لم تقف النشأة المتواضعة للعالِم البريطاني - الفلسطيني فراس عبدالله سرحان، حاجزاً يمنعه من التطلع نحو آفاق بعيدة. يعرف سرحان عن نفسه بالقول: «ولدت في عام 1969 في مخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين (شمال مدينة رام الله) في الضفة الغربية لنهر الأردن، ونشأت في أسرة مكوّنة من صبيّين وخمس أخوات. كنت صغير العائلة وكانت أجواء أسرتي سعيدة نسبيّاً، على رغم مرارة الحال. علمتني والدتي المحبة الدافئة، وعمل والدي في «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا)، فكان مسؤولاً عن الخدمات الاجتماعية في مخيمات الضفه الغربية. أذكر والدي رجلاً محبّاً يحضّ أولاده على حب مساعدة الغير ومشاركتهم معاناتهم. تعوّدت أن أكون جزءاً من المجتمع الذي أعيش فيه، خصوصاً مع تشجيع والدي لي على الانخراط في العمل التطوّعي في المخيّم». من الواضح أن أسرة سرحان رفعت العلم شعاراً لها، إذ حصلت البنات الخمس على تعليم جامعي، كذلك حدث مع الصبيّين. وتميