أدى اعلان القرار الاسرائيلي باجراء انتخابات نيابية مبكرة، الى شبه اغلاق للملف الفلسطيني الاسرائيلي، بانتظار اعادة فتحه بعد الانتخابات. وكانت النتيجة المباشرة الاولى لهذا القرار، غياب شبه كامل للحدث الفلسطيني السياسي والاعلامي، الا ما يتعلق بأنباء الاستيطان او حوادث القمع والاعتقال للفلسطينيين المحتجين على سلب اراضيهم او هدم بيوتهم. وجرت في سياق ذلك محاولة فلسطينية لتحريك الوضع سياسياً، من خلال الاتفاق مع مصر على سلسلة من الاتصالات العربية والدولية، كانت أبرز حلقاتها دعوة إلى اجتماعات ثلاثية بين مصر والاردن والسلطة الفلسطينية، ترفع درجة التعاون الاقتصادي بينهم، وتؤسس لتنسيق ثلاثي بشأن المفاوضات النهائية، ودرس امكان احياء المبادرة المصرية - الفرنسية لعقد مؤتمر دولي يحرك عملية التسوية السياسية. وهي المبادرة التي قضى عليها اتفاق "واي بلانتيشن"، باعتبار ان التحريك قد تم من خلال ذلك الاتفاق، والذي ما لبث ان دخل في عالم الجمود من جديد. قبل اتفاق "واي بلانتيشن" كانت السلطة الفلسطينية ترفع مهددة شعار إعلان قيام الدولة الفلسطينية في 4 أيار مايو 1999، احتجاجاً على استنكاف نتنياهو عن تنفيذ اتفاق إعادة الانتشار، ثم خبا هذا الشعارعند تنفيذ الخطوة الاولى في الاتفاق المذكور. وحين عاد جمود التنفيذ ليهيمن مجدداً تحت ذريعة الانتخابات، برز الشعار لدى السلطة الفلسطينية مرة أخرى. ويطرح هذا الوضع، وضع بروز شعار إعلان قيام الدولة ثم اختفاؤه ثم العودة اليه من جديد، سؤالاً عن وجهة السلطة الفلسطينية، وهل هي جادة في هذا الموضوع أم لا؟ هل تطرح السلطة الفلسطينية شعار إعلان قيام الدولة كخطوة للتنفيذ ام للتهديد؟ من ناحية المبدأ، لا يوجد خلاف فلسطيني على الشعار نفسه، فالكل يؤيد اعلان الدولة ويتوق إليها. أما من الناحية التنفيذية فهناك مؤيدون ومعارضون من داخل السلطة نفسها، ويدور الجدل بين المؤيدين والمعارضين حول امكان تطبيق الشعار في ظل استمرار الاحتلال. المؤيدون يقولون إن انتهاء فترة السنوات الخمس لاتفاق اوسلو الانتقالي، يقتضي ملء الفراغ القانوني الذي سينشأ عن ذلك، واعلان الدولة ضرورة دستورية لتأكيد السيادة الفلسطينية على الارض، والا ستكون الارض تحت سيادة المحتل وحده. ويقولون إن اتفاق اوسلو لم ينص على ان موضوع الدولة الفلسطينية يناقش مع اسرائيل، وهو لم ينص على منع قيام هذه الدولة، ولم ينص على ان قيامها انما يكون باتفاق بين الطرفين. ويرى اصحاب هذا الرأي أيضاً ان اعلان قيام الدولة هو الرد العملي على استنكاف اسرائيل عن تنفيذ الاتفاقات الموقتة اوسلو، القاهرة، طابا، الخليل، واي بلانتيشن. في مقابل ذلك يخشى المعارضون، بحكم طبيعة الاتفاقات الموقعة، ودرجة التنفيذ القائمة على الارض، وسيطرة اسرائيل الامنية الكاملة على المناطق المصنفةب"ج التي تمثل 90 في المئة من الضفة الغربية، ان يقتصر اعلان الدولة على قطاع غزة فقط، ويخشون ان ترد اسرائيل على تلك الخطوة بمنع التواصل بين المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وبمنع العمال الفلسطينيين من العمل داخل اسرائيل، فتضع تطبيق الشعار حتى داخل مناطق الحكم الذاتي، في أزمة سياسية واقتصادية خانقة، لا تملك السلطة الفلسطينية أي حلول ازاءها. ثم برزت