على رغم أن عملية التسوية في الاطار الفلسطيني - الاسرائيلي قامت على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338، إلا أن التزام اسرائيل هذه المبادئ والقرارات كان دائماً موضع شك وتساؤل. وإذا كانت قمة كامب ديفيد الأخيرة لم تقنع حكومة باراك بتنفيذ كامل وغير مشروط للقرارات الدولية، إلا أن اللافت للانتباه هو حجم الأراضي الذي أبدت هذه الحكومة رغبة في التخلي عنها والذي وصل الى أكثر من 90 في المئة من مساحة الضفة من دون القدس بصرف النظر عن الشروط التي سيتم بموجبها إرجاع هذه الأراضي للفلسطينيين والتي لا تجعل بعضها أو كلها تتمتع بالاستقلال الكامل للكيان الصهيوني. فمع ان هذا الاقتراح يعبر عن رؤية خاصة برئيس الحكومة الاسرائيلية الحالية لاستحقاقات عملية التسوية والتي قد تجد معارضة لدى بعض الأحزاب الاسرائيلية، إلا أنه في الوقت نفسه يعبر عن موقف شريحة كبيرة من المجتمع الاسرائيلي متمثلة بالأحزاب الوسطية واليسارية العلمانية، فضلاً عن أنه يحظى بتأييد نسبة مهمة من الشارع الإسرائيلي. وإذا وضعنا في الاعتبار ان الخلاف بين اليمين واليسار الاسرائيلي هو حول نسبة الأراضي التي يمكن إعادتها للفلسطينيين، وقرب هذه الأراضي أو بعدها من القدس، فإننا ندرك أن هناك ما يشبه الاجماع قد تبلور في الشارع الاسرائيلي في السنوات الأخيرة مفاده أن الاحتفاظ بنسبة أقل من الأراضي الفلسطينية المحتلة يخدم مصلحة الشعب اليهودي ويحقق له الأمن. إن اقتراح باراك الأخير بالتخلي عن نسبة كبيرة من أراضي الضفة والقطاع بعد سنوات طويلة من الاحتلال يعبر بشكل واضح عن الضعف والوهن الذي أصاب الدولة العبرية التي لم تعد قادرة على دفع الثمن المرتفع لهذا الاحتلال. كما أن لجوء هذه الحكومة الى الانسحاب من جنوبلبنان تحت وطأة ضربات المقاومة من دون قيد أو شرط كان موشراً أكثر أهمية من غيره في الدلالة على أن المشروع الصهيوني يواجه انتكاسة وتوقفاً في اندفاعه على الصعيد الجغرافي الذي لم يكن منعزلاً عن سقوط نظرية ايديولوجية مهمة قام عليها هذا المشروع في بداياته، وهي نظرية اسرائيل الكبرى. ان نظرية الشرق الأوسط الجديد التي طرحها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز والتي هدفت الى استبدال الاحتلال العسكري الاسرائيلي وتعويضه بهيمنة اقتصادية على المنطقة العربية، تشكل في أحد أوجهها اعترافاً صريحاً بفشل الدولة العبرية في تحقيق اندفاعة جغرافية تشمل معظم الدول العربية ومحاولة لاستثمار الأجواء السياسية السانحة بعد نتائج حرب الخليج المدمرة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بدلاً من استخدام القوة العسكرية التي ثبت انه لم يعد بامكان الدولة العبرية استخدامها لاحتلال المزيد من الأراضي العربية. وتعتبر انتفاضة العام 1987 سبباً مهماً ومباشراً في إظهار ضعف الكيان الصهيوني وتوقيف اندفاعته، لأنها أقنعت الاسرائيليين بالوسائل النضالية الكفاحية التي جسدتها أن ثمن احتلالهم لأراضي غيرهم لم يعد سهلاً ولا بخساً، وان حياتهم وحياة أبنائهم ستظل مهددة بشكل كبير ان هم لم يقدموا تنازلات ولو عن جزء من الأراضي التي يحتلونها، ولولا ان قيادة منظمة التحرير كافة قررت الاسراع في قطف ثمار هذه النتيجة بالحصول على جزء يسير من الأراضي الفلسطينية وايقاف الانتفاضة، لكان يمكن أن يقدم الاسرائيليون تنازلات أكبر وفي وقت أسرع مما قدموه الآن وبثمن ربما أقل من الثمن الذي دفعته وستدفعه قيادة السلطة الفلسطينية، حيث ان التأثيرات النفسية والاجتماعية التي أحدثتها هذه الانتفاضة