ضمن الكتب المهمة التي صدرت عن "دار النفائس للطباعة والنشر"، كتاب "تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام" لمؤلفه محمد سهيل طقوش. وبحث المؤلف في تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، واهميته انه خرج على المألوف في ما يخص تاريخ آل زنكي، فالمعروف ان معظم الدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ هذه الاسرة، اقتصرت على دراسة شخصين مهمين فقط هما: عماد الدين زنكي الذي اسس دولة الزنكيين في الموصل ورفع راية الجهاد ضد الفرنجة، ونورالدين زنكي الذي وحَّد بلاد الشام تحت رايته. في حين ان هذه الدراسة اتسمت بالطابع الشامل لآل زنكي الذين حكموا في مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الاسلامي، سادتها النزاعات بين العباسيين في بغداد والفاطميين في القاهرة، وكانت سمتها النزاع بين الامراء وتبادل النفوذ في بلاد الشام. قسّم المؤلف بحثه الى قسمين: عالج في الاول نشوء الدولة الزنكية وتاريخها في الموصل، وخصَّص الثاني لتاريخ الزنكيين في بلاد الشام وجهود نورالدين في توحيد المسلمين وجهاده ضد الفرنجة. تطرق الفصل الاول الى الوضع السياسي في الشرق الادنى قبيل تأسيس الدولة الزنكية متوقفاً بالحديث عند وضع الخلافة العباسية التي فقدت هيبتها السياسية منذ نهاية القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، وتراجعت قوتها، فانتقلت من المركزية الى اللامركزية في نظام الحكم وقامت في كنفها دول انفصالية مستقلة استقلالاً تاماً او جزئياً مع الاعتراف بسلطان الخليفة الروحي، كما دخلت شعوب جديدة في المجتمع الاسلامي تمكنت من الوصول الى الحكم، ما ادى الى وقوع الخلفاء تحت تأثير نفوذهم. وقاد ذلك الوضع الى تحجيم دور الخلفاء السياسي الفاعل، ففقدوا الاحترام الذي كان يتمتع به اسلافهم. بعد ذلك ينتقل المؤلف الى الحديث عن العلاقات العباسية - السلجوقية التي بدأت بالظهور عام 429ه / 1037م عندما اعلن طغرلبك 429 - 455ه / 1037 - 1063م قيام دولته في خراسان، واضحى السلاجقة، منذ ذلك التاريخ يمثلون ظاهرة جديدة في حياة دولة الخلافة العباسية. يستعرض المؤلف طبيعة العلاقة القائمة بين الخلافة العباسية والسلطة السلجوقية التي استمرت ما يقارب الثمانية عشر عاماً في مسارها الطبيعي والطيب منذ ان اعلن طغرلبك قيام دولته في خراسان. لكن سُرعان ما نشب الخلاف بين الطرفين إثر دخول العراق ضمن دائرة النفوذ السلجوقي، وسيطرة طغرلبك على بغداد عام 447 / 1055م حيث اعترف به الخليفة ابو جعفر عبدالله الملقب بالقائم بأمر الله 422 - 467ه 1031 - 1075م سلطاناً على جميع المناطق الخاضعة لسيطرته، وامر أن يُذكر اسمه في الخطبة، وفوَّضه حُكم ما يفتحه من المناطق الغربية. وما زاد الامور تفاقماً، محاولة ربط البيتين العباسي والسلجوقي بالمصاهرة فخطب طغرلبك ابنة الخليفة، متجاوزاً بذلك تقاليد الخلافة العباسية، وهذا مطمع لم يسع اليه احد من قبل من خارج الاسرة العباسية. وهذا الوضع يُذكرنا برد الفعل القوي الذي بدا عند الخليفة ابي