بعد ذلك المخاوف من ان تقدم اسرائيل، كما هددت علناً، بضم باقي اجزاء الضفة الغربية اليها اذا ما اقدم الفلسطينيون على خطوتهم من دون التفاهم معها. وأمام هذين الرأيين، لا يبدو أن السلطة الفلسطينية قد حزمت أمرها حتى الآن، والمرجح انها تستعمل الشعار للتهديد وللدفع باتجاه تجديد المفاوضات او تجديد تنفيذ الاتفاقات، وابرز الدلائل على ذلك: اولاً - استنكاف الرئيس ياسر عرفات عن تأكيد موقفه من اعلان قيام الدولة في الموعد المحدد، في خطابه الاخير امام الجمعية العامة للامم المتحدة، وبناء على رغبة اميركية ضغط، مكتفياً بتأكيد حق الشعب الفلسطيني في ان تكون له دولة. ثانيا - تضمين اتفاق "واي بلانتيشن" فقرة تنص على عدم اقدام اي طرف على اعلان مواقف منفردة، مع تكليف الادارة الاميركية بأن تعد مذكرة تحدد فيها المواقف المنفردة التي يجب على كل طرف التزام عدم الاقدام عليها. ثالثا - ما ورد أخيراً على لسان شمعون بيريز بعد اجتماعه مع الرئيس عرفات في بيت لحم، من ان عرفات مستعد لعدم الاعلان عن قيام الدولة اذا ما تجددت المفاوضات. وهناك في المقابل عشرات التصريحات الفلسطينية، التي تؤكدان لا تراجع عن اعلان قيام الدولة في الموعد المذكور. وتطرح هذه المسألة قضية اخرى في منتهى الجدية والاهمية: هل يكون اعلان الدولة تتمة لاتفاق اوسلو وتداعياته، ام هو بداية لمرحلة جديدة تعلن انتهاء اتفاق اوسلو، ومغادرة اتفاق اوسلو، والتخلص من اعباء اسس اتفاق اوسلو، والدعوة الى التفاوض حول قضايا الحل النهائي حسب اسس جديدة، تتخطى نقاط الضعف في اتفاق اوسلو؟ وتبشر بامكان الوصول الى اتفاقات جديدة تحقق شروط الحد الادنى للمطالب الفلسطينية الشرعية؟ لقد قام اتفاق اوسلو على اساس جملة من البنود التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين، من دون ان تكون هذه البنود مستندة الى اي مرجعية دولية او قانونية، فلا هو يستند الى قرار تقسيم فلسطين، ولا هو يستند الى قرار مجلس الامن الرقم 242، ولا هو يستند الى قرارات الجمعية العامة للامم المتحدة الخاصة بفلسطين. وحين تمت الاشارة الى القرار 242 مثلاً، فقد وردت هذه الاشارة في مقدمة الاتفاق ولم ترد في بنوده، وهو امر يعرف القانونيون انه لا يعني الالزام. ونص الاتفاق على ان التفاوض وحده هو مرجعية المتفاوضين. وخلا الاتفاق مثلاً من اي ذكر لكلمة"احتلال"، وذلك حتى لا تكون كلمة "الاحتلال" مدخلاً للمطالبة بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة التي تنظم شروط عمل المحتل، وتمنعه مثلاً من احداث اي تغيير جغرافي القدس او ديموغرافي الاستيطان، التهجير في المناطق التي يحتلها، وجرى في المقابل تكريس مسألتين: الاولى ان القرار 242 هو قرار له تفسيرات مختلفة، وهو بالتالي قرار للتفاوض حول مضمونه وليس قراراً للتنفيذ. الثانية: ان اراضي الضفة الغربيةوغزة هي اراض متنازع عليها، وليست اراضي محتلة يجب الانسحاب منها. وبسبب هذا الغموض، وبسبب هذا الخلل الفادح في بنود اتفاق اوسلو وتداعياته، جرى هذا الخلل في التنفيذ، وفي عهدي رابين ونتنياهو على السواء، حيث ابتدع رابين نظرية تقسيم الاراضي الى أ،ب،ج، وابتدع نتنياهو نظرية التبادلية في التنفيذ الامن، الاعتقال، وقف التحريض ... اولا. الآن... وبينما تقف