1 - شاعر مِن أين جاءَ هذا الشاعر؟ يتكلّم، حيناً، كما يتكلّم الشّجر، وحيناً كما تتكلّم الصّاعقة. قال مرّة: كلّما أصغيتُ الى الطّبيعة، أزدادُ شَكّاً في أن تكونَ السّماء شَفّافةً، كما يزعم بعضُ الشّعراء وكثيرٌ من الفلاسفة. الأرجَح أَنّ السَّماءَ تُقيمُ في مَطْبَخِ الرّيحِ، إمْعَاناً في التّدليلِ على كثافتِها، وعلى شَراهَتِها الى الأرض. 2 - وَرْدَة هِيَ وردتكِ، تَرزح تحتَ وَطْأَةِ المرض، مَرَضٌ شَخَّصَهُ طَبيبٌ صديقٌ من أَطبّاءِ العِطر. قال: إنّه تَدرُّنٌ آتٍ من سوء اسْتخدامِ الضّوء. وقال طبيبٌ صديقٌ آخر: إنّه آتٍ من سوء اسْتِخْدام الظلّ. أمسِ، نَظرْتُ إليها، فرأيتُ في جِسمها شُحُوماً تَأكَّد لي أَنّها آتيةٌ من الهواء، فهي لا تَتَنفَّسُ إلاّ الدّخان. كدتُ أن أضعَ يديّ على رئتيْها، فيما كنتُ أحاولُ أَنْ أُعيدَ تَأْهيلَ تُويجِها، ولياقتِها الكونية. في أثناء ذلك، رأيتُ كأنّ وجهَ الفضاءِ يخرجُ من عُنقها المائل. 3 - قرون الماعز صِرْتُ اليومَ، بعد خبرةٍ طويلةٍ، أميلُ الى القول إنّ الغيمَ في باريس يمكن أن يكونَ طِلاَءً، وأنَّ الهواءَ يمكن أَنْ يكونَ نوعاً مِن الصّمْغ لا أزالُ جاهِداً في التعرّف على أسراره. وَلاَ أَذكرُ أَنّني رأيتُ القمرَ في أيّ مكانٍ يجرّ ثَوْبهُ مُبَلّلاً بِمَاءِ شهَواتهِ كما رأيتهُ أمسِ في سماء باريس. وَخُيّل إِليَّ أنّه يُوَشْوِشني قائلاً: لا تَأْبَهْ لهذه الهَياكلِ التي تُحيط بكَ، وَتذكَّر دائِماً أبّولّلون: "في ديلوس، بَنَى أبّولّلون هَيْكلاً مِن قُرون الماعِز". 4 - امرأة ما أَبْهَى تلك المرأة وما أَغْنَاهَا. عاشَ معها دهراً، وكانَ يشعر، كلّما رآها، كأنَّه يراها للمرة الأولى. هي التي كشَفَتْ له أنّ للشعر جسداً، وأَنّ إِيروسَ يقيم فيه، لا يَبْرحُه، متجوّلاً في أنحائِه. تارةً في البَشَرةِ وَمسَامِّها، وتارةً في أعماقٍ لا يُسْبَرُ غَورُها. وهي التي قالت له: حيَاةُ الإنسانِ لَغْوٌ: أليس خيراً له، إذن، أن يعيشَها مُتنَاثِراً في الأوراقِ التي تُسمّى دفترَ الحبّ؟ ومرّةً، قال لجسدهِ بِاسْمها أن يبتكرَ، كلّ يَوْمٍ، بديلاً له. لكن، مُذّاكَ، أخذ يشعرُ أنّه ليس جسدَه وليس البديلَ الذي يبتكرهُ. إلى مَتى، الى متى، سَيتعذَّر عليهِ أن يُوقِظَكِ أنتِ، أيّتها المرأة، أَيّتها الغابَةُ التي تَنامُ في أحشائه؟ 5 - أفكار ثمّةَ أفكارٌ تقودُ البشرَ لا نَرى ما يُشابِهُها إلاّ عند الغُبارِ والرّيح. أفكارٌ لا تعلّم إلاّ سُرعةَ الذّبول في الحياةِ التي لا تُعلّم إلاّ النّضارة. تبدو حيناً كأنّها ثقوبٌ في طبقَاتِ الوعي مسكونَةٌ بِالدّمع، وحيناً، كأنّها رمادٌ على أرضٍ صَحْراء. هي، في كلّ حالٍ، خَشْخَاشٌ يلبس مخملَ الوقت. أفكارٌ - كُرَاتٌ من الطّين تتدحْرَجُ فوق بُؤْبؤِ العين، وكثيراً مَا تنسكبُ في الرّؤوسِ كمثل مياهٍ تَغْلي. وما أعجبَ لُغَاتِها: لا تَعملُ إلاّ على أن تَملأَ فَمَ الحَلال بالمحرَّمات. 6 - يونان والحوت فاجأتني فَراشَةٌ تضع جناحيها، كمثل قبضتين، على زِناد بندقيّة. ماذا أقول؟ كلاّ، لم تُفاجِئني. ذلك أَنّنا عندما نقشرُ فاكهةَ التقدّم، تلك الفاكهة السّائدة، لن نَرى تحت قِشْرها إلاّ سَرَطَاناتٍ تَسْعى. ونحن، في هذا التقدّم، كمثل يونان، نَسْبَحُ في جَوْف الحوت. غيرَ أنَّ الحوتَ لم يعد في البحر، وإنّما تحوّلَ وأصبحَ الأرضَ كلّها. وها هي الفاكهة التي "تغذّينا" تطالبنا بالثّمَن: تأمرُ كّلاً منّا أن يُرَبّيَ حقائقَه، كمثل وحوشٍ مفترسة، وأن يمضي، في الوقت ذاته، حياتَه عاتِباً على الفرائِس ساخِطاً عليها. وها هم البشر تحت أشجارها كمثل أوراقٍ مُتَناثرة لا يَجمعُ بينَها إلاّ السّقوط. 7 - البيت والعالم في البيت الذي وُلد تحت سقفه، لم يَرَ أيّة صورةٍ تتدلّى على أيٍّ من جدرانه. لكن، كان كلّ شيء، بالنسبة اليه، صورةً. البيت نفسه، الطّريق، الشجر، الحجر، الغيم، الأفق. كان النّاس، هم كذلك، صوراً في عينيه. ولم تكن الحياة نفسها إلاّ كلمةً يتهجّاها بين حدّين: شمسٍ غامرة الحضور في الصّيف، وريحٍ في الشّتاء تهبُّ كأنّها محمولةٌ على رؤوس الشّياطين. لكن، مع هذا كلّه، كان يبدو في طوافه بين هذه الصّور كأنّه يرقص في عيدٍ من الضّوء.