى رأس المرأة متساقطاً في ذروة النوم على كتفها والطبيعة وسادتها. ولطالما أجب الحويك أن يقطف وجوه نسائه في حالات النوم مكتشفاً ذلك الجمال النائم وشغوفاً به، حيث لا يمكن لنظرة أن تعترض طريق يدي النحات. ويتبدى فراش المرأة الأبيض ووسادتها الحجرية في روعة النوم الأبدي المقدس، الذي لا يلبث أن يستيقظ بشيء من الغواية والخفر. فنور الجبين لا يلبث أن ينكسر ظلالاً على الخدين، لتظهر الوجوه كأنها متوثبة في سباتها، ترتسم على محياها ابتسامة صغيرة على الشفتين، ثم تنسحب عذوبتها على كامل الوجه. ويبدو أن وجه المرأة النائمة قد احتل موقعاً مهماً في انتاج الحويك لتردد موضوع النوم الذي أعطاه حلةً نورانية شفافة وملائكية حيث في إغماضه العيني، إقصاءٌ للوعي في وجه الإنسان و"العين نافذته" - كما يقول جبران "أعرف الوجوه لأنني أنظر اليها من خلال ما ينسجه بصري فأرى الحقيقة التي وراءها بباصرتي" - من كتاب المجنون / فصل الوجوه وهكذا كلُ ذاتٍ يلازمها وجه وكل وعي له عين تؤديه. إلا أن محاكاة الجمال لم تقتصر على إغماءة الملاك في وجه المرأة، بل وجدها أيضاً في حنو الطبيعة عليه، التي لجأ اليها ولم ينقطع عن تصويرها فهو مثل رودان حين ارتحل الى بلجيكا وراح يكتشفها في مجموعة من المناظر الخَلَوية... هكذا الحويك في أحضان قريته الأم، مع أوراقه وأقلامه وعلبة ألوانه التي لم تفارقه، يصور سور بيته وشجرة الصنوبر بمحاذاته عند مغيب الشمس، ومن أطراف "عورا" وهضابها ودوربها الضيقة الى حدائق بيوتها وقفارها. مائيات تضاهي لوحات الإنطباعيين، تعود الى مراحل أواخر الأربعينات والخمسينات، سجل فيها الحويك عشقه للطبيعة التي انكفأ يغنّيها ويراقب تساقط الأضواء على ألوان أشجارها وحقولها. هكذا ترتسم طريق العودة الى الذات والهجران والرحيل لدى صاحب "النفس الطاهرة" كي تلتئم مع صاحب "الأرواح المتمردة" و"الأجنحة المنكسرة" في أمكنة بجوار القلب. إذ كتب الحويك في اعترافات لم يضمها كتاب يقول: "منذ زمن لم أحلّق في الأجواء العالية. قد تلهيت كثيراً بما جرى حولي وحوالي، وفي بعض ظواهر المحنة. أعود الى عادتي وأبتعد بالفكر الى العزلة المريحة. الى سطح بيتي في عورا والى ظل السنديانة القديمة. فأنام على الصخرة القريبة وأحلم أحلاماً جميلة".