1 - تلك المرأة أحياناً، أبعد نفسيَ فجأةًَ في سَفَرٍ لا أعرف إلى أين. في هذا السّفر، أزدادُ ميلاً إلى الظنّ أنّ لي حِلْفاً سِرّياً مع ليل العين. في هذا الليل، أشعر انّني أتقدّم في مدارج الضّوء. صِفي، أيّتها العينُ، نَصْرَ السماء على الأرض - هذا النصرَ الدائمَ المتواصل الذي يُتوّج كلَّ مَرْحلةٍ من مراحله بعمل الإنسان وموته. قولي، أيّتها العين، ما هذا النّصرُ الذي لا يكون إلاّ بانطفائكِ؟ وأين إذاً يذهَبُ الحلم، وتَذهب تلك العينُ العاليةُ: الشّعر؟ وما هذه الدروب التي تبقى كمثل متاجِرَ تبيعُ الشّمسَ والهواء، وتؤاخي بين الجَذْر والعشب؟ كلا، ليست الأيام إلا غيوماً تتحرّكُ في عين الليل. رُبّما لهذا، لم أعرفِ الوطن ولا أعرفه إلاّ في تلك التُّربة التي تمتدّ حرّةً في جسدي بين البصر والبصيرة. رُبّما لهذا، كنتُ، منذ طفولتي، أفتح في كلّ مكانٍ حللتهُ، نوافذَ - عيوناً تدخلُ إليها وتخرجُ - حُرّةً، خلائق المعنى. لم يَبْق لهذا الزّمن بيتٌ يُؤوينا إلاّ عينَه. وهي عَيْنٌ تتكلّم - سمعتها مرّةً تَصرخ: يا لهذه الأرض الطيّبة، وحده، الدَمُ، يُواصِلُ نُموَّهُ فيها. وها هيَ مناديلُ الرّيح تُشْفِقَ علينا، وها هيَ تَتَبلَّلُ بالدّمع. تلك المرأة التي تبادَلتُ مع عينيها، على مقاعد المدرسة، رسائلَ العمر الأوّل، لا تزال قادرةً على إيقاف العاصفة عندما ترجّ أحشائي. ولا يزال سحرُها يُخيِّلُ إليّ أَنّني أنظرُ بعينيها أَينما اتّجهت، وأَن الصحراءَ نفسها ليست إلا سَجّادةً من الموج فَرَّ من مُحيطهِ مُفَضِّلاً أن يكونَ غِلالةً لِبَشَرةِ الأرض. لِرائحةِ تلك المرأة بيتٌ مُتجوِّلٌ يرشح من جدرانهِ ماءٌ اسمهُ الحبّ. فيما كان صدرَ الحلم الذي خرَج من عينيّ، ليلةَ الجمعة الماضية، ينزفُ غَزيراً على وَجْهي، كنتُ أَرْتعش وأسألَ الليلة عن مَشْفى. أذكُر كأنّني رأيتُ عيني تلك المرأة تُومضان، كأنّهما تقولان: لا مَشْفَى إلاّ في حلمٍ آخر. 2- الشاعر الأول في الشارع الأول الفسيح الصاخب، أسيرُ مُرْهقاً. أتحامَلُ على نفسي، وأكاد أن أسقط، غير انني لا أكادُ أن أجِدَ ما أتمسّكُ بهِ، إِلاّ أيديَ لا أراها. واجهات المخازن كمثل أوراقٍ بيضاء، لكن، لماذا لا أنتهي من قراءتها؟ الزّمن واقِفٌ في شكل عَرَّافٍ على عتبة المقهى في أوّل الشارع. الشّمس في الشّارع قبلةٌ خياليّةٌ على قمر اللّيل، والنّهار كمَثل خِرْقةٍ مُبلّلةٍ بماءٍ مُوحِل. لدخان السيّارات نكهة العدم، مع أنّها تسيرُ في أحضان الوجود. أعْلكْ، أُعْلكْ مَجْدَكَ أيّها الدولاب الأسود. الأفقُ يَنْشرُ ثيابه على أسلاكٍ مكهربة. حريقٌ تحت بَشَرة الأرض. للزّمن أشجارٌ عالقةٌ في الهواء تتساقَطُ منها ثمارُ المعنى. 3 - الوردة عندما عرّيت النّافذة من ثيابها، كانت الوردة التي قدّمتُها لنفسي صباحَ يوم غائم، شِبْهَ ذابلةٍ في أَحيصِها الضيّق العُنُقِ كمثل الخاتم. كان الفضاء الذي يواجه النّافذة عارياً، وكانت خيوط الشّمس تهم أن تدخل إلى الغرفة كعادتها، عندما لا تكون الغيوم حجاباً عليها. دخلتِ الشمس وغَمرت الوردةَ بأشعّتها، فبدت أشدَّ ذبولاً، وصارَ لها ظِلٌّ ناحِل: تمنّيتُ لو أقدرُ أن أجلس قليلاً في هذا الظلّ. 4 - وسائد أمسِ، فيما أقومُ بنزهتي الصباحية، مَدّ ليَ الأفق يَديه اللتين تزيّنهما الخواتم، وكانتا تُداعبان أشعّة الشمس، وتتغلْغلان فيها، كما لو أنّها جدائل امرأةٍ تبكي. حَرّكْتُ وسائدَ ترقد عليها أشيائيَ الماضية، وأيْقظْتُ جسَد اللحظة. 5 - الشمس اليوم، لم يكن للشمس مكانٌ في الشّارع الذي أُحبّ أن أُواكِبَ صخبَه، عادةً، وغابَتِ الموائدُ التي كانت تمدّها فيه، داعيةً إليها ضيوفَها - الورود، وأنواع الزَّهر، والنّبات. وكانَ الهواء يتكلَّم لغةً يتعذَّرُ عليَّ فهمَها. قل لي، إذن، لماذا تحاول دائماً، أيّها الشّعر، أَنْ تُقنِعَني أنَّ الموتَ المشتركَ في التُّرابِ، حياةٌ مُشْتَركةٌ في الهواء؟ صوت خَفِرٌ كأنه الصّمت الكلمة التي قدّم بها أدونيس لمختاراتٍ من قصائد الشاعر الألماني المعاصر يواخيم سارتوريوس، تصدر هذا الشهر، وقامت بترجمتها الى العربية الشاعرة العراقية المقيمة في برلين، أمل الجبوري. الأقرب، الأبعد، الأعمق، الزّائل، الأبديّ: أبعادٌ تتداخلُ في شعر يواخيم سارتوريوس، في تموجات تتآخى حيناً وتتنافر حيناً، في تجاذُبٍ يُشعركَ أنّ الفاجعةَ والغبطةَ توأمان. ربّما، بسبب من هذه التوأميّة، يبدو قلقُ الشاعر هادئاً وديعاً كأنه بوحٌ عاشق. ونتساءَلُ، فيما نقرأ هذه القصائد: من يتكلّم هنا؟ المتنوعُ، المتعدد، الترابُ، السماء، أم الفَردُ الإنسان؟ أهو المرئيّ أم اللامرئيّ؟ ذلك اننا لا نكاد نميّز، تحت قبّة هذا الشّعر الذي يَسبح في ماء القلق، بين الشخص وظلّهِ، الشيء وشبحه. وربّما استطعْنا أن نُصغيَ تحتها الى أموات يخاطبون أحياء، وإلى أشياء تتحاورُ مع أشياء أخرى. وربّما شُبِّه لنا أنّ هناك بين أحضان بعض القصائد أصدقاءَ يلوّحون لنا من الأمكنة التي لا عودة منها، وأنّ في أحضان بعضها نساءً ينسجْنَ الزّمَن غطاء يدخلنَ تحته مع عُشّاقهنّ في سَفَرٍ نحو أبديّة الحبّ. ولئن كان حِسُ الفاجعة والزوال يتغلغل في هذا الشعر، الى أبعد ممّا يتغلغلُ حسّ البقاءِ والغبطة، فإنّنا نشعر أنّه مغمورٌ بِنَدَى التحوّلات، حتّى ليكادُ الزّوالُ أن يبدوَ كمثل البقاء، وتكادُ الفاجعة أن تكونَ عُرساً. فهذا الشعر الذي يهمسُ به صوتٌ خَفِر كأنه الصَّمت، يبدو رثاءً للوجود لكن في صيغة من المدْح، ورفضاً للأشياء لكن في شكل من الصداقة، وموتاً - لكنه الموت الذي لا يَجِدُ نفسه إلا في ما يمجدُ الحياة. هكذا يبدو هذا الشاعر كأنه يحيا في المفصل الذي يَصِلُ بين الحضور والغياب، في شَرْقٍ يَتَبَطّنُ الغرب، في غرب يتبطَّن الشرق. أو لنقل: يبدو كأنه يحيا آتياً ذاهباً على الجسر الذي يَجْمعُ بين النقائضِ، ويَصِلُ بين الأطْراف.