جعفر المنصور إزاء القائد ابي مسلم الخراساني الذي طلب يد زوجة عم الخليفة عبدالله بن علي بعد وفاته، فكان لهذا الطلب وقع سلبي عند الخليفة ابي جعفر ظهرت تفاصيله في المحاكمة الشهيرة التي خضع لها ابي مسلم الخراساني بعد القاء القبض عليه من قبل رجال الخليفة العباسي، وقد استمرت العلاقات متوترة بين الجانبين العباسي والسلجوقي، في ظل حكم السلطان الب ارسلان 455 - 465ه 1063 - 1072م الذي خلف طغرلبك. يتوقف الباحث عند التوسع السلجوقي في الشرق الادنى من خلال خطة عسكرية وضعها السلاجقة ذات شقين، الاول: توسيع رقعة دولتهم على حساب البيزنطيين بهدف نشر الاسلام في ربوع آسيا الصغرى. والثاني: التوجه الى بلاد الشام، ومصر للقضاء على الدولة الفاطمية. وشهدت سنوات حكم الب ارسلان صدامات حامية مع البيزنطيين توّجها بانتصاره الكبير في معركة "مافزيكرت" 463ه / 1071م الشهيرة التي فتحت ابواب الاناضول امام السلاجقة لينسابوا في ربوعه، كما سيطر السلاجقة في عهد ملكشاه الاول على بلاد الشام التي اسند حكمها الى تاج الدولة تُتش مؤسس دولة سلاجقة الشام في عام 477ه /1084م واتخذ دمشق مقراً له... بعد ذلك يعرج المؤلف على تنازع السلاجقة وتراجع قوتهم وعلى تأسيس الدولة العبيدية الفاطمية ثم يتوقف عند تاريخ الحركة الصليبية متحدثاً عن طبيعتها ودوامها ثم عن الحملة الصليبية الاولى ونتائجها ومنها سقوط "نيقية" وتأسيس إمارتي الرها وانطاكية ومملكة بيت المقدس وإمارة طرابلس. في الفصل الثاني من القسم الاول يتناول المؤلف الجذور التاريخية لبعض العائلات، كالأتابكة واصلهم، وقسيم الدولة آق سُنقُر ومكانته عند السلاجقة، ثم يتوقف عند وضع مدينة حلب تحت حكم آق سُنقُر وسياسته الداخلية منوهاً بسياسة آق سُنقُر الداخلية باعتراف المؤرخين امثال ابن القلانسي وسبط ابن الجوزي، كما يتوقف عند انجازاته العمرانية، اذ جدَّد عمارة منارة حلب بالجامع عام 482ه / 1089م واسمه منقوش عليها الى اليوم، كما امر بتجديد مشهد الدكة، وعرّج ايضاً على سياسته الخارجية وقواته العسكرية وخلص الى القول ان آق سُنقُر اتبع سياسة عادلة فأحسن السيرة في اهل حلب. في الفصل الثالث من هذا القسم توقف عند امراء الموصل قبيل حكم الزنكيين: قوام الدولة كربوغا 1096 - 1102م استيلاؤه على الحكم، جهاده ضد الصليبيين، شمس الدولة جَكرْمش، علاقة جَكرمِش بالصليبيين ومعركة البليخ التي احتشد فيها الجيش الصليبي امام حرّان، ثم دارت المعركة بين الطرفين في شهر شعبان 495 ه ايار 1104م على ضفة نهر البليخ وهو اسم نهر في الرقة حيث انسحب المسلمون وفق خطة عسكرية فتبعهم الفرنجة، عندئذ كرّ المسلمون عليهم وهزموهم وابادوا معظم قواتهم، ووقع بالدوين الثاني امير الرها وجوسلين صاحب تل باشر في اسر المسلمين. كما يورد المؤلف نتائج معركة البليخ التي لها اهمية بالغة على الصعيدين الاسلامي والصليبي. ويتوقف عند علاقة جَكرمش بالسلاطين السلاجقة ويشير الى ان جكرمش كان ذا نزعات استقلالية، واعتمد الى حد كبير على ولاء اهل الموصل ومحبتهم له لحسن سيرته فيهم. وقد وظف هذا التأييد لمصلحته في صراعه مع السلطان محمد الذي شدد حصاره على الموصل من دون ان يظفر بغرضه. استغل السلطان السلجوقي هذه الفرصة للتوسع على حساب الامراء المتنازعين فأسرع لنجدة زنكي، ويشير الى تمكن قلج ارسلان الاول من دخول الموصل وسط ترحيب السكان وقد وعدهم باحترام حرياتهم كما اجرى فيها بعض الترتيبات الادارية، الاّ ان النزاع ادى في النهاية الى هزيمة قلج ارسلان الاول وغرقه في نهر الخابور العام 1107م ما افسح في المجال لدخول "جاولي" الموصل، غير ان ما اقترن به حكمه من الوحشية لم يلبث ان جعله مكروهاً عند الناس، كما انه لم يزد عن "جكرمش" في ما اظهره من الاعتراف بسلطة السلطان محمد على رغم انه خطب باسمه في الموصل، اذ اعلن استقلاله وقطع كل صلة به مما دفع السلطان محمد لأن يعهد في شهر ذي القعدة عام 501ه / 1108م الى احد رجاله وهو "مودود بن التونتكين" بطرد جاولي من الموصل والحلول مكانه في حكمها. كما يحفل هذا الفصل بحوادث تاريخية مهمة منها حملة شرف الدولة مودود بن التونتكين الاولى ضد الرها ومهاجمة القائد الصليبي "تانكرد" لمدينة حلب ورد فعل المسلمين ثم حملتا مودود الثانية والثالثة ضد الرها،اضافة الى حملته ضد امارة بيت المقدس ومعركة الصنبرة وهي موضع في الاردن مقابل لعقية أفيق، وتكمن اهمية الاتابك "مودود" في انه: اعاد للمسلمين الثقة بانفسهم، فتحولوا من الدفاع الى الهجوم في علاقتهم مع الفرنجة، وبلور فكرة الاتحاد بين المسلمين واعطاها بعداً سياسياً وعسكرياً فأضحى امراؤهم مستعدين للتعاون المثمر بنيات صادقة. الباب الثاني من الكتاب يحمل عنوان "الدولة الزنكية في عهد عماد الدين زنكي". في هذا الباب يتوقف عند علاقة عماد الدين زنكي بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية متناولاً البدايات الاولى لمسيرة دخوله في خدمة اتابكة الموصل منذ العام 489ه/1096م فخدم كربوغا وجكرمش الذي خلف كربوغا في حكم الموصل العام 495ه / 1102م ثم انضمام عماد الدين زنكي الى آق سنقر البرسقي الذي اشترك معه في الحروب ضد الصليبيين في الرها وسميساط وسروج، ما زاد من شهرته لدى المسلمين، الى ان استطاع عماد الدين زنكي كسب رضا سلاطين السلاجقة والانتقال في حكم البلاد، بفضل ما اوتي من حزم وشجاعة. ويشير المؤلف الى ان علاقته بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية راوحت بين العداء الشديد والتعاون المثمر وفقاً للمصلحة العامة والشخصية في الوقت نفسه. على ان هذه التقلبات لم تؤثر في مركزه في ولاية الموصل والجزيرة وبلاد الشام، كما يشير الى ان للحروب التي حدثت بين السلاجقة في ما بينهم من جهة، ثم في ما بينهم وبين الخلافة العباسية من جهة اخرى واشتراك عماد الدين زنكي فيها نتائج مهمة على وضعه السياسي والعسكري ومنها: 1- انه خسر علاقته الودية بالسلطنة السلجوقية التي استفاد منها في ايام السلطان محمود، الا انه حصل على مدينة اربيل المهمة عسكرياً. 2- ذاع صيته كأمير ذي قوة مؤثرة في الصراع الدائر في المنطقة. 