السلطة الفلسطينية على ابواب مهمات جسيمة، اعلان الدولة والتفاوض حول قضايا الحل النهائي. والآن... وقد قارب الموعد الزمني المحدد لاتفاق اوسلو على الانتهاء، لا يوجد ما يمنع السلطة الفلسطينية من ان تعلن، ان اتفاق اوسلو قد انتهى بانتهاء زمنه وموعده، وان المطلوب الآن هو تفاوض باسلوب جديد ينجز على مرحلتين: مرحلة اولى يتم فيها الاتفاق على اسس التفاوض الجديدة، حسب الشرعية الدولية، وحسب القانون الدولي، وحتى حسب المبادرة الاميركية، مبادرة الارض في مقابل السلام التي صاغها الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، والتي بدأت على اساسها مفاوضات مؤتمر مدريد. مرحلة ثانية يتم فيها التفاوض حول قضايا الحل النهائي، حسب مرجعية واضحة قادرة على ان تحدد سلفاً نتائج المفاوضات كالانسحاب والسيادة، ثم يبقى التفاوض حول الشروط وحول العلاقات التي ستنشأ بعد الاتفاق. واذا لم تقدم السلطة الفلسطينية على موقف من هذا النوع، فان مصير المفاوضات حول قضايا الحل النهائي الارض، الحدود، السيادة، الاستيطان، عودة اللاجئين، القدس، المياه ستواجه مصيراً اشد قتامة وسواداً من مصير تطبيق اتفاق اوسلو، ومن مصير الازمة التي تواجهها تجربة الحكم الذاتي الآن. اذا لم تقدم السلطة الفلسطينية على موقف من هذا النوع، فان كل الملفات المطروحة للتفاوض في الحل النهائي ستكون مفاوضات مرشحة للاغلاق، وسيكون ما انجز في مرحلة الحكم الذاتي هو فقط ما يمكن الوصول اليه، ذلك ان اسرائيل تملك منهجاً متكاملاً للمماحكة،حتى يستحيل في النهاية التوصل الى اي اتفاق معها. لنأخذ قضية عودة نازحي 1967 مثالاً، وهي قضية توافق عليها اسرائيل بالكامل، وتم مع ذلك تجميدها وحتى نسيانها. لقد عقدت سبع اجتماعات للبحث في هذه المسألة، ودارت كلها حول سؤال واحد: من هو النازح؟ ولم يتم التوصل الى تعريف متفق عليه، وانتهى الامر عند هذا الحد. ان النازح معرف في القانون الدولي، ولكن حين استبعدت مرجعية القانون الدولي دخل الموضوع في متاهة لا مخرج منها. ولنأخذ قضية عودة اللاجئين مثالاً، وهي قضية مدرجة في بنود التفاوض حول الحل النهائي، ولكنها مدرجة من دون ذكر مرجعيتها الشرعية والقانونية المتمثلة في القرار 184 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1947، ولذلك فان اسرائيل قادرة على حرف التفاوض حولها باتجاه رفض مبدأ العودة، وطرح فكرة التوطين، ورفض فكرة التعويض، والمطالبة بتعويض لليهود الذين تركوا البلاد العربية وهاجروا طائعين الى اسرائيل. وينطبق الامر نفسه على قضايا القدس والمياه والسيادة، وعلى اي موضوع آخر اساسي، فيجد المفاوض الفلسطيني نفسه امام طروحات لا يمكن القبول بها، وينتهي الامر باغلاق ملف لا يمكن ايجاد حل له، وتصبح نتائج الحكم الذاتي الهزيلة هي حصيلة ما يسمى "حل القضية الفلسطينية". وإذ تملك السلطة الفلسطينية الآن، والآن فقط، فرصة الاستعداد لاعلان انتهاء مرحلة اتفاقات اوسلو، وضرورة البدء بتأسيس مفاوضات جديدة تستند الى أسس جديدة، فانها تملك فرصة انقاذ نفسها من الورطة التي تعيش فيها، وتملك فرصة الخروج من مأزق الرضوخ لاملاءات المفاوض الاسرائيلي، والا فإنها ستضيّع نفسها، وتضيّع قضيتها، وتواجه حكماً تاريخياً لا يرحم. * كاتب من أسرة "الحياة".