في ربع القرن الأخير انتعش الاهتمام بغورغ فيلهلم فردريك هيغل 1770- 1831 ربما لانحسار الثقة بالتفكير الليبرالي الذي رأى أن الإنسان يستطيع أن يتجرد من أهوائه ورغباته ويحكم بعقلانية أكيدة على الأمور. يعزو كثيرون هذا الاعتقاد الى فيلسوف ألماني آخر هو ايمانويل كانط 1724- 1804 الذي فكك البشر قائلاً إنهم يعيشون في عالمين منفصلين: عالم العقل والحرية من جهة وعالم الرغبات والدوافع من جهة أخرى. كان هيغل من أوائل نقاد كانط، ولا يزال نقده لافتاً بعمقه وغناه وتأكيده الوحدة بين خصوصية الفرد وشمولية القيم والمفاهيم. في كتابه "هيغل: سيرة" الصادر حديثاً عن دار كمبريدج يقول تيري بينكارد إن الفيلسوف كان جاداً الى درجة لقب معها "العجوز" وهو شاب. كانت محاضراته في الجامعة مملة في زمن كانت المحاضرات مناسبات اجتماعية والمحاضرون الشهيرون شعبيين كنجوم السينما اليوم. لم يحتمل الإساءات الى مكانته العلمية، وضم ابنه غير الشرعي الى أسرته لكنه عامله دائماً كما لو كان أقل أهمية من أولاده الآخرين. إلا أن المفكر الذي عمل فترة رئيس تحرير لصحيفة كان كريماً مع تلامذته الفقراء وأعفاهم من الأقساط، واحتج علناً عند اعتقال زملائه الأساتذة لأسباب سياسية. فتن بالثورة الفرنسية وأعجب دائماً بنابوليون بونابرت الذي استوحاه الحكام الألمان في الإصلاح والتجديد في الوقت الذي نفروا من مبادئ الثورة الفرنسية حول حقوق الإنسان والحكومة الشعبية. هيغل درّس في جامعة جينا حيث وشى يوهان فولفغانغ فون غوته 1749- 1832 بالمتعاطفين مع الثورة الفرنسية، وقد تكون السلطات شكّت في ميوله السياسية إلا أنه عارض الديموقراطية البرلمانية وفضّل دولة تحكمها جماعة متعاونة من الأشخاص. احتقر الماركسيون مثالية هيغل وقلبوه رأساً على عقب لكنهم اعترفوا بأنه مهد الطريق لنظريتهم، وكرهه الليبراليون الذين رأوا تمجيده للدولة البروسية ممهداً للنازية. ويبقى "هيغل: سيرة" أكمل كتاب بالإنكليزية للذين يثير هذا الرجل الممل المحب للغموض اهتمامهم. المفكرة هل انتهت سوزان سونتاغ حيث كان يجب أن تبدأ؟ أبرز المفكرات الأميركيات، ربما، وكاهنة الفكر الطليعي اليساري في الستينات أثارت ضجة صغيرة عندما أصدرت روايتها الأخيرة "في أميركا". كثيرون فوجئوا ب"قلة الفكر" فيها وصحيفة "نيويورك تايمز" رأتها "محاكاة تقليدية خالصة لرواية تقليدية خالصة من القرن التاسع عشر" وسونتاغ لا تجد بأساً في ذلك، فهي كانت دائماً ابنة ذلك القرن، تقول، لكن طفولتها دفعتها في اتجاه جعلها سجينة الصورة. كانت في الخامسة عندما توفي والدها بالسل وقلما حدثتها والدتها مدمنة الكحول. وجدت السلوى في المكتبة العامة، وعندما بلغت الخامسة عشرة كانت طالعت ما يكفي ليقول مدرسها إن ثقافتها تخولها الذهاب الى الجامعة. بعد عامين، تزوجت باحثاً في جامعة شيكاغو يكبرها بعشرة أعوام لكنها انفجرت بالبكاء عندما كانت تقرأ "ميدلمارتش" لماري آن ايفانز المعروفة بجورج إليوت 1819- 1880. شعرت أنها كانت دوروثيا الشابة الذكية التي تزوجت مستر كوزبون الأكبر سناً. بعد تسعة أعوام طلقت زوجها لأن ذلك كان "صحيحاً أخلاقياً" واشتهرت بأنها كانت المرأة الوحيدة في كاليفورنيا التي ترفض الحصول على نفقة، لكنها احتفظت بابنها الذي لا يزال وحيدها. استوردت سونتاغ "الموجة الجديدة" من فرنسا الى اميركا، وكتبت مقالات أثبتت صورة المفكرة وأثارت حسد كثير من الكاتبات. "ماذا كنت أظن أنني فاعلة؟" تسأل اليوم وتعترف بأنها كانت مدفوعة بالرغبة في التطوير، لكن ما كتبته افتقر الى الصداقة. الرواية حررتها: "كأن الأبواب فتحت وأطللت على منظر ... بعد أن سمحت لأخلاقيتي التي لا تطاق تخطفني". جعلها الإعلام مرشدة ثقافية جاهزة وتواطأت معه وهي مسرورة بالكاميرات المسلطة عليها. لكنها كانت شابة ساذجة، تبرر، ولم تنتبه إلا متأخرة الى ما كان يجري لها. سونتاغ بولندية الأصل مثل بطلة روايتها الأخيرة "في أميركا" التي تستوحي حياة ممثلة شهيرة هاجرت في القرن الماضي مع زوجها وعشيقها الى "العالم الجديد الشجاع" حيث وجدت النجاح. تبنت اسم زوج والدتها لأنه كان أقل يهودية من اسم عائلتها، روزنبلات، وخلصها الاسم الجديد من العداء للسامية الذي انتشر في أميركا خلال الحرب العالمية الثانية. عارضت حرب فيتنام وزارت ساراييفو في أثناء القتال لتقدم مسرحية "في انتظار غورو" للكاتب الإيرلندي صامويل بيكيت. ساهمت في إزالة اللعنة المحيطة بالسرطان عندما كتبت عن تجربتها مع سرطان الصدر ثم كتبت عن الإيدز بعاطفة تستنكر الخوف من المرض والمصابين به. ثنائية الأحاسيس الجنسية وأحبت "أربعة رجال وخمس نساء. عندما أصبحت أقل جاذبية للرجال وجدت نفسي في صحبة المزيد من النساء". تعيش مع آني ليبوفيتز المصورة الشهيرة التي التقطت صوراً عارية لها وهي في عقدها السادس. قد نقول إن ابنة السابعة والستين تنتهي حقاً حيث كان يمكن أن تبدأ، وقد نقول أيضاً: "لم لا؟". فن القبح اعترف الفنان الانكليزي الإيرلندي فرنسيس بيكون بثلاثة فنانين معاصرين لا أكثر. الإسباني بابلو بيكاسو، السويسري ألبرتو جاكوميتي والفرنسي مارسيل دوشان. ولئن شوّه الأول أشكاله خلال الحرب الإسبانية في الثلاثينات جرد الثاني التشويه الموجع والرهيب في كثير من أعماله من أي مضمون سياسي. رسم "ثلاث دراسات لأشكال في قاعدة صليب" التي تعتبر أول أعماله الكبيرة في 1944 لكنه نفى علاقتها بالشرور في الحرب العالمية الثانية. كثيرون يرون عالمه الداخلي القاتم مصدر البشاعة في أعماله، فهو وجد ما يصدم ويثير الذعر جميلاً، وكان بيت الشعر المفضل عنده من "اوريستيا" لأسخيليوس: "رائحة الدم البشري تضحك قلبي". علق في الستوديو صور شخصيات نازية بارزة مثل هملر وغوبلز وصوراً لأمراض الفم، ورأى في شر أولئك وقبح الأمراض إثارة جنسية. كان مثلياً ارتاد شوارع لندن المعتمة خلال الحرب ليجد رفيقاً لليلته، وكثيراً ما سرق الغلمان الذين التقاهم اعمالاً له أثناء إفراطه في الشرب. في "تذكر فرنسيس بيكون" الصادر حديثاً عن دار تيمز وهدسون يعتبر ديفيد سيلفستر صديقه الراحل في منزلة بيكاسو وماتيس وتيتيان ومايكل أنجلو، ويقول إنه فضل النقل عن صورة وإن كان الموديل معه في محترفه. خسر كثيراً من أعماله لا بفعل السرقة وحدها بل أيضاً البيع اضطراراً لكي يسد ديونه المترتبة على إدمانه القمار. وصادرت الحرب شبابه إلا أنه تواطأ معها بإدمانه الكحول وخوفه من الفضيحة في وقت كانت المثلية غير مقبولة قانونياً واجتماعياً. فتن بالشر والجريمة، وكان ملحداً كره والده وإن انجذب إليه جسدياً. لو عاش أكثر اجتمع نقيضان في صنع هالة ريموند كارفر: الثقافة الرخيصة والطبقة العاملة. كان القاص والشاعر الأميركي مدرساً للكتابة الإبداعية لكنه تنقل قبل ذلك بين أعمال صغيرة كثيرة منها الحراسة وقطف الأزهار وكثيراً ما انسل من مكان سكنه الى مكان آخر ليهرب من دفع الفواتير. تزوج للمرة الأولى عندما كان في التاسعة عشرة، وحمّل التزاماته الأبوية مسؤولية عجزه عن كتابة رواية لعدم توافر الوقت والجهد اللازمين لها. ولئن رآه كثيرون رجلاً حقيقياً يكتب للرجال الحقيقيين عنهم، وجد آخرون مبالغة في مركزه الأدبي تضافرت عوامل عدة في صنعها منها نجاحه في الإقلاع عن الشرب وموته في الخمسين في 1988 من إدمان آخر: التدخين. في 1977 حذر كارفر من أنه سيموت بعد ستة أشهر إذا لم يقلع عن الشرب، ففعل وعاش أحد عشر عاماً بعد ذلك غيّر فيها صورته من السيئ الى الجيد وترك زوجته الى زوجة أخرى. أحس أنه ما كان ليستطيع مقاومة الكأس إذا بقي معرضاً لضغوط زواجه الأول، وذهب الى نيويورك ليكون كاتباً وحسب ووجد الشهرة حقاً مع نشره قصة "كاتدرائية". نقح القصة الواحدة ثلاثين مرة وكان أسعد حالاً وهو يشطب كلمة بعد أخرى من نصه كأنه يصفيه ويصل به الى نقائه الكامل. عبارة للقاص الروسي بابل كانت من الأقوال المفضلة عنده: "لا حديد يستطيع ثقب القلب مثل نقطة وضعت في مكانها الملائم". في نيويورك لم يعد ابن الطبقة العاملة الذي يكتب للناس الصغار عن حياتهم التافهة مع أن معظم قصصه تناولت إدمان الكحول والبطالة والزواج الفاشل والوظائف الصغيرة. علّم في جامعة سيراكوز وأمضى بقية عمره يحاول محو عمره السابق الفاشل، ورسم الصورة التي أحب أن يتركها بعد موته فربط اسمه باسم أنطون تشيكوف، الطبيب والأديب الروسي، وكتب عنه بضع قصائد وقصص منها "مهمة". وكان له ما أراد، إذ إن محبيه يروه تشيكوف الأدب الأميركي ويتحسرون على المكانة التي كان يمكن أن يبلغها لو عاش أكثر. بعد انتحار آرنست همنغواي في 1961 ببندقية الصيد شغر مركز الأب في الأدب الأميركي وحاول كثيرون ملأه. الكاتب اليهودي نورمان ميلر أحب مصارعة الثيران والنساء والشجار مع زملائه الكتّاب مثل "بابا همنغواي"، وأضاف الى الهوايات الذكورية السعيدة الملاكمة التي جمعته بمحمد علي كلاي في حلبة للتدريب لا أكثر. ثم أطل كارفر بشعره الأبيض وحبه صيد السمك والذهاب في رحلات "رجولية" فوجد الباحثون همنغواي جديداً يجمع الخشونة والحياة في الخارج الرحب القاسي وتدريس الكتابة الإبداعية. العثور أخيراً على قصة "ماذا تريد أن ترى؟" التي كتبها كارفر في النصف الأول من الثمانينات أثارت حماسة محبيه لكنها في الواقع متوسطة المستوى. يتحدث فيها عن انهيار زواجه من دون الإفصاح عن الأسباب أو المشاعر، ويوازي بين فشل الزواج وتعطل الثلاجة عند صديقه صاحب المطعم وخسارته كمية كبيرة من السمك. يذكر فيها بلداناً عربية منها لبنان ويبدي تعاطفاً معه. يقول مقطع من القصة: "إنها مأساة، ما حدث للبنان" قال بيت. "كان أجمل بلد في الشرق الأوسط. زرته شاباً صغيراً عندما كنت في البحرية التجارية في الحرب العالمية الثانية. فكرت يومها، ووعدت نفسي أن أعود يوماً ثم أتيحت لنا الفرصة، بيتي وأنا، أليس كذلك يا بيتي؟" ويقول بيت، صاحب المطعم، إن "اليهود على التلال. مثل النمل" فتضيف زوجته أنه يعتقد أنهم اليهود لو "أبقوا طائراتهم خارج لبنان ما كان حدث كل هذا الاضطراب هناك ... يا للبنانيين المساكين".