} الشباب الاردني كغيره معني بالتحولات التي تصيب بلده ومجتمعه، فتبدل من احوالها في اتجاهات متفاوتة. ففي الاردن شرائح الفئات الجديدة الآخذة في التوسع والتي بدأت تتبنى اذواقاً واساليب عيش حديثة، وفيه الاسلاميون اصحاب التأثير الاكبر في المجتمع وشرائحه الشبابية. والاردن ايضاً محكوم بموقعه الجغرافي الوسط بين محاذاته مناطق الحكم الذاتي والبوابات الاسرائيلية اليها من جهة، والعراق الحاضر بكثافة فيه من جهة اخرى. هذه المعطيات والادوار جميعاً دخلت عناصر في تشكيل امزجة شبابية نحاول في هذا الملف رصدها من خلال مواضيع مختلفة هي حصيلة جولة ميدانية في الاردن. إفتراق أجيال وحكاية أب "اخواني" انجب ابناً يسكنه "شيطان" } تتدخل الأوضاع العامة في صياغة سياقات خاصة لحياة البشر، وهذا الكلام يجد له تفسيراً مباشراً في قضية نزوح الفلسطينيين إلى الأردن بعد النكبة، ومن ثم بعد هزيمة العام 1967، وربما كانت سيرة أب وابنه دالة إلى تلك التحولات العنيفة التي اصابت أجيالاً من النازحين الفلسطينيين، وحولت حياتهم انقلابات متتالية أعاقت قيام سياق ونسق طبيعيين للأبوة والبنوة. والروايات الصغيرة قد لا تفسر أوضاعاً عامة، لكنها قد تكون سياقاً موحياً للأوضاع الناشئة من أزمات مثل النزوح الفلسطيني إلى الاردن. هذه السيرة السريعة لأب هو اليوم أحد وجوه حركة الأخوان المسلمين الأردنية ولابن ضلَّ عنها، وربط ربطاً حميماً تلك التحولات الحاسمة في حياته، بسيرة النزوح الفلسطيني إلى مخيمات الأردن: لم ينخرط والدي منذ مراهقته في سلك الدراويش الذي انتمى إليه أهله في قريتنا الواقعة على مثلث الخليل وبئر السبع وغزة. وعائلة والدي من بيئة جمعت بين البداوة والفلاحة. وخلت من المتعلمين باستثنائه، إذ استطاع ان يشتغل في البداية على نفسه وان يحصل تعليماً دينياً تابعه في بعض مدارس المنطقة. وخلافاً لوالده الذي كان شيخاً منتمياً إلى احدى الطرق الصوفية البدائية الدروشة، آثر والدي تديناً عقلانياً، ولكن جافاً في آن. فهو في نزعه تلك الطقوس والأحاجي عن تدينه، من دون أن يقيم توازناً آخر، تحول نَصِّياً صارماً. كل هذا ولم يكن هو تجاوز الخامسة عشرة. في حين كان الدراويش منتشرين بكثافة في قرى الخليل. وكانت لكل قرية طريقتها وشيخها، وانتمت قريتنا إلى طريقة شيخ خلييل من آل القواسمي، ومثله جدي في القرية، وراح يكتب للناس احاجي وحجابات لشفاء العاقرات وتزويج المحبين. نكبة فلسطين شتتت العائلة، فلجأ بعضها إلى غزة وبعضها إلى الخليل. لكن عائلتنا النواة تهجرت إلى مخيم الكرامة. والعائلة النواة اقصد بها هنا جدتي ووالدي واعمامي الأربعة، اما جدي فكان انفصل عن جدتي وتزوج من ابنة أحد الدراويش في قرية مجاورة وسلك مع عائلته في تهجيره الطريق نفسها التي سلكناها وصولاً إلى مخيم الكرامة. وصل والدي إلى عمان أوائل خمسينات القرن العشرين، بعدما قضى شهوراً في مخيم الكرامة، لكن طموحه دفعه إلى عمان. وكان قبل وصوله إليها أنجز تعليماً لا بأس به في مدارس فلسطين. وفي تلك الحقبة، كانت جماعة الاخوان المسلمين آخذة في التشكل، في صيغ تنظيمية، ولا أعرف تماماً وقائع بداية علاقة الوالد بها، وملابساتها. كان هو المهجر الآتي من بيئة ريفية تقليدية إلى بيئة شتات وتفكك عائلي احدثتهما النكبة والنزوح الذي تلاها، يحتاج من دون شك إلى نصاب ونسق اجتماعي جديد يعوِّض