المألوف أن يتطابق السلام مع الشرعية، بمعنى أن يقوم على مرجعيات قانونية يرتضيها المجتمع الدولي وتستقر بها معاملاته وأن أي حيد عن هذه المرجعيات بأي شكل يجب أن يتم بحذر وألا يكون الانحراف بشكل يفارق فيه السلام أسانيد الشرعية أو يفترق عند القانون عن التسوية، وأن يتم تبرير هذا القدر من الابتعاد عن القانون عن طريق ايضاح خصوصية الحالة وجدارتها المقبولة بأن تتمتع بمعاجلة خاصة. صحيح ان السلام بين أطراف متعادية يعكس بشكل أو بآخر ميزان القوة بين الطرفين، ولكن ان يكون السلام في جانب والشرعية في جانب، او بعبارة أخرى ان يتناقض السلام مع الشرعية ويلغي كل منهما الآخر في قضية معنية فهذا هو الجديد في السلام الفلسطيني - الاسرائيلي، وهو أكثر خطورة وغرابة وشذوذاً في قضية القدس بالذات. وسبب الغرابة وموطن الخطورة هو أن القدس لا تخص الفلسطينيين والاسرائيليين وحدهم وإنما تهم أصحاب الأديان السماوية جميعاً. وسبب الخطورة في قضية القدس كذلك هو أن للمدينة المقدسة مرجعية واضحة وقاطعة لا يجوز تجاهلها او القفز عليها. وسبب الخطورة ثالثاً هو أن أي تسوية لقضية القدس تعكس ثقل الاحتلال ولا تستند الى القانون ستكون عرضه للقلق وعدم الاستقرار ما دامت القضية تتعلق بالعقيدة وتتصل بالوجدان الديني. بل إن أي تسوية غير مقبولة وعادلة وقانونية سوف تحدث وقيعة بين أصحاب الأديان ما يجعل السياسة عامل فرقة وصراع مرير قد لا يدركه السياسيون الذين يتعاملون مع هذه القضية الشائكة. واذا كانت قضية القدس متفردة على هذا النحو، فإن غرابة التناقض بين منطق السلام ومنطق الشرعية تعظم دلالتها. أما كيف يتناقض السلام مع الشرعية في السلام العربي - الاسرائيلي عموماً وفي قضية القدس خصوصاً، فإن هذا يتطلب بعض الايضاح. ذلك أن اسرائيل أصرّت منذ العام 1967 على أن تسوي قضية الاراضي التي احتلتها بالقوة وادخلت الصراع مع العرب مرحلة جديدة، بشكل ثنائي بينها وكل دولة احتلت اراضيها على أساس أن لكل اقليم محتل وضعه القانوني المختلف من وجهة نظرها وظروف احتلال مختلفة ومسوغات بقاء في الاقليم مختلفة ايضاً. ففي مرحلة ما بعد 1967 جربت اسرائيل استخدام القوة لنقل الصراع من مرحلة التنازع حول شرعية بقاء اسرائيل وحق اللاجئين العام 1948 في العودة وعدم حق اسرائيل في اكتساب اراض جديدة خارج قرار التقسيم حتى لو سلمنا بشرعيته، الى مرحلة انشغال كل دولة عربية بأقليمها المحتل وبالآثار الداخلية والاقليمية التي سببتها الحرب والهزيمة وعجز هذه الدول عن طرد المحتل بالقوة او إنهاء الاحتلال بالجهود السياسية او الديبلوماسية. في هذه المرحلة الجديدة انتقلت قضية القدس الى وضعية مختلفة، فبعد أن كان العرب ينازعون في عدم شرعية احتلال اسرائيل للقدس الغربية مستفيدين في ذلك الى قرار التقسيم والى قرارات مجلس الأمن التي دانت هذا الاحتلال ونقل مقر الكنيسيت الى القدس، صارت القدسالشرقية هي الاخرى تحت الاحتلال الاسرائيلي وكانت اسرائيل لا تزال تفكر في تحديد مصير المدينة المقدسة التي وضعها قرار مجلس الامن الرقم 242 الخاص بتسوية اثار حرب 1967 وحدها ضمن الاراضي المحتلة. ولما قررت اسرائيل ضمها او تغيير هويتها واجه مجلس الامن هذا التحدي بقرارات تنكر هذه السياسة الاسرائيلية وتفرغها من أي أثر قانوني، بل وتصر على ان تُعامل القدس كلها معاملة الاراضي المحتلة وفق اتفاقية جنيف الرابعة وحيث لا تتمتع اسرائيل فيها سوى بوضع السلطة المحتلة. وحتى اتفافية اوسلو قررت ان القدس ضمن عدد آخر من المواضيع المهمة التي حجزت للتفاوض وانه لا يجوز تطبيقاً لذلك أن يقرر مصيرها طرف واحد. ولهذا الموقف دلالتان: الاولى أنه لا يعترف بأن القدس عاصمة موحدة وأبدية كما تزعم اسرائيل، وأن على الدولة العبرية ان تكف يدها عن المساس بوضع المدينة الى أن تقرر المفاوضات مصيرها بالاتفاق بين الطرفين. والدلالة الثانية هي أن القدس وفقاً لاتفاق أوسلو تغير وضعها القانوني بعض الشيء، اذ أنها ظلت من الناحية القانونية اراض محتلة، وآية ذلك حظر المساس من طرف واحد بوضعها، ولكنها من ناحية اخرى قررت اسرائيل حق الاشتراك مع الفلسطينيين في تحديد مصيرها. وهذا الموقف يعكس بشكل ما موقف المجتمع الدولي الثابت منذ 1947 وهو موقف، وإن كان ظالماً لأنه يجعل القدس محل نزاع بعد ان كانت خالصة للعرب، إلا أنه أكثر تقدماً من موقف اسرائيل. فالشرعية في قضية القدس تتمثل في المبادىء التي جسدتها قرارات الأممالمتحدة منذ العام 1947 حتى الآن، واما السلام في القضية كما تفهمه اسرائيل فهو إغفال هذه الشرعية كلية لأنها في نظر اسرائيل مسألة نظرية لا تفيد شيئاً، وان السلام الحقيقي هو ترك الباب مفتوحاً للإرادات الحرة لطرفي النزاع للاتفاق على وضع معين. وطبيعي ان فكرة السلام على هذا النحو تجعل ميزان القوة وليس القانون ومساندة المجتمع الدولي هي نقطة البداية والمنتهى، وأن اي إقحام للشرعية في السلام على هذا المفهوم سوف يؤدي الى الخروج عن نقاط التفاهم التي بدأت بها عملية السلام. هذا الوضع خلق تناقضاً غريباً بين الشرعية والسلام في قضية القدس، وفي بقية جوانب السلام الفلسطيني - الاسرائيلي. ولعله للمرة الاولى في التاريخ ان يفترق مفهوم السلام عن مضمون الشرعية ولذلك يبدو غريباً أن يفسر لجوء الجانب الفلسطيني لمرجعيات الشرعية ورموزها نكوصاً في وعوده عن عملية السلام، كما تفسر محاولة الفلسطينيين اشراك أطراف أخرى في عملية السلام لتخفيف الاستقطاب فيها وارتفاع درجات التحيز لمصلحة اسرائيل، على أن هذا المسعى خروج على منطق السلام واشراك الغرباء فيها. والمحقق هو أن افتراق منطق السلام الذي تحبذه اسرائيل عن منطق الشرعية الذي يؤيده العالم والعالم العربي خصوصاً، سوف يؤدي الى نتائج تتفق مع منطق السلام الذي يقف وراء ثقل الاحتلال، ولا مفر من أن يقوم السلام على أساس الشرعية وان تكف اسرائيل عن تغيير عناصر الشرعية، او فرض منطق السلام الذي يتجرد من كل قانون، بل ويهدف الى صناعة شرعية جديدة. واذا قامت شرعية جديدة أساسها الاتفاق أي في إطار السلام فسوف تكون منحرفة بشكل ما وبقدر ما تملكه اسرائيل من قدرة على إرغام الفلسطينيين عن الشرعية الدولية المستقرة. فهل تلغي الشرعية الجديدة الشرعية القديمة؟ وهل تسمو شرعية الاتفاق الثنائي القائمة على التوفيق، وهو أحد الأساليب السياسية للتسوية، على شرعية المبادىء التي تعكس أحكاماً قبلها المجتمع الدولي وقررتها الأممالمتحدة؟ بعبارة أخرى اذا كانت القدس في نظر الأممالمتحدة واتفاق اوسلو ايضاً أراض محتلة، وأنه يتعين تقرير مصيرها بالاتفاق، فهل يصير هذا الاتفاق منسجماً مع هذه الشرعية الواضحة التي تقف عند حد إنكار الاحتلال بأي أسلوب، وأنه وضع موقت، لكنها تترك تقرير مصير القدس لطرفي النزاع. هذا هو وجه الخطر في المسألة. فالشرعية الدولية تصر على أن القدس اراض محتلة وان ضمها باطل ولا أثر له وانه لا يجوز قانوناً فرض أمر واقع مخالف عن طريق نقل البعثات الى القدس. اخشى أنه ما لم يقرر العرب والمسلمون بشكل قاطع ونهائي عن أي قدس يتحدثون، فسوف تنقل اسرائيل البعثات الى القدس الغربية، ما دام مؤشر الموقف العربي يقف فقط عند القدسالشرقية التي تضم الاماكن المقدسة، ثم لا فرق بعد ذلك في أن تعلن اسرائيل أن عاصمتها القدس كلها او الغربية وحدها، بل من يراقب نقل السفارات في هذه الحال من القدس الغربية الى الشرقية. ومن الواضح ان نقطة البداية في الموقف العربي يجب ان تكون بوضوح المنطق الاسرائيلي نفسه. فإسرائيل تعلن أن القدس الغربية انضمت اليها الشرقية ليكون الاثنان عاصمة الدولة العبرية. اما أسانيد اسرائيل فهي الأسانيد نفسها التي ساقها لتبرر قيامها على أسس تاريخية ودينية محل جدل. ورغم ان للعرب كل الحق في كل القدس وأن الشرعية الدولية السقيمة التي رفضوها في قرار التقسيم العام 1947 تسند موقفهم هذا، إلا أننا نجد الخطاب العربي منقسماً بشكل مؤلم: فالبعض يتكلم عن القدس كلها، وهم قلة وأنا منهم، والأكثر يتحدثون عن القدسالشرقية التي ورد ذكرها في قررارات مجلس الأمن ابتداء من العام 1967. ثم يختلف العرب بعد ذلك حول هل يريدون مدينة موحدة أم منقسمة الى شرق وغرب، وهل يمكن قسمة الشرق الى مناطق، وهل يمكن فصل السيادة عن الأماكن المقدسة... الخ. إن هذا الانقسام في الرؤية العربية والفلسطينية يفقد الموقف العربي الصلابة الواجبة، فلتكن نقطة البداية واضحة وليتمسك العرب بكل القدس لأسباب تاريخية ايضاً وأكثر قبولاً وإقناعاً، وأسباب قانونية اكثر إفحاماً، وليصر العرب على منطق قانوني متماسك ينتظم كل عناصر الشرعية الدولية وأن يعملوا على دعم أركان هذه الشرعية وتقوية دعاماتها. * كاتب مصري.