3- خرج من تلك الحروب وقد تعرف إلى عائلة بني ايوب، مما سيكون له اثر كبير في تطور هذه العائلة وازدياد نشاطها. 4- تدهور العلاقات بينه وبين الخلافة العباسية. ويشير المؤلف الى توسع عماد الدين في شمال بلاد الشام واقليم الجزيرة حيث ضم حلب، وسنجار وحران واربيل والرقة ودقوقا وشهر زور، وكذلك توسعه باتجاه الجنوب. ثم يتوقف عند علاقة عماد الدين زنكي بالاكراد، الاكرار الحميدية، الهكارية، المهرانية واليشنوية... ويدور الفصل الخامس على علاقة عماد الدين زنكي بالدول والامارات الاسلامية، واهتماماته بديار بكر، ثم حركته التوسعية الهادفة الى توحيد الامارات الاسلامية بالهجوم على نصيبين التابعة لامارة ماردين وضمها لامارته ثم معركة دارا التي كان من نتائجها الفورية سيطرة عماد الدين زنكي على عدد من المواقع القريبة كحصن سرجى ودارا وهي بلدة عند سفح جبل بين نصيبين وماردين، ثم يعرج على التحالفات السياسية بين عماد الدين زنكي والاراتقة وخصوصاً اواخر عهد عماد الدين. وتناول السادس علاقة عماد الدين زنكي بالصليبيين، الصدامات الاولى معهم، موقفه من الفرنجة في بداية حكمه. وتناول الثامن دولة الموصل بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في عهد سيف الدين غازي الاول. والتاسع الى علاقة الزنكيين مع الايوبيين والاراتقة. كما يتوقف على الدولة الزنكية في بلاد الشام وحلب ودمشق 541 - 577ه / 1146 - 1181م صعود نورالدين محمود، انقسام الدولة الزنكية، سياسة نورالدين محمود العامة، ثورة الرهاويين، التعاون بين نورالدين محمود وحكام دمشق ثم حملة نورالدين محمود ضد امارة انطاكية، ثم سنوات القلق 550 - 557 ه / 1155 - 1162م، تجديد الهدنة مع مملكة بيت المقدس، الوضع الداخلي في مصر، التنازع مع مملكة بيت المقدس 552ه / 1157م، تدخل نورالدين محمود في بانياس: مرضه وانعكاسه على الوضع السياسي، التدخل البيزنطي في شؤون الشام ثم الصراع بين نورالدين محمود وعموري الاول حول مصر 558 - 565ه / 1163 - 1169م في جميع مراحله، الحملة النورية الاولى على مصر، الحملة النورية الثانية على مصر، دوافع الحملة، المفاوضات النورية - الصليبية بشأن الجلاء عن مصر ثم الحديث عن المرحلة الثالثة وهي التعاون الصليبي - البيزنطي ثم الاشارة الى سياسة نورالدين محمود بين الاعوام 565 - 569ه - 1170 / 1174م. ويختم المؤلف بالحديث عن الدولة الزنكية في بلاد الشام اواخر ايامها. وتكمن اهمية الدولة الزنكية في الدور المهم الذي ادّاه امراؤها على مسرح احداث الشرق الادنى الاسلامي خلال القرنين السادس والسابع الهجري. ويشكل العهد الزنكي اكثر من حادث عابر في التاريخ الشرقي خصوصاً تلك التي جسّدها عماد الدين وابنه نورالدين محمود زنكي، فكل منهما يمثل احدى تلك المراحل النادرة والمعبرة في التاريخ الانساني. ولا شك في ان الزنكيين وضعوا حجر الاساس في البنيان الذي جاهد صلاح الدين في استكماله مستوحياً دوافعه من ايمانه العميق ووعيه التام بأهمية الرسالة التي حملها في توحيد البلاد الاسلامية وتحرير مقدساتها من الوجود الافرنجي. * اكاديمي لبناني.