والتي استمرت في ما بعد وتكرست في المجتمع الاسرائيلي كانت ستكون أعمق وأكثر تجذراً لدى الاسرائيليين وستضيق من هامش المناورة السياسية لدى القيادة الاسرائيلية. ان ما يمكن تسميته ب"توقف اندفاعة المشروع الصهيوني" كان ثمرة تراكم الفعل النضالي المقاوم للشعب الفلسطيني، ولكن يبدو ان نتائج هذا الفعل لم تكن متناسبة مع حجم التراجع الصهيوني لأن الظروف الاقليمية والعالمية ليست في مصلحة الشعب الفلسطيني والأمة العربية في الوقت الحالي، وهذا ما نعتبره من الأسباب الوجيهة في رفض برنامج التسوية الحالي الذي استعجل قطف ثمار المقاومة واستجاب الى حد كبير للمطالب الاسرائيلية التي حاولت تفريغ ما يتم تقديمه للفلسطينيين من تنازلات جغرافية من مضمونها السيادي الحقيقي عبر مبرر الضمانات الأمنية. وعلى رغم ازدياد الفجوة بين الأحزاب الدينية والعلمانية وبين اليمين واليسار الاسرائيلي والتي كان أحد أهم تداعياتها اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق رابين على يد متطرف يميني اسرائيلي، إلا أن دور القضايا الاجتماعية والاقتصادية كان متقدماً على دور القضايا السياسية في تكريس حال الانقسام والتمحور في المجتمع الاسرائيلي، إذ أن مواقف معظم هذه الأحزاب تجتمع على الكثير من المحرمات والخطوط الحمر المتعلقة بالتسوية السياسية، وإن كان تفسير هذه الخطوط الحمر وتفاصيل المواقف السياسية يثير الكثير من الخلافات والتباينات بين هذه الأحزاب في كثير من الأحيان الى الحد الذي أتاح تهيئة الأجواء لاغتيال رابين، كما انه في الوقت نفسه لا يمنع من الالتقاء عند بعض المواقف التي تتيح استمرار عملة التسوية و تقديم الاسرائيليين استحقاقات متعلقة بالأرض فيها من دون أن يؤدي الى اسقاط الحكومة الاسرائيلية التي تتخذ هذه المواقف إلا إذا اقترن ذلك بعدم حصول هذه الأحزاب على مكاسب اجتماعية، كما يحصل مع حزب شاس الديني الآن... إن سقوط نظرية أرض اسرائيل الكبرى التي تمسكت بها الأحزاب الدينية، وتراجع الخطاب السياسي والاعلامي لهذه الأحزاب باتجاه تجاوز الحديث عن هذه النظرية وتركيزها فقط على رفض اخلاء المستوطنات في أية تسوية سياسية مقبلة يؤكد حقيقة وجود تراجع أو توقف اندفاع للمشروع الصهيوني، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد أهمية الاستغلال السياسي الصحيح لحال التراجع هذه، والذي يجب أن يستند الى استمرار التمسك بالمقاومة كعنصر أساسي وحيوي في تحقيق تراجعات أخرى في المشروع الصهيوني وإنضاج ظروف اقليمية ودولية مناسبة لتحقيق انجازات مرحلية لا تنتقص ولا تضر بهدف التحرير النهائي. ولا شك في أن اندحار الاحتلال الصهيوني للبنان سيظل يمثل نموذجاً يقتدى في الاستثمار الأمثل لضعف المشروع الصهيوني وتراجعه واستخدام الوسيلة الأكثر تأثيراً في ذلك، وهي المقاومة وتهيئة ظروف عربية وعالمية داعمة لها. وإذا كنا نعتبر ان الطرف الفلسطيني قدم تنازلات خطيرة في كامب ديفيد - 2 للطرف الاسرائيلي، فإن قبول هذا الأخير بالتفاوض حول القدس وطرحه حلولاً غير سياسية لها يمثل في أحد جوانبه تراجعاً جزئياً عن مواقفه السابقة، بعد أن اتخذت السعودية ومصر مواقف حازمة وصلبة بالإصرار على السيادة الكاملة على المدينة، مما يقتضي مواقف أكثر صلابة في هذا الموضوع والمواضيع الأخرى، ودعماً للمقاومة الفلسطينية التي تعتبر أن جهود تحجيم دورها خلال المرحلة الماضية بسبب جهود استخبارية فلسطينية - اسرائيلية - أميركية كانت خطأ فاحشاً ترتكبه السلطة الفلسطينية على المستوى التكتيكي والاستراتيجي! * كاتب فلسطيني.