كان المحور الاساسي الذي دارت حوله عملية التسوية السياسية بين العرب والدولة العبرية هو حماية الامن الاسرائيلي على المستويين الجماعي والشخصي، وحكم هذا الاعتبار مسار عملية التسوية في جميع مساراتها صعوداً وهبوطاً، بل استخدم في كثير من الاحيان كمبرر لتغطية اهداف وغايات سياسية اهمها حرمان الشعب الفلسطيني من التمتع بالسيادة الحقيقية على ارضه. كما ان القناعات الشعبية الاسرائيلية ازدادت بأهمية الاعتبار الامني على الرغم من مرور سنوات على عملية التسوية، الامر الذي ادى الى نجاح ليكود في اعتلاء سدة الحكم بعد نجاحه في اقناع الشارع الاسرائيلي انه الاقدر على حفظ الامن الاسرائيلي. والآن، تخوض الولاياتالمتحدة الاميركية تصعيداً عسكرياً ضد العراق نيابة عن الدولة العبرية للمبرر الامني نفسه، ذلك ان منع العراق من امتلاك الاسلحة الكيماوية والجرثومية يهدف بالدرجة الاساسية الى الحيلولة دون ان تشكل هذه الاسلحة تهديداً مباشراً لاسرائيل حتى ولو في الاطار النظري. وهذا يصبّ في المسعى الاميركي المستمر للحفاظ على التفوق النوعي والاستراتيجي للدولة العبرية على محيطها العربي في اطار التحالف الاستراتيجي الاميركي - الاسرائيلي في مواجهة بروز قوى اقليمية معادية للولايات المتحدة في المنطقة العربية. استطاعت الولاياتالمتحدة في "عاصفة الصحراء" عام 1991 ان تتمترس في حربها ضد العراق وراء اهداف وغايات نبيلة، هي: تحرير الكويت من الاحتلال العراقي واعادة الشعب الكويتي المشرد الى ارضه وازالة آثار الظلم والعدوان العراقي، مخفية بذلك اهدافاً مهمة على رأسها حماية المصالح الاميركية في المنطقة، عبر ضمان التفوق النوعي الاسرائيلي وازالة اي تهديد حقيقي للدولة العبرية في المنطقة العربية. ولكن، هذه المرة، لن تستطيع الولاياتالمتحدة ان تجد من المبررات ما يكفي لتغطية اهدافها الحقيقية من التصعيد ضد العراق، بل ان استمرار تعطيل عملية التسوية سلّط المزيد من الاضواء على الانحياز الاميركي الصارخ لاسرائيل، حيث بدت الادارة الاميركية الحالية وكأنها تكافئ نتانياهو على تشدده وتصلّبه، وترسخ القناعة بأن امن الكيان الصهيوني مقدم على الاعتبارات الاخرى، حتى لو كانت تتعلق بهيبة العرب الذين ساندوا الحملة الاميركية من دون ان يحصلوا على مقابل حقيقي يتعلق بإنهاء القضية الفلسطينية وحصول الفلسطينيين على جزء من حقوقهم المشروعة في اطار عملية السلام الموعودة. اصبحت معادلة الامن الاسرائيلي تعني، بالاضافة الى اشعال نار حرب اهلية بين الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي، وان يذوق الشعب العراقي مجدداً ويلات الحرب والدمار، وبمعنى آخر، فان هذه المعادلة باتت تعني للشعوب العربية ثمناً باهظاً، هو الثمن الذي كان يؤمل ان يتوقف العرب عن دفعه بعد عملية التسوية، فإذا بهم مطالبون بأن يدفعوه مرات ومرات! وبغضّ النظر عن النتيجة التي ستسفر عنها الازمة الحالية، فإن التصعيد الاميركي العسكري هذه المرة سيؤدي الى نتائج مغايرة، اذ ان عملية التسوية باتت الآن في وضع اكثر اهتزازاً وتراجعاً، والاجواء لم تعد مهيأة للقناعة بجدوى هذه العملية في الجانب العربي، وكذلك الحال في الجانب الاسرائيلي وان لأسباب مختلفة. ولا يعني هذا الكلام ان المواجهة باتت حتمية بين العرب واسرائيل، فالاجواء لم تكن كذلك حتى قبل عاصفة الصحراء، ولكن القناعات تعززت بسقوط مقولة الوسيط الاميركي النزيه. واستمرار مواقف حكومة نتانياهو السلبية من تطبيقات اتفاق اوسلو، من شأنه ان يدفع باتجاه استمرار استعصاء ازمة التسوية على الحل، ويهيئ الاجواء باتجاه المزيد من التصعيد السياسي والعسكري سواءً داخل الارض المحتلة او خارجها. وما من شك ان فشل عملية التسوية ستكون له تداعيات ونتائج مهمة في الساحة العربية على الصعيدين الرسمي والشعبي، غير ان اجواء الاحباط والتشاؤم التي سيزيدها توجيه ضربة عسكرية اميركية للعراق، ستعزز من المعارضة الشعبية لعملية التسوية بشكل لن تفلح معه اية محاولات لترويج تنازلات واستحقاقات عربية وفلسطينية. ان عقدة الامن الاسرائيلي ستكون لها نتائج عكسية على الاسرائيليين انفسهم، فهي التي حالت وستحول دون قبولهم بالاندماج في المجتمعات العربية المحيطة بهم، وهي التي ستدفع بعملية التسوية للمزيد من التأزيم، وستريح العرب من عناء اظهار معارضة عملية التسوية بسبب شروطها المجحفة، لأن الجماهير الاسرائيلية، وبالتالي الحكومات الاسرائيلية، ما زالت غير مقتنعة بجدوى عملية التسوية ولا مزاياها التي دفع رابين حياته ثمناً لمحاولة إبرازها وإظهارها.