(9 اكتوبر 2010) ألوان الشجر حول الفندق خريف يبدو كأنه ليس إلاّ ربيعاً آخر. سرتُ قليلاً حول الفندق. الشمس ساطعة. أرى كيف تتمازَج الأشياء الذابلة والأشياء النامية، وكيف يتعانَقُ العشب والقش. كأنني أرى ذلك، للمرة الأولى. في الطبيعة وحدَها، نرى الميّت والحيَّ في بيت واحد، في غرفة واحدة، في فراش واحد. كنت قد وصلت من السفر آتياً من باريس الى جامعة ميتشيغان - آن آربر. ثماني ساعات. 6365 كيلومتراً. لا أعرف لماذا قلقت هذه المرة. وكنتُ، مصادفة، ومن دون أي احتمال أو توقّع، التقيتها في المطار، الجمعة 8 اكتوبر 2010. لم أرها، منذ عشرين سنة. قالت باعتداد وفرح: - ذاهبة الى طوكيو. وأنا الآن في أوج العشق. استعدتُ، فيما أودّعها، ما كتبته عنها مرة: «خلعَ الليل ثيابه، لكي يعرفَ كيف يستقبلكِ. عطرك جسدٌ مُفردٌ بين الفضاء والهواء». * لا أعرف لماذا قلقتُ، هذه المرة. القلق يفوق المخيّلة في التوهم. المخيّلة اغترابٌ، والقلق اضطراب. تغرق حواسّي كلها في ماء التوهّم. ماذا سيحدث في هذا المسار الفضائيّ بين باريس وآن آربر؟ ثم يجيءُ الظن، ويخطفُ بعضاً من حواسّي. للقلق جسمٌ رخوٌ، لكن رأسه صوّانٌ أسود. وعندما يُهيمن عليك القلق، تشعر كأن ظهرك عارٍ، وكأنَّ أمامكَ هاوية تنتظرك. وكان قلقي ينظر من نافذة الطائرة الى سجادة الغيم الباذخة، فلا يرى إلا أشباحاً تزحف على قامةِ الفضاء. يتحوّل قلقي، هذه اللحظة، الى عينين وأذنين. وها هو يُحاول أن ينام على وسادة واحدة مع أعضائي. هكذا يُتاح للّون الأصفر الذي أحببته في طفولتي، في حقول قصّابين، أن يحنّ وأن يبكي وأن يستلقي على جسم القلق. القلق زعفران. * الطائرة الآن في مطار ديترويت - مَكْنمارَا. هل سيكون للشهوة، هذه العشية، خاصرةٌ عاليةٌ، وطنبورٌ أحمر؟ * خالد! أنتَ هنا في المطار! في الطريق من المطار الى آن آربر، كان خالد المطاوع، يقود سيارته كأنه يكتب قصيدة. * - «مساء، عندنا قراءة شعرية في ديترويت. المكانُ غريبٌ، جميل»، قال خالد، فيما ندخل الى الفندق (فور بوينتس For Points: بإدارة الشيراتون، غرفة 632). * لا أستطيع أن أنام. أنتظر موعد الذهاب الى مكان القراءة. * المكان بيتٌ قديم. القرن التاسع عشر. أعيد تنظيمه هندسياً، في بساطة جذابة وحميمة. القاعة الكبرى فيه حُوّلت الى غاليري لاستقبال الأصدقاء، فنانين وشعراء وكُتّاباً. بين الضيوف المستمعين تلك العشية، قائد الأوركسترا السيمفونية في مدينة ديترويت. صاحب البيت، إيلي بود، (شكري علي بوعود) فنانٌ من طراز رفيع، يجمع بمعرفة عالية، بين فن اللوحة، وفن الزجاجة، وفن الضيافة. * (الأحد، 10 أكتوبر 2010) القلق الذي زارني في الطائرة، أمس، وغاب عندما هبطت، يعود الآن في زيارة ثانية. يلامسني كأنه يدٌ موصولةٌ بيد السماء. يدُ القلق موسيقى، حيناً. وحيناً، يلذّ لها أن تهيّئ استقبالاً خاصاً للحواس. مرة، روى لي صديقٌ أن قلقه حال دون أن يمارس الجنس مع الجسد الذي لا يعشقُ غيره. وسألني: هل القلق عِنّينٌ وجودي. سأسأل قلقي. أعرف أن القلق نوعٌ من الشيخوخة. أنّه كثيراً ما يُفاجئ العَضَل، ويُحاول أن يصعقه. أعرف كذلك أن القلق كثيراً ما يُعلّق على جبينيَ قنديلاً أصفر، فيما يسبح هانئاً، كمثل سمكة طائشة في بحيرة أحزاني. * العاشرة والنصف، أنتقل الى فندق آخر، في وسط المدينة، وقريب الى جامعة ميتشيغان (كامبوس إن Campus Inn). أتناولُ الفطور - الغداء (برانش) مع أندريه ماركوفيتش وزوجته. التقيت بهما، منذ سنوات، للمرة الأولى في برلين، في «معهد الدراسات المتقدِّمة». حديث متشعّب. توقفنا، خصوصاً، عند نظرة الأديان الوحدانية الثلاثة الى المرأة. تهميش بشيء من الامتهان: لا مساواة بينها وبين الرجل. توافق زوجته. أما هو، فيصمت. * في الجو غيوم. بعضها أحمر. حمرة أقل جاذبية من حمرة الشجر. بعضها ذو لونٍ سنجابي. * متحف الجامعة. في مدخله تمثالٌ من الحديد للنحات الأميركي مارك دي سوفيرو (Mark de Suvero). ولد عام 1933. الحديد مادة لا تتأنسَن. وما لا يتأنسن، كيف يمكن أن يكون فناً؟ * يذكّرني خريف آن آربر بخريف باريس، هذا الذي حملته معي، أمس في الطائرة. الغريب أنه كان يغيّر مقعده، كلما تأرجحت الطائرة بين يدي عاصفة فضائية. وكنتُ أستنفر حواسّي وأضعها حرّاساً على أعضائي. وكثيراً ما تخيَّلتُ أنني أودّع شهواتي وأتركُ لها أن تطفو في مركب قلقي كما تشاء، على الماء. ولا يعني هذا أنني كنتُ أحسّ بالخطَر. ذلك أن الإحساس بالخطر يمحو الإحساس بالقلق. وكان قلَقي جامحاً ومتواصلاً. * بكى طفلها في الطائرة. كانت أماً شابة. لا أعرف لماذا شعرت آنذاك أن الطائرة نفسها تشاركه البكاء. وخيّل إلي أنني أرى دموعاً تهطل من نوافذها. وأنني أرى بُقَع القلق ترتسم على زجاج النوافذ. وتخيَّّلتُ الطائرة، هذه «المادة» العجيبة، كيف تعلق بروح الفضاء. وكدتُ أن أسمع الطفل الذي يبكي، يسألني: ماذا تعني الحرية الآن، وأنتَ جالسٌ مع القلق، في غرفته، في الطائرة؟ أليست الحرية هنا نوعاً آخر من العبودية؟ لم أُجِب. قلتُ في نفسي: ليكن صمتي مزماراً آخر بين شفَتي الفراغ. وقلتُ: سأترك القلقَ يُشرّع لما يحدثُ الآن، مع أنَّ قوانينه مكتوبة هي نفسها بحبر الفراغ. الأساس هو ألاّ أترك قلقي يتحول الى خوف. الخوف ممحاة. حين نخاف نمحو أنفسنا. * أتذكّر كيف هدأت العاصفة. كيف هدأت الطائرة. وكيف هَبّ القلَقُ في دواخلي، من جديد. وها هو ينهض. يقول إنه سيتعلّم رقصة جديدة. ومن هنيهة، كان يحاول أن يوسّع تخومَ الطائرة، كأنّه يُريد أن يُذيب جسمها في جسم الفضاء. * عشاء في بيت خالد المطاوع. عددٌ كبير من المدعوين. عرفت بينهم لورنس جوزيف، الشاعر الأميركي ذا الأصل اللبناني - السوري، وأنطون شماس، وزينب عساف وماهر شرف الدين. بيت خالد المطاوع، الشاعر الذي يفتح طريقه، عالياً مُتفرّداً في قارة الشعر الأميركي، والأستاذ في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة ميتشيغان - آن آربر، بيتٌ ينهض على ثالوث الطفولة، الأنوثة، الفن. ريم، سلمى، خالد: الليل والنهار كُرة ألوان بين أيديهم، ونقطة لقاء خلاّق بين الأطراف. هدوءاً، يا سلمى. قلبُ الوقت يخفق مرسوماً بشفتيك وعينيك. * للمرة الأولى، ألتقي زينب عساف. عرفت كتابتها التي كانت تشع على صفحات «النهار»، نفّاذة البصيرة، بعيدة الاستبصار. ماهر شرف الدين، صديقها حياة وكتابة، التقيته سابقاً في بيروت. معاً يُمسكان بعقرب الوقت، ويبتكران حتى للغياب أذنين يُصغيان بهما الى صخب الحاضر. * آخر مرة التقيتُ أنطون شماس في عام 2003، في بيروت. كيف تَمّحي الحدود، كيف تزول الفوارق؟ قلقٌ يسكنه، وإن كان لا يُفصح عنه، غالباً. كامِنٌ في الطبقات العميقة من هواجسه، وأحاسيسه. من أفكاره، وعلاقاته. مُنفصلٌ - مُتّحد. يركّب للمشاعر أجنحة تطير بها نحو قارة المعدن - الأساس: الحب. أجنحة تصل، لا تصل، تصل... الخ. أتاح لي اللقاء معه أن أجدد التساؤل حول التباس الهوية، عندنا - نحن العرب. نحن الذين عرفنا أنفسنا والعالم، في اللغة العربية، وبها، وعِبْرها. أن أتأمل، من جديد أيضاً، في الرداء - الحديد الذي يَلتصِق متشبِّثاً بجسم تلك المرأة «الضخمة» - الناحلة: أمِّنا - العروبة. هل ستقدر على متابعة سيرها في هذا الرداء؟ وكيف؟ هل نُحاصِرها، نحن أبناءها، ونهجم عليها بحبنا كله، ونكسر ذلك الحديد؟ هل نتركها، ويمضي كلٌّ منا في طريقه، لا مبالياً؟ لكن، أليست اللامبالاة هي أيضاً ممحاة هائلة تمحو النهار والليل، وتمحو قبل ذلك أصحابها؟ وماذا نفعل؟ غالباً، عندنا خصوصاً، ينامُ السؤال والغبار في سرير واحد. على أنطون شماس، أحد رموز الالتباس الذي أشرت إليه، أودّ أن أطرح بضعة أسئلة، لعلها تُفْلِتُ من حجاب الغبار. - كيف نكسرُ الشعاع الحاد الذي يجيء من شمسنا المعرفية، أو كيف، على الأقل، نجعله منحنياً أو مائلاً، لكي نزداد معرفة بالثنيّات والظلال والزوايا، وما يهرب، وما يختبئ، وما يعشق الحجب والظلمات؟ - هل الكتابة عمل آخر للتوحيد بين واقع الهوية، وحلم الصيرورة؟ - ما السر في ذلك النور الذي يتجه بإصرارٍ إلى أن يُصبح نوعاً آخر من الظلام، أشدّ كثافة وأشقى؟ - هل «تَضْجَرُ»؟ هل «تتثاءَبُ»، هل «تنامُ»، ثم تستيقظ فتجد نفسها في «روح» أخرى، و «جسم» آخر؟ إن كان الجواب: نعم، أفليس علينا أن نفتح نافذة أخرى في بيت المعنى، لم تُفتح بعد؟ أنطون شماس، يا صديقي: تابِعْ نومك على ذراع الحب. يَدُ الحب مِتْرسةٌ ضد صواعق الوجود. * (11 - 12 أكتوبر 2010) كان العشاء مع ليندا غريفرسن (الأستاذة المبرّزة في قسم اللغة الإنكليزية، بجامعة ميتشيغان (Linda gragerson) وُدّياً، ومضيئاً. كنت برفقة خالد، صلة الوصل بيني وبين عالم اللغة الإنكليزية. تحدثنا عن الشعر الأميركي، وانتقدت خصوصاً نزعته السردية التي تتنافر غالباً مع طبيعة الشعر، ولم نكن مختلفين. قلت لها: لو سألتكِ أن تختاري الشعراء الذين «يُمثّلون» الشعر الأميركي، اليوم، فمن يكونون؟ فكّرت قليلاً، باسمة. ثم تناولت ورقة وكتبت أسماءهم. كانوا حوالى اثني عشر شاعراً. بعد ذلك، سألتها: لو طلبت الآن أن تختاري الشعراء الذين لا «يُمثلون»، بل الذين «يزلزلون»، فمن يكون هؤلاء؟ قالت، باسمة أيضاً: في هذه الحالة، سيقع اختياري على آخرين، معظمهم من الشبان. لم تكتب أسماءهم، لكنها وعدت بأن ترسل إلي، بناء على طلبي، مختارات من شعرهم، قد يتم العمل لاحقاً على ترجمتها الى العربية ونشرها. أنتظر وعدها. أحب هنا أن أكتفي بالإشارة الى ما أكرره دائماً وهو أن المعيار المؤسسي، معيار «التمثيل» هو الذي يهيمن على «نقدنا» و «تقويمنا» وعلى حياتنا الثقافية العربية إجمالاً. وفي ذلك خَلَلُها الأول الذي يكاد أن يُصبح مرضاً. * قراءاتي ولقاءاتي الشعرية التي تمّت داخل جامعة ميتشيغان، وهي، نسبياً، كثيرة، أخصّ بالذكر منها القراءة في القاعة التابعة لمتحف الجامعة، والقراءة في القاعة التابعة لمكتبتها، والقراءة في القاعة التابعة لمركز العلوم الإنسانية، تؤكد لي جميعها أن هناك نوعاً من العودة الى الشعر. فدائماً، كانت القاعات ممتلئة. وكان للعرب حضورٌ لافتٌ، وديّبٌ، ومُفرح. * (13 أكتوبر 2010) عشاء في بيت شام وزوجها محمد نور جِرْعَتلي. شام هي كريمة سنية صالح ومحمد الماغوط. كيانُها كله ينحني عليهما. السهر في هذا البيت مع اصدقائه الأطباء السوريين والعرب، نوعٌ من السفر في دمشق وأسرارها وأسوارها. ولا أعرف أن أجيب عن هذا السؤال: كيف يتحول البعد عن دمشق الى قميص نوم آخر في ميتشيغان؟ * «حزن في ضوء القمر»، يمكن أن يُقرأ، هنا، بين عيني شام: قمراً يتشرَّد لابساً ضوء الحزن. باسم هذا الضوء، كنت أشعر كأنّ غابة ياسمين في هذا البيت تلتفُّ حولي. وبدا لي الموت في تلك اللحظة كأنه أكثر الأشياء فقراً. وكأنه الفشل الأكبر في عمل التّكوين. أتريدون برهاناً؟ ليس للموت بيتٌ إلا الحياة، ولا طريق له غيرها. * (14 أكتوبر 2010) آن آربر - ديترويت - ديربورن: المناخ الأكثر «ابوّة»، للمهاجرين العرب في الولاياتالمتحدة، والأوسع «احتضاناً». لكن، في قلب هذه الأبوة، وفي سعة هذا الاحتضان، لا تزال العروبة كلاماً يقبرُ بعضه بعضاً. كأن اللغة العربية طبيعة خاصة، وكأن الحياة حولها طبيعة ثانية أخرى، وخاصة. * شمس «آن آربر تصعد وتهبط في ماء نافورة صغيرة في ساحة الفندق: «كامبوس إنّ Campus Inn». حولها أزهارٌ بنفسجية اللون، وصفراء. ولا أرى أي سنجاب ماذا قلت؟ هوذا سنجابٌ كستنائي اللون. وكنت قد رأيت سناجيب سوداء. * أسرعتُ نحوها. كانت الشمس قد غرست أظفارها بين عينيها. عفوك، أيتها الوردة التي «خنتها» من دون أن أقصد. * غيوم في سماء «آن آربر»: ثياب متناثرة في غرفة النوم. * لا تعرف «آن آربر» كيف «تصهر» «ديترويت»: لا تعرف هذه كيف تذوب في تلك. * خطر لي مرة أن أقول من دون تدقيق: «آن آربر» ألمٌ جسدي لديترويت. وهذه الثانية ألمٌ أخلاقيٌ للأولى. * سماء «آن آربر» تغيّر قمصانها. اختارت الغيوم وتنويعاتها الرمادية الأكثر قرباً الى السواد. الشجر كئيب، وأحس كأنه يكاد أن يبكي. يصنع الغيم لآن آربر بيوتاً وأسرّة على هواه، أحياناً، ينسجُ قُبّعات لا تليقُ برؤوس الشجر. * أوركسترا الغيوم: أين قائدها؟ * خُيّل إليّ، عشية استعدادي للسفر الى هيوستن، أنني في جلسة حميمة مع عدد من المهاجرين العرب الذين ماتوا. أنني تحدثت مع أفرادٍ منهم آثروا ألاّ أذكر أسماءهم. غير أنّهم رجوني أن أنقل رجاءهم الى أرضهم - الأم كي تفتح لأحفادهم ذراعيها. ومن دون طلب منهم رجوت الله أيضاً، وظنّي أنه لم يسمعني. وقلت للزمن امنحهم زاوية في تجاعيد وجهك لكي يتآخوا فيك مع تجاعيد تاريخهم. وظنّي أن الزمن هو أيضاً لن يسمعني. * يُنشر القسم الثاني من هذه «اليوميات»، الخميس، في 25 نوفمبر الجاري. وهو يدور حول تكساس، بخاصة هيوستن وأوستن