قد تكون الاتهامات الموجهة الى مارتن انديك خطيرة ومحقة، وقد لا تكون، لكن وضع هذا المسؤول الاميركي موضع تشكيك يعطي فكرة عن أجواء نهاية عهد كلينتون، خصوصاً في وزارة الخارجية. تبقى شهرة انديك معقودة الى كونه كادراً صهيونياً متقدماً، لا الى عبقريته السياسية، اذ انه لم يظهر في المناصب التي تسلمها قدرة استثنائية على استنباط الأفكار والسياسات، ولم يرق الى مصاف هنري كيسنجر مثلاً، أو حتى على الأقل الى مصاف ساندي بيرغر. مع ان التوقعات بدأت عالية جداً لمستقبل هذا الاسترالي الذي منح الجنسية الاميركية عشية تعيينه في مجلس الأمن القومي مشرفاً على ملف الشرق الأوسط. وكان أقل ما يرشح اليه هو منصب وزير الخارجية. لكن يبدو ان تجنيسه العاجل والمبكر لعب ايضاً دوراً سلبياً في لجم صعوده في المناصب. وعندما عين سفيراً في اسرائيل بدا المنصب حائراً بين الترفيع والتخفيض، اذ أظهره كأنه كان منذ بداية "مهنته" السياسية في واشنطن مجرد مكلف بمهمة في اطار اللوبي الصهيوني، أي انه أرسل الى اسرائيل لأنه غير مرشح للذهاب الى أي مكان آخر. الا انه حلّ في اسرائيل في وقت غير مناسب، وكان عليه ان يدير التباين بين الإدارة الاميركية ورئيس الوزراء الليكودي بنيامين نتانياهو بشكل يحول دون استفحاله الى خلاف. وبديهي ان الكثير مما تعانيه "عملية السلام" حالياً يعود تحديداً الى ضياع سنتين ثمينتين من "المرحلة الانتقالية" ما تسبب بضياع سنتين اخريين مع باراك قبل الوصول الى استحقاق "الوضع النهائي". قيل ان انديك أكثر ميلاً الى سياسة حزب العمل، ولكن آراءه المعروفة منذ مروره في ادارة "معهد واشنطن" كانت أكثر ميلاً الى العقيدة الليكودية. الأكيد انه على رغم تقلباته تبنى النهج الذي أسسه اتفاق اوسلو وشارك في وضع التوجهات الاميركية لمساعدة اسرائيل في "تنفيذ" ذلك الاتفاق بمفاهيمها وعلى طريقتها. لكن الأرجح انه بقي أقل معرفة ب"كلمة السر" من المنسق دنيس روس الذي اكتسب دائماً صفة "المبعوث الرئاسي" اي انه يفاوض باسم الرئيس كلينتون. في عهد نتانياهو كما في عهد باراك، بدا عمل انديك في السفارة الاميركية في تل ابيب غير مؤثر وغير فاعل، لكنه ظل في اطار مهمته ككادر صهيوني. فالمهم عنده هو السهر على ابقاء مصلحة اسرائيل، حتى في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، ذات أولوية على المصالح الاميركية نفسها. وقد تكون السفارة في اسرائيل، بالنسبة الى شخص مثل انديك، المكان الوحيد الذي تذوب فيه "ازدواجية الولاء"، اذ انه موجود على "أرض" الحليف ولا بأس في ان يتماهى معه ويمارس ولاءه بحرية. وخلال "استراحة" بين مهمتين في سفارة تل ابيب عاد انديك الى واشنطن ليعين مساعداً لوزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. فانتهز الفرصة ليقوم بمهمة اسرائيلية في سورية، ودخل في حوار استحسنته دمشق وأشادت بالأفكار والمواقف التي سمعتها من انديك. لكن دنيس روس تمكن في النهاية من استدراج المسار السوري الى "فياسكو" قمة جنيف، مبرهناً انه كادر صهيوني أعلى رتبة من انديك. في أي حال دلت تجربة قمة كامب ديفيد الى افتقاد الإدارة الاميركية في فريقها المهتم بملف "عملية السلام" الى ديبلوماسيين محترفين، لكن ذلك لن يدفعها الى اعادة النظر في نهجها، وبالتالي فإن الشرق الأوسط سيبقى في واشنطن شأناً يهودياً. اما انديك فقد ذكر الكثيرين، بعد الاتهامات الموجهة اليه، بشكوك ومصطلحات استخدمت في اتهام جوناثان بولارد. ومجرد توجيه الاتهام على هذا النحو العلني جعل البعض في واشنطن يتساءل، منذ امس، ولو همساً عن انعكاسات ذلك على جوزف ليبرمان المرشح لمنصب نائب الرئيس الى جانب آل غور. فالولاء المزدوج وارد في مختلف الحالات.