تعليقاً على ترشيح السيناتور اليهودي جوزف ليبرمان لمنصب نائب الرئيس في الولاياتالمتحدة، نقل جهاد الخازن في "الحياة" 12/8/2000 عن "صديق عربي" قولاً بدا انه يتبنّاه - إذ أورده من دون مزدوجين، ومن دون تحفُّظ، ولو انه استعمل كلمة "مخاوف" بدل الصفة الشائعة، "نبوءة": "إن غور وليبرمان سيهزمان جورج بوش وديك تشيني، ثم يقتل اليهود غور خلال ستة أشهر من تسلمه الرئاسة، ويصبح ليبرمان رئيساً، وتتحقق مخاوف بنيامين فرانكلين من السيطرة اليهودية على أميركا والعالم". وتعج الأدبيات اليهودية والصهيونية، والمتهوِّدة والمصهينة، ب"وثائق" و"معلومات" مزوَّرة ومحرَّفة ومختلقة: مثلما تعجّ الأدبيات المعادية لليهودية ب"حقائق" تنطبق عليها الصفات الثلاث الآنفة الذكر. وفي اعتقادي الراسخ ان من واجب الذين يعرفون الحق اعلانه جهراً، حتى وإن كان الباطل داعماً لمواقفهم ضد أعدائهم: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون" القرآن الكريم، 2:42. فالساكت عن الحق، كما في الحديث النبوي، شيطان أخرس. من هذا المنطلق، أرى لزاماً عليَّ تصحيح ما أزعم - الى ان يثبت لي العكس -أنه خطأ يردده بعض الكتاب والاعلاميين العرب منذ بضعة عقود وكأنه حقيقة ثابتة، ألاَ وهو "نبوءة" بنيامين فرانكلين عن اليهود. وفي ظني ان السبب الوحيد لذلك: الى جانب ان تلك "الوثيقة" تدغدغ مشاعرنا، نحن الناقمين على اسرائيل وتسلّط اليهود على الولاياتالمتحدة: هو ندرة الباحثين الحقيقيين الجدِّيين بيننا، مقابل كثرة هائلة من النَّقَلة، الذين "سكنوا الى معارفهم الموروثة، فقعدوا عن البحث والتحقيق والتدقيق"، كما يقول صقر أبو فخر في دراسة ليست بعيدة عن هذا الإطار "الحياة"، 12/12/1997. ومن الطريف ان بعض "الباحثين" عندنا يُصرُّون على كون "بنيامين" فرانكلين... رئيساً أميركياً، ربما لأن صورته تتصدَّر العملة الأميركية من فئة مئة دولار! ليس هناك على ما يبدو نصٌّ أصليّ واحد لتلك الوثيقة المزعومة، ومعنى ذلك أن عملية التحوير والتزوير بدأت حتى ما قبل وصول النص الينا. وهنا، مثلما في ألمانيا وغيرها، أجرى كل من خاض في غمار هذه القضية تعديلات بحسب ما يحلو له: هذا يضيف، وذاك يحذف، وآخر يبدِّل ويغيِّر. فالترجمة العربية الكاملة حذفت، مثالاً لا حصراً، القول المنسوب الى فرانكلين عن ان اليهود "آسيويُّون" ولن يكونوا غير آسيويين أياً كانت البلدان التي يولدون فيها، وأياً كان عدد الأجيال التي عاشوها بعيداً عن "آسيا"، وأن "ما من بلد استوطنه اليهود بأي عدد كبير... إلاّ وسخروا فيه من الدين المسيحي الذي قامت عليه تلك الأمة، وحاولوا تقويضه". لا يحيل معظم متبنّي "نبوءة" فرانكلين قراءهم الى أي مراجع أو مصادر لدعم مثل هذه الدعوى، وكأنهم سمعوا تلك الأقوال من فرانكلين نفسه، أو تأكدوا كلياً من صحتها. وثمة قلائل يقولون ان النص الأصلي موجود في "معهد فرانكلين"، وواحد فقط - على ما أظن - يقول ان ذاك النص موجود في مكتبة الكونغرس! احتفظُ منذ عام 1984 بنُسخ فوتوغرافية فوتوكوبي عن صفحة مطبوعة على الآلة الكاتبة تحمل في أسفلها هذه الملاحظة بين قوسين: "إن أصل هذه النسخة موجود في معهد فرانكلين، في فيلادلفيا - بنسلفانيا" - وفي هذا الزعم بالذات مدعاة للتشكيك، لأن الآلة الكاتبة لم تكن موجودة أيام فرانكلين وكان على مروِّجي "الوثيقة" الأذكياء القول إنها نسخة "طبق الأصل". أضف الى ذلك ان تلك "النسخة" مصدَّرة بالتمهيد الآتي، أيضاً بين قوسين: "مقتطف كذا، بالمفرد من يوميات تشارلز بيركني من ساوث كارولاينا عن مجريات جلسات المؤتمر الدستوري في 1789 بخصوص بيان بنيامين فرانكلين في المؤتمر عن الهجرة اليهودية" - هذا، في حين ان المؤتمر المذكور عُقد قبل ذلك بعامين، وأن اسم المندوب من ولاية ساوث كارولاينا "بنْكني" Pinckney وليس "بيركني". وعلى رغم كتاباتي الكثيرة عن اليهود الأميركيين، على نحو خاص، وعن العلاقة الحميمة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، فإنني لم أسمح لنفسي حتى بالاشارة المتحفظة الى تلك "النبوءة"، التي يصفها بعضنا بالتاريخية أو الخطيرة، لما فيها هي نفسها من أدلة تفضح زيفها. أكثر من ذلك، انني لم اجد أي اشارة اليها، لا من قريب ولا من بعيد، في كتابات الأميركيين من أصل عربي، أو الأميركيين المناهضين للصهيونية. كذلك، لم أسمع أي كلام عنها من أيٍّ من عشرات الأكاديميين والباحثين الذين قابلتهم أثناء عملي الاعلامي في الولاياتالمتحدة. أذكر، على هامش الموضوع، أن ثمة كتاباً بالفرنسية أوردها على نحو عابر... وأيضاً من غير الاستناد الى أي مرجع محدّد. يقول "بيير آبس "HEPESS، في كتاب "الصهيونية والشعوب الشهيدة: الحفل الساهر الكبير"، "إن بلاداً غنية تضم مئة وستين مليون نسمة هي بين أيدي خمسة ملايين يهودي. وهكذا تحققت نبوءة بنيامين فرنكلان ]كذا[ حول خطر تهويد الولاياتالمتحدة". نقلاً عن س. ناجي "المفسدون في الأرض"، دار العربي للاعلان، ط 2، دمشق 1973. والآن، الى الأدلة العديدة التي تنفي - في اعتقادي - صحة "النبوءة" الفرانكلينية، على رغم ما فيها من أقوال عدة تنطبق على الواقع الحالي: 1- يبدو أن هذه "الوثيقة" ظهرت أول مرة في 3/2/1934، في المطبوعة النازيّة الاتجاه "ليبرايشن" التحرير، التي كان يصدرها في آشفيل - نورث كارولاينا زعيم المنظمة الفاشية "سيلفر شيرتس" وليم دَدْلي بيلي PELLEY. وعندما تحدّاه بعضهم لاثبات مزاعمه، ادعى أنه حصل على نسخة عن يوميات "بنكني" من أحد أحفاد هذا الأخير - لكنه رفض الافصاح عن الاسم! وأعلن المؤرخ الأميركي المعروف بدقته ونزاهته، تشارلز بيرد BEARD، بعد ابحاث مكثفة، "ان هذه "النبوءة، المزعومة، المنسوبة الى فرانكلين، تزوير غير متقن... وليس ثمة دليل من أي نوع كان في سجلاتنا التاريخية على وجود أي أساس لهذه الكذبة". وفي عام 1938، أصدر مدير معهد فرانكلين آنذاك، هنري بَطْلر آلان، بياناً نفى فيه وجود تلك "اليوميات". تجدر الإشارة الى ان الصحف والاذاعة الألمانية نشرت - وبثت - "نبوءة" فرانكلين مرات عدة في الثلاثينات والأربعينات. كذلك حظيت تلك "الوثيقة" بشعبية كبرى في أوساط النازييِّن المحدَثين NEO-NAZI، في الولاياتالمتحدة. ومن المحتمل أنها وصلت الينا بعد نشرها في أحد أعداد النشرة المسماة "ثندربُولت"THUNDERBOLT لعام 1966 - وهي نشرة تصدرها احدى أكثر فئات البيض تعصُّباً في الولاياتالمتحدة. 2- يُقوَّل بنيامين فرانكلين، بحسب النسخة الآنفة الذكر: "ما لم يمنعوا بالدستور من دخول الولاياتالمتحدة، فلسوف يتدفقون على هذه البلاد، خلال مئة عام أو أقل، بأعداد كبيرة تمكنهم من حكمنا وتدميرنا، وتغيير صيغتنا للحكم...، ولسوف تجدون أولادنا بعد مئتي عام وهم يعملون في الحقول لاطعام اليهود...". وقد وردت المطالبة بمنع اليهود من "دخول" الولاياتالمتحدة، أو باستثنائهم منها "بموجب الدستور"، أربع مرات: لكنها أصبحت في "وثائق" بعض كتابنا، مثل السيد س. ناجي: أن "تطردوا هذه الطغمة الفاجرة من بلادنا". لا شك في أن رجلاً موسوعيَّ المعلومات ومتعدِّد المواهب مثل بنيامين فرانكلين كان مطلعاً الى حد كبير على نقطتين أساسيتين، هما: أ - ان اليهود في العالم كله أقلية ضئيلة جداً، وأن عددهم في أواخر القرن الثامن عشر ربما كان أقل مما وصل اليه في قرون سابقة - وتالياً، فهو لا يخشى أعدادهم "الكبيرة". ب - أن عدد اليهود إبان "الثورة" الأميركية، التي انطلقت شرارتها الأولى قبل المؤتمر الدستوري باحدى عشرة سنة، كان نحو ألفين وخمسمئة... "ساند معظمهم الثورة، فحارب أربعون منهم تحت قيادة جورج واشنطن، وقدم الآخرون دعماً مالياً. وكانت المساندة اليهودية - جزئياً، على الأقل - نابعة من المصلحة الذاتية، لأن عدداً بارزاً منهم كانوا تجاراً، والثورة كانت حرب تجّار": كما تقول المؤرخة اليهودية المعادية للصهيونية وللتأييد اللامحدود من اليهود الأميركيين لاسرائيل روبرتا شتراوس فيورليخت. ومن المؤكد ان فرانكلين كان يعلم ان أول مجموعة من اليهود وصلت الى "العالم الجديد" عام 1619، وكانت مؤلفة من أربعين شخصاً: مما يعني ان عددهم لم يزدد طوال 168 سنة، على رغم الولادات و"تدفق" المهاجرين، إلا بمعدل خمسة عشر شخصاً... في العام! أضف الى ذلك، أن ثمة أدلة عدة على وجود علاقة ودّ وصداقة بين فرانكلين وعدد من المثقفين والمتمولين اليهود. فَعَلى سبيل المثال لا الحصر، وقّع فرانكلين عريضة تناشد "المواطنين من كل طائفة" التبرع للجمعية العبرية في فيلادلفيا... لبناء كنيس يهودي! 3- تقول الوثيقة المزعومة: "لأكثر من ألف وسبعمئة سنة واليهود يتفجعون على قدرهم المحزن، وبالتحديد على أنهم أخرجوا عنوةً من وطنهم الأم. ولكن، أيها السادة، لو قرر العالم ان يعيد اليهم اليوم فلسطين وممتلكاتهم، فلسوف يجدون على الفور أسباباً ملحَّة لعدم العودة الى هناك. لماذا؟ لأنهم مصاصو دماء، لا يستطيعون العيش في ما بين أنفسهم. عليهم ان يعيشوا بين المسيحيين وغيرهم، ممن لا ينتمون الى عرقهم"! هل كان اليهود الأميركيون، القادرون بمالهم الوفير أيام الثورة على "تمويل الجبهتين... بغية اطالة أمد الحرب لتزيد فوائد أموالهم" س. ناجي، ص 323، يطالبون فعلاً بالعودة الى ... "فلسطين"؟ وهل من المعقول، في أواخر القرن الثامن عشر، وفي الحديث عن "العودة" اليهودية، أن يذكر المسيحيون الأميركيون، "التوراتيون" حتى العظم، اسم فلسطين - وليس "أرض الميعاد"، أو "الاراضي المقدسة"؟ 4- يلاحظ المتمعِّن في قراءة النبوءة المزعومة: اللهم ان كان مطلعاً على تاريخ الولاياتالمتحدة، وعلى كيفية تطور اللغة الانكليزية: أن لغة هذه "الوثيقة التاريخية الخطيرة"... حديثة العهد، وليست - بالتأكيد - لغة النصف الثاني من القرن الثامن عشر! ويرى كتابنا المؤمنون بصحة "نبوءة" فرانكلين، أو الراغبون في تصديقها، أنّ "بطل التحرير الأميركي" ناجي، ص 324 فشل في اقناع بقية المندوبين الى المؤتمر الدستوري، لأن بعضهم "كان من الماسون، والبعض الآخر كان قد ارتشى مسبقاً... كما ان الحكومة كانت غير راضية عن القرار لأنها كانت بحاجة ماسة للمال، وكان اليهود قد وعدوها بتلبية رغبتها إن هي حالت دون اقرار المشروع. كما ان الجمعيات المحلية كانت تساند اليهود لأن أكثرها كانت تعيش على أموالهم" ناجي، ص 325. ويعرف كثُر في عالمنا العربي ان مستعمري "العالم الجديد" وأحفادهم الذين ثاروا على بريطانيا - وعشرات الملايين من الأميركيين الحاليين - كتابيُّون "توراتيّون" حتى النخاع. وقد "بلغ من تأثير، العهد القديم، على الرواد الأوائل في أميركا حداً جعل أعضاء اللجنة، التي شكلت عام 1776... للتوصية بشعار رسمي للأمة الوليدة، يركزون على شعار مستوحىً من ملحمة بني اسرائيل الدينية. فاقترح بنيامين فرانكلين رسماً يمثل موسى وهو يغلق البحر الأحمر بعصاه، ويُغرق في مياهه فرعون مصر وجيشه بعد عبور بني اسرائيل". الأمر الذي لا يعرفه الا القلائل، حتى في الولاياتالمتحدة نفسها وإنْ عرفوا هناك، فلا يأبهون، هو ان بنيامين فرانكلين، الذي لم يكن مختلفاً عن بقية المندوبين الى المؤتمر الدستوري من حيث الثراء، رُشِّح للعضوية في محفل "ساينت جون" الماسوني في فيلادلفيا، في 4/1/1731، عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، ويصدر جريدة أسبوعية منذ عام 1722. وفي 1/2/1731، أي قبل تسجيل المحفل الماسوني رسمياً بعامين، انضم فرانكلين الى المجموعة، وصار يحضر الاجتماعات الشهرية ويشارك في الانتخابات السنوية يذكر جرجي زيدان، في فصل عنوانه "أسماء الأخوة الماسونيين... من أول التاريخ المسيحي الى هذا العهد"، أن المحفل الماسوني الأول في الولاياتالمتحدة أسِّس في ولاية مساتشوستس سنة 1733، وأن جورج واشنطن انضم الى الماسونية عام 1799. تجدر الاشارة هنا الى ان صحيفة فرانكلين، "ذي غازيت"، كانت عدائية تجاه الماسونيين، كما يتبين مثلاً من عدد 8/12/1730، لكن فرانكلين نشر في 13/5/1731 "مقالاً ايجابياً عن الماسونية". ولم أجد في سيرة حياة فرانكلين، أو في العديد من كتاباته وكتابات الآخرين عنه، ما يشير الى انه... "تاب"، أو تنكّر لماسونيته في أواخر حياته توفي بعد المؤتمر الدستوري بثلاثة أعوام. وكان "بطل التحرير الأميركي" !، في رأي خصومه، "مادياً ومنافقاً". بناءً على ما تقدّم، أتمنى على مردِّدي نغمة "نبوءة" فرانكلين عن اليهود أن يُقدموا على أحد أمرين: إما إثبات صحتها بما لا يدع مجالاً للشك، وإما نبذها كلياً- والبحث عن وترويج وثائق حقيقية ومعلومات صحيحة تدعم مواقفنا بالحق وليس بالباطل. * كاتب لبناني.