تكسر النسق السابق. وتضافرت طبعاً ظروف أخرى دفعت به إلى اسرة الاخوان المسلمين الأردنيين. فهو أصلاً آتٍ من بيئة تدين، وسبق له أن أجرى تحولاً وانشقاقاً عن طريقة تدين أهله في اتجاه عقلنته تناسب انتماءه الجديد. أما العامل المباشر الذي اعتقد انه كان حاسماً في خياره الانتماء إلى الاخوان، فهو ذلك الطموح الذي ولده فيه تعليمه وميزه عن آخرين ممن نزحوا معه من فلسطين. وكان الاخوان المسلمون في الخمسينات تنظيماً نافذاً، ومرتبطاً بصلات وثيقة بالملك والدولة آنذاك، وكان من ركائز النظام الذي استعان به في مواجهته الشيوعيين والبعثيين. حاز الوالد وظيفة مدرسٍ رسمي بمساعدة الاخوان على الارجح. وهنا لا بد من الاشارة مجدداً إلى ان الاخوان كانوا بالنسبة إلى كثر من المتدينين الذين نزحوا من فلسطين، مدخلاً إلى حياة جديدة. فالنازحون كانوا في حاجة إلى صيغ ينخرطون من خلالها في مجتمعات الشتات. وتنظيم الاخوان كما عرفته من داخله تنظيم حديدي يخضع المنتمون اليه لتربية داخلية صارمة، وتربط افراده علاقة متينة وحياة سرية. ومن المرجح ان هذه القواعد والقيم تشكل جاذباً حقيقياً لوافد من قرية ومن علاقات محددة، وتشكل تعويضاً لتلك الخيبة التي اصيب بها الفلسطينيون بعد النكسة. فإيهام النفس بالقوة والتماسك يعطيها سبباً للحياة بعدما فقدته. تزوج والدي عام 1954 فتاة من قرية قريبة من قريتنا في فلسطين. والدتي من عائلة دراويش أيضاً، وكان عمرها حين تزوجت 14 عاماً. يومها كان الوالد يتدرج في مواقعه في الجامعة، خصوصاً في المجالين التربوي والدعوي، وكان المنحى السياسي لنشاط الاخوان يقتصر على احتكاكات واشتباكات كانت تقع بينهم وبين الشيوعيين. لم تدم زيجة والدي كثيراً، فبعد ولادتي بشهرين، وكانت اختي سبقتني الى الدنيا بسنة واحدة، إنفصلا لاسباب ما زلنا نجهلها فعلاً، باستثناء بعض الحوادث التقليدية بين جدتي ووالدتي. وفور انفصالهما غادرت الوالدة المنزل عائدة إلى دار أهلها في الخليل، إذ اشترطوا عليها عدم اصطحابنا معها. وهناك تزوجت من فورها. أما الوالد فلم تمضِ أيضاً أشهر قليلة على انفصاله، حتى تزوج بدوره. وفور زواج والدي انتقلنا انا وشقيقتي، ولم اكن تجاوزت الاشهر العشرة من عمري، إلى منزل جدتي في مخيم الكرامة، مفسحين لوالدي وزوجته الجديدة في الاقامة وحدهما في منزل عمان الذي كان اشتراه فور نيله الوظيفة. تربيت في كنف جدة، يخيم على حياتها ماضٍ مظلم ومغرق في بؤسه. فهي بعد انفصال جدي عنها اضطرت، كي تطعم ابي واشقاءه ، ان تعمل في اكثر الظروف بؤساً وصعوبة. صحيح ان والدي واعمامي، في مرحلة انتقالي الى العيش معها، كانوا يرسلون اليها مبالغ كافية لحياة مقبولة، لكن الخوف من ماضيها وتحوله هاجساً ملازماً تفكيرها كانا يدفعانها الى التقتير الشديد. تربيت في كنف الجدة التي يفصلها عني ثلاثة اجيال، وكانت الشقاوة في انتظاري. الوالد غائب دائماً، وهو شرع في انجاب الاطفال الذين بلغ عددهم ثلاثة عشر، والوالدة في الخليل وبعد سنوات قليلة صار لها ثمانية أطفالٍ آخرين. وانا وشقيقتي نعيش في مخيم الكرامة. في زياراته القليلة لنا، لم يكن والدي يشعر بضرورة إعطائنا جرعات عاطفية تعويضية، بل كان حريصاً على إظهار صرامة في العلاقة، ورصيد اضافي منها يكفينا لأيام غيابه. أما غياب الوالدة فكان أفدح. فأنا لم اتعرف إليها قبل بلوغي التاسعة. لكنني كنت أشعر منذ سنتي الاولى بغيابها، وكنت أسأل عنها، فيأتيني الجواب أنها تعيش في الخليل مع عائلتها. وأذكر أنني لكثرة هجسي بها، كنت كلما شاهدت امرأة في المخيم لا أعرفها، أقول إنها أمي وأهرع إليها مرتمياً في حضنها. ثم أن نساء أخريات كنت أعجب بعلاقتهن بأولادهن، فأقترح على نفسي أنهن أمي، وأذهب بأحلامي اليقِظة في علاقات وحوارات معهن. محورها بنوتي وأمومتهن. وكنت لا استطيع تفسير نظرات الشفقة التي تقابلني بها نساء المخيم، بعد اتياني بتصرفات توحي بطلبي المباشر عواطفهن وامومتهن. كنت في عهدة جدتي طفلاً يعيش بلا أدنى رعاية. الغربة وغياب الرعاية أتاحا لي، أنا الطفل الذي لم يبلغ الخامسة بعد، نوعاً من الحرية المفتوحة على كل الحدود والمقرونة بحرمانٍ عاطفي فادح، فتحولت طفلاً شرساً ومشوهاً ورافضاً للعالم. لن أدعي ان شقائي كان مصدر تعاسة لي فقط. فاللهو في المخيم كان إلى اقصاه، وأتاح لي تفلتي السهل من رقابة جدتي حرية كان يحسدني عليها كثر من أطفال المخيم. وتعايشت في داخلي عناصر شخصيات مختلفة. فأذكر مثلاً السرقات الصغيرة التي كنت أقوم بها مع صديق لي في سوق الخضار، لحبات الفواكه التي كنا نأكلها أحياناً بنهم وأحياناً كنا نرميها بعد قضمة واحدة منها. وأذكر أيضاً ذلك الاعتداء البسيط الذي قمنا به على طفلة تصغرنا عمراً ولم نكن نعي معانيه. لا أدري هل شعوري بالذنب هو ما يدفعني إلى مرافقة جدي الذي كان يقيم في المخيم نفسه إلى الجامع والزاوية. وأذكر أنني في كثير من الأحيان وفي فصل الشتاء تحديداً، كنت استيقظ في الرابعة صباحاً، وأخرج لانتظره في الشارع حيث البرد القارس، ليمر ويصطحبني إلى الصلاة التي كنا نتبعها بجلسة دروشة. والدروشة طقس كنا نقوم به ونقسمه "أوراداً" والورد عبارة عن مجموعة تراتيل مترافقة مع رقصة "الله حي" وشيئاً فشيئاً نبدأ بالدوران في حلقة صوفية. والغريب في الأمر ان كل هذا الضجيج الذي رافق طفولتي لم يحُل دون انتظامي الدراسي. في هذا الوقت حافظ والدي على وتيرة زياراته المتباعدة لنا، وكان هو في عمان يوطد علاقته بالاخوان المسلمين ويستدخلهم إلى حياة عائلته، ويطور أعماله لتشمل إصدار كتيبات دعوية ودينية، ما ساعده في تحسين أوضاعه المادية. أما الوالدة فاستمرت في غيابها وانقطاعها عنا إلى ان جاء أحد أقاربنا ذات يوم وقال لنا إن أمكم موجودة الآن في منزل خالها في المخيم وتريد أن تقابلكم. كان عمري تسع سنوات، ويبدو أنني كنت تشكلت نفسياً وعاطفياً. كان لقائي بأمي عادياً، ولشدة عاديته لم أعد أذكر منه شيئاً. لم أعد أذكر مثلاً كيف استقبلتني وحضنتني، وأعتقد أن هذا اللقاء شهد شيئاً ما مخيباً، إذ استأنفت بعد لقائنا الأول انقطاعها عنا أربع سنواتٍ أخرى، نزحت بعدها مع عائلتها من الخليل إلى مخيم الكرامة، فذهبت بصحبة عمي لزيارتها، فوجدتها أماً لغيري وتضاعف شعوري بعدم اكتمال امومتها لي، لكنني واظبت على زيارتها دائماً. بدأ الوضع العام يوحي أن ثمة حرباً ستدور قرب مخيمنا، وأصبحنا نشهد ونعيش كل يوم التحضيرات لهذه الحرب. فقرر والدي جلبنا إلى عمان. وكان منزل عمي يقع في محاذاة منزل الوالد، وبينهما قطعة أرض صغيرة. فتبرع عمي بأمتار قليلة ووالدي أيضاً، وبنيا لنا ولجدتي غرفة صغيرة بين المنزلين تماماً. وانتقالي للإقامة في عمان، كان مرحلة جديدة تماماً في العلاقة مع الوالد، إذ أصبحت تحت رقابته المباشرة. كان عمري في حينه نحو 11 سنة. فباشر أبي أوامره الصارمة ما أن وصلت إلى عمان، وهي تدور في معظمها على ضرورة التزامي فروض الصلاة والذهاب اليومي إلى الجامع وقراءة الكتب الدينية وصولاً إلى الزامي الانتماء إلى اسرة اخوانية. كنت متلقياً سلبياً للأوامر. فالتزامي فروض الصلاة كان متقطعاً وخاضعاً لامكان التفلت في حال أمكن ذلك، وكذلك حضوري اجتماعات الأسرة الاخوانية. وفي ذاك الوقت كانت علاقتي بزوجة والدي تسوء يوماً بعد يوم، وتشهد عراكات بالأيدي. دائماً كان أبي يتدخل ليحسمها لمصلحة زوجته، وكان في تربيته لي في تلك المرحلة مستأنفاً ما درج عليه سابقاً من خلو العلاقة من أي مضامين عاطفية خاصة. كأن شيئاً ما يمنعه من التورط في إبداء حبه لي. فالأب بالنسبة إليه هو ذلك الرجل الذي لا يضعف، ولا ينكسر أمام عاطفة دنيوية زائلة. المجموعة الاخوانية التي انتميت إليها، كنا نسميها "الأسرة"، وكان لها أميرها الذي يوزع المهام. كانت الاجتماعات تشهد عرضاً للأحاديث وتفسيراً لها، وشرح سيد قطب للقرآن. وكان للقاءات أهداف أخرى، كإقامة الروابط بين أعضاء الأسرة وتمتينها. كان الجو فيها حميماً فعلاً، ويسود تفهم وقبول متبادل. وفي حين كان إصرار والدي وعنفه طاردين بالمعنى الكامل لإمكان انخراطي في سلك الاخوان، كانت الأجواء الدافئة داخل المجموعة جاذباً أكيداً لي. فقرأت، في حينه، وباشراف أمير الأسرة، سيد سابق وسيد قطب، حفظت أجزاءً كبيرة من القرآن. كان أمير الأسرة رجلاً أيجابياً، وأباً بديلاً، وكنت أحس حين أحدثه أن ثمة من يكترث الي، ويهمه سماعي حتى لو كان كلامي غريباً وصادماً. أما والدي فكان في أسلاكٍ أخوانية أخرى يواصل صعوده ويبني له مكانة داخل التنظيم، وأصبح مدير مدرسة وناشطاً تربوياً. وكانت حياة المنزل جحيماً بالنسبة الي. وبدأ تعرضي للضرب المبرح يزداد خصوصاً عندما كان يكتشف عدم التزامي الفروض الدينية. وكان جسمي في طفولتي ومراهقتي كما هو اليوم، ضعيفاً وهشاً، ولا يمكنه مقاومة أساليب العقاب التي كان أبي يتبعها. وأذكر أنني دخلت مرة مكتبته على جاري عادتي، اختار كتاباً لقراءته، فعثرت على كتاب لم يسبق أن وجد في مكتبة والدي مثله. إنه كتاب لنوال سعداوي وعنوانه "المرأة هي الأصل" أحترت في حينه كيف وصل إلى المكتبة. وما أن فتحت صفحته الأولى حتى أخذني ما هو مكتوب فيه. كانت قراءاتي مقتصرة على كتب التراث والفقه، وان تنتقل من هذا العالم إلى عالم نوال سعداوي دفعة واحدة، كان امراً غريباً وممتعاً بالفعل. وبعد وقت قصير من امساكي الكتاب، دخل أبي المكتبة وصعق لرؤيتي أحمله. وبين شعوره بالذنب من جراء وضعه كتاباً صادره عن أحد طلابه، في مكتبته، واتهامي بالفسق لقراءتي له، أختار درء الخطيئة بأن خلع حزامه وانهال علي به، رافضاً تأكيدي أنني لم اكن لأقرأه لولا أنني وجدته في مكتبته التي اعتدت قراءة كل شيء فيها. "الشيطان" الذي في داخلي شرع يكبر معي. وكانت علاقتي بالاخوان متقطعة، تحد منها اسئلة بدأت تحضرني ولا تجد أجوبة لديهم، في زمن أزدهرت في أوساط الطلاب أفكار تدور على مفاهيم العدالة الاجتماعية والطبقات والصراع مع اسرائيل، وكانت علاقتي بشباب من الأسرة تعيد ربطي بخيوطٍ واهنة بالتنظيم. فتفاوتت علاقتي بالاخوان بين حضوري إجتماعاتهم في مركزهم، وخروجي مباشرة بعد الاجتماع إلى إحدى الحانات القريبة. وفي سنتي الجامعية الأولى، وكنت استقللت في السكن الجامعي وعادت جدتي إلى مخيم الكرامة، حسمت خياري في الانتماء إلى حركة "فتح" التي كانت تتسع في حينه لحيرة ولايمان ممتزج بأسئلة وجودية ولفلسطيني - اردني يتخبط بكل هذا الثقل الذي خلفه النزوح. وجوه ساهرين تحت كرة الأضواء الملونة الشاب الواقف على شباك تذاكر الدخول الى Zee-club في عمان، قال للصحافي الاردني الذي عرّف عن نفسه بعدما دفع الرسم، انه لا يقرأ صحفاً، لكنه يحب الصحافيين. أما الصحافي الكهل فكانت مفاجأته كبيرة عندما شاهد رواد الملهى الشباب وكرة الاضواء التي ترسل الواناً متقطعة على وجوههم، فتُبطّئ ملامحهم، وتجعل رقصهم القليل اشبه بمشي ال"روبوت". والصحافي الذي بوجهه الذاهل، توجه نحو مجموعة من الساهرين ساقه اليهم القدر وصديق ادعى معرفتهم، عاد عن ذهوله وتعويله على لونٍ جديد لا يعرفه في مدينته، عندما لاقته الوجوه الباردة للساهرين المنشغلين عن اسئلته وحيرته بنضارة اجسامهم وشبابهم فانكفأ الى زاوية وراح منها ينظر الى الاردن الجديد الذي لا يعرفه. حمل الموقف مقداراً من القسوة التي لا ذنب لطرفيه فيها. فقد كان رد الفعل على رغبة محمود في الجلوس بينهم، ومبادلتهم ضحكهم، قلة الاكتراث والاستمرار في احاديث جانبية، وربما موقفاً املى انفكاءً الى حلقة الرقص لتفادي ثرثرات هادئة وبطيئة. حلقة الرقص موحشة، والاضاءة المتقطعة لا تصل الى الكثير من نواحيها، والمدة التي تفصل انسحاب الراقصين بين اغنية واخرى عن عودتهم اليها تبدو طويلة والحوافز التي تدفع الناس اليها تعمل بآليات بطيئة. الموسيقى في النادي الليلي تفسح امام قليل من الهمس والاحاديث، وربما خفف هذا الامر من التحفز الدائم للقفز الى الحلبة. ثمة شبان اصغر عمراً في الزاوية الاخرى من الحلبة، ربما كانوا اكثر استدعاءً للتأمل والتفكير، اذ تبدو الاحاديث التي يتبادلونها اقل عمومية، وربما كان الشاب الذي يشير بيده الى سروال مراقصته ساخراً، مناسباً اكثر من محمود لسهرة كهذه، وهو اذ يفعل ذلك ويرقص مادّاً يديه ومرجعاً إياهما الى خلف رأسه غير مكترث الى من يرقص قربه، انما يصيب مجموعة الساهرين، بما اصابوا هم به صديقنا الصحافي. وسهرة يوم الاثنين، وهو احد يومي السهر في الاردن، لن تدوم طويلاً، هي تبدأ باكراً أيضاً، وعلى رغم أن حماسة الراقصين ليست كبيرة، فإن اجواء اخرى تعوض الحماسة والكثافة، وهي ان العتمة الاليفة المخترقة بالأضواء، ليست من القوة التي تفصل المرء عن محيطه وتجعله فرداً ينبض وحده، ويستقل بعقله ومشاعره. ثم ان انخفاض صوت الموسيقى يتيح تفلتاً من الدمج القسري للمجموعات الساهرة. الجامعة الأردنية فسحة للشباب ومجال علم وحوار الشابة المنقبة الجالسة على درج خفيض، قريب من مبنى المكتبة في الجامعة الأردنية قالت إنها كانت تريد دراسة الأدب الفرنسي وتعلم اللغة الفرنسية التي حفظت من التلفزيون كلمات وجملاً منها، وراحت ترددها مدغمة بها لكنة إنكليزية. لكن والد الشابة اختار لها دراسة الشريعة التي تمكنها فور تخرجها من أن تعين مدرّسة في إحدى مدارس البنات. والشابة المتحسرة على اللغة الفرنسية وآدابها، تبدو في كلامها، كما في كثافة الملامح المرتسمة على وجهها، غير مكترثة الى النقاب ووظائفه. فلا شيء يعيق سيلان كلامها، باستثناء اعتراضات قليلة من زميلتها السمراء غير المنقبة التي تدرس الأدب الإنكليزي. والتي شعرت أن زميلتها مندفعة في الكلام أكثر مما يتيحه لقاء عابر، خصوصاً أن المكان الذي تتحدثان فيه قريب من كلية الشريعة في الجامعة، وهناك من الصعب على فتاة أن تجهر بعدم قبولها بوضعها، وأن تكثر من اختلاطها. لكن الشابة آثرت الكلام مستعملة وجهها كله ويديها أيضاً، إذ راحت تحركهما وتبعدهما عن جسمها، فظهر هذا الأخير خفيفاً وأقوى من الثياب التي لفته. أما زميلتها السمراء فأخفت تحت خجلها وتحفظها نظرات فاحصة زاد سواد العينين الحاد من دلالاتها، وأضفى عليها ذكاء قد لا يكون حقيقياً. إنه الممر المؤدي الى كلية الشريعة حيث معظم الفتيات منقبات، وحيث الفصل حاد بين الطلاب والطالبات. بالقرب من الشجرة الكبيرة يقف طلاب جاؤوا للاطلاع على نتائج امتحانات السنة الأخيرة، أحدهم كان يروي لزملائه كيف يطمح الى أن يعين أستاذاً في قرية صغيرة بعيدة تتيح له استقلالاً في السكن والعيش. ولا يظهر أن الطلاب العابرين من أمام كلية الشريعة، ولا سيما الشبان منهم، منخرطون في نسق مظاهر واحد، فتتفاوت ثيابهم بين أنواع مختلفة من القيافات، وهم بذلك لا يشبهون الطلاب في اتفاقهم على قواعد اختيار متشابهة لثيابهم تناسب وظيفتهم وحياتهم داخل حرم الجامعة. فبعض الطلاب العابرين اختار ارتداء بزة رسمية وآخرون نسقوا سراويلهم وقمصانهم في شكل يوحي بأن أوقاتهم في الجامعة تتيح مقداراً من الهدوء ودقة في الحركة تسمح باستمرار احتفاظهم بدقة ترتيبها. لكن هذه الملاحظات لا تنسحب على الممرات المحيطة بالكليات الأخرى، إذ يظهر واضحاً الاختلاط وآثاره على أمزجة الطلاب وأذواقهم. فما أن تتجه نحو كلية العلوم الإنسانية، حتى تبدأ الممرات تضيق بالعابرين من الطلاب، وتشعر أن للحركة وظائف أخرى. فالمقاعد على الأرصفة شاغرة، والطالبات مشغولات بالرواح والمجيء مخلفات كلاماً وإشارات، والطلاب بعضهم ممسك بالكتب الجامعية ويشغله عنها اقتراب زميلات وابتعادهن، وآخرون وأخريات غير مكترثين إلا بالصعود الى الصفوف لمتابعة الدرس. وزائر الجامعة الأردنية لا بد من أن تدهشه مبانيها القليلة المنتشرة بخفر وسط أشجار كثيفة غطت معظم المساحة التي يقوم عليها حرم الجامعة، وتصل بين الكليات طرق وممرات تعج بالطلاب المتجولين، ومظللة بصفوف من الأشجار المتراصة على جانبي الممر. وتضم الجامعة الأردنية نحو 24 ألف طالب موزعين على 12 كلية، وقد تكون هذه المساحة المكان الوحيد في عمان الذي يضم هذا العدد الهائل من الأشجار، إذ لا بد لزائر عمان من أن يشعر بانعدام وجود أشجار تؤنسن ذلك التنظيم المدني الدقيق للمدينة. الشابة المنقبة تظهر مجدداً سائرة في الممر المؤدي الى كلية العلوم الإنسانية، وهي تبدو اكثر انفراجاً وخفة، وتتجه نحو دائرة يتجمع فيها الطلاب بكثافة، عند نهاية الممر. الوجوه تتكرر في طريق العودة، والطلاب اللاهون يزيدون من اقتناعك بسهولة الاتصال بهم، فهنا الفصل ليس حاداً بين الجنسين، والخطوات القليلة التي تفصل الطالب عن الطالبة، توحي بأن هناك رغبة متبادلة بتقصيرها. لكنك تشعر بذلك الثقل الذي يملي حذراً واضحاً من الاقتراب، والارتباك الذي يحدثه حصوله، مصادفة. الشبان الثلاثة الجالسون على مقعد جانبي الى جوار الطلاب المحتشدين على غير هدى، هم أبناء عشائر أردنية، ترشحوا الى الانتخابات الطالبية ضمن لائحة أبناء العشائر وفازوا. وهم يعترفون بأن انسحاب الطلاب الإسلاميين من الانتخابات سهل فوزهم. ويقول محمد إن القوى الطالبية في الجامعة يمكن تقسيمها ثلاثاً: الإسلاميون وهم القوة الراجحة، ثم أبناء العشائر، فاليساريون. وقد انسحب الإسلاميون من الانتخابات بسبب قانونها الذي وضعته الإدارة، فأتاحت لنفسها أن تعين 50 في المئة من أعضاء المجالس الطالبية، وأن يتم انتخاب الخمسين في المئة الثانية، وهذا ما اعتبره الطلاب الإسلاميون خطة لتحجيم دورهم في الجامعات، ضمن مشروع عام لتحجيمهم في كل الأردن، ويعتبرون ذلك "فاتورة" تريد الحكومة أن تدفعها للخارج، لكنهم مطمئنون الى أن الدولة لن تلغيهم، وهي تتيح لهم منافذ لحضور يمكنها تحمله أمام مطالبات خارجية ملحة بمنع الإسلاميين من تصدر الحياة السياسية في الأردن. هذا الكلام قاله طالب إسلامي، وظهر في عرضه متماسكاً وهادئاً كأنه هيأ كلامه ورتبه مسبقاً. أما الطلاب الآخرون الذين لا تبدو على وجوههم أو ثيابهم آثار انتماءات حزبية أو عشائرية فالحديث الذي يرغبون في إسماعه وإيصاله، هو ذلك الذي يتعلق بارتفاع أكلاف تعلمهم. فالمنتسبون الى الجامعة الأردنية على رغم كونها حكومية، عليهم تسديد أقساط توازي، إذا ما قسمت على عدد الأشهر، الحد الأدنى للأجور عن كل طالب. وقد أدخلت الجامعة رسماً إضافياً إلزامياً لإشراك الطلاب في خدمات المعلومات والإنترنت، ما زاد من صعوبات تأمين الأقساط التي يحاول كثيرون من الطلاب تأمين أجزاء منها في عطلهم، إذ يلجأون الى أعمال ووظائف موقتة كي يساعدوا أهلهم في تأمين أكلاف تعليمهم الجامعي. والشباب الأردنيون المفاخرون، بإقبالهم على التعليم الجامعي وبارتفاع نسب حائزي الشهادات الجامعية بينهم، يتوجس معظمهم مما ينتظرهم بعد تخرجهم. فيقول مصطفى: "بعد إقفال أسواق العمل الخليجية أصبحت البطالة في انتظارنا، أما أسواق العمل الجديدة، إسرائيل مثلاً، فهي ليست لحملة الشهادات الجامعية، وإنما لعمال زراعيين وآخرين قليلي المهارات، ومتدني الأجور". الطلاب في الأردن ليسوا فئة خارج جامعتهم. وهذا الاستنتاج يمكن التحقق منه عبر محاولة رصد حياة طالبية خارج الجامعة، في المقاهي مثلاً أو نوادي الليل. إذ يغلب على رواد هذه الأماكن فئات عمرية أكبر قليلاً، أما الشباب منهم فيشعر المدقق في وجوههم وفي أنماط تبادلاتهم أن أقنية تعارفهم ربما كانت انتماءهم الى فئة اجتماعية واحدة وقرابات، وقد تشعر أيضاً أنهم تعارفوا وتعلموا خارج الأردن، وهم هنا يستأنفون حياة بدأوها هناك حيث التقوا. وتقول وفاء الطالبة في كلية الحقوق! إن إمكان التقائها زملاءها من الطلاب خارج الجامعة أمر نادر الحصول ودونه عقبات كثيرة، وأن كثراً من الطلاب ينتظرون تخرجهم وانخراطهم في وظائف وأعمال حتى يستأنفوا علاقات الجامعة خارجها. لكن الجامعة العمانية مهيأة لرحابة ولحياة هادئة تضافان الى سمعتها الأكاديمية، والى إنها جزيرة طبيعية خضراء وسط عمان المحاصرة بالصحراء. دراسة ل"مركز الأردن الجديد". حال البطالة والمخدرات والتمييز ضد المرأة الدراسة التي أعدها مركز الأردن الجديد، للتعرف الى بعض آراء الشباب الأردني وأفكاره في بعض القضايا، عبر استمارة اعتمدت اقتراحات شبابية، خلصت الى أن نحو 34 في المئة من الذين شملتهم العينة يرون ان أهم مشكلة تواجه الأردنيين البطالة، ونحو 10 في المئة التمييز ضد المرأة، و8 في المئة استثمار أوقات الفراغ و8 في المئة ايضاً يعتبرون ان تضخم مشكلة ادمان المخدرات استحقاق بدأ الأردن يواجهه. والاستمارة التي أعدها فريق من الباحثين الشباب في المركز هدفت ايضاً الى اشراك الشباب في اقتراح الحلول للمشكلات التي تطالعه ففي المشكلات الزوجية رصد الفريق أسباباً لها علاقة بأختلاف المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الزوجين وارتفاع نسبة البطالة وانخفاض مستوى الدخل. وخلصت الدراسة الى نتائج وضعت امام ملتقى الشباب الأردني السنوي. وقد وزعت المشكلات أبواباً. هنا عرض سريع لها: - الأسرة: تدّخل الأسرة في شؤون الشباب، وصعوبة التفاهم بين الأجيال، والتمييز بين البنين والبنات، وعدم مشاركة الشباب في اتخاذ القرارات في الأسرة، وضعف دور الأسرة في تنشئة الشباب. - المشاركة في المجال العام: عدم توافر المراكز الشبابية والطالبية وقلة وعي الشباب بأهمية المشاركة في الحياة العامة، واهتمام الشباب بمشكلاتهم الحياتية يقلل من مشاركتهم في المجال العام، والقوانين تعيق مشاركة الشباب، وقلة الحرية المتاحة امام الشباب للمشاركة، وضعف المنظمات غير الحكومية، وعدم الاهتمام برأي الشباب في القضايا العامة. - ثورة الاتصالات والمعلومات: الآثار السلبية لثورة المعلومات على الأخلاق، والكلفة العالية لاستخدام تكنولوجيا المعلومات، وقلة الخبرة والتدريب في مجال المعلومات، وعدم مواكبة المناهج التعليمية لثورة المعلومات، وعدم توافر ثورة معلومات عربية تعبر عن ثقافتنا الخاصة، وقلة وسائل الاعلام التي تهتم بقضايا الشباب. - محور التعليم: ضعف التعليم اللامنهجي، وعدم مواكبة المناهج الجامعية لمتطلبات سوق العمل، وصعوبة الاختيار بين التعليم الأكاديمي والتعليم المهني، وقلة موازنة البحث العلمي، وتقليدية مناهج التعليم المدرسي ووسائله وارتفاع الرسوم الجامعية، وضعف الحوار بين الهيئات التعليمية والطلاب، وانخفاض مستوى المدارس الحكومية عن مستوى المدارس الخاصة، والنجاح التلقائي في المدارس. - العمل: الصورة السلبية عن بعض المهن والأعمال، وتدني الأجور، والبطالة واعتماد الواسطة بدلاً من الكفاية في التوظيف، والظروف الصعبة لموظفي القطاع الخاص، وصعوبة الهجرة للعمل، وقلة التدريب والتأهيل، وقلة الصناديق التي تدعم مشاريع الشباب، وعدم اعتماد الكفايات الشابة. - الزواج: الاكراه على الزواج، والزواج المبكر، وارتفاع تكاليف ما قبل الزواج، وتنظيم عدد افراد الأسرة، وارتفاع تكاليف ما بعد الزواج، وتغير طبيعة العلاقة ما بين الزوج والزوجة. - الشباب وأوقات الفراغ: قلة المرافق الثقافية والترفيهية، وضيق اوقات الفراغ، وعدم استثمار أوقات الفراغ في شيء مفيد، والكلفة الباهظة لتمضية أوقات الفراغ. - النوع الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية: التقليل من دور المرأة، والفصل السلبي بني الجنسين، والتمييز بين الجنسين، والتخوف من نظرة المجتمع الى العلاقة بين الجنسين، وسوء استخدام العلاقة بين الجنسين. - الثقافة الديموقراطية: عدم المساواة، وعدم وضوح سقف الحريات، واحترام الرأي والرأي الآخر، والتعصب والعشائرية، وضعف التوعية والتنشئة الديموقراطية. الهوية الثقافية الأردنية: التقليد الأعمى للغرب، وسلبية بعض العادات والتقاليد، والابتعاد عن المبادئ الاخلاقية والدينية، والتأثير السلبي لعدم المساواة الاجتماعية في الوحدة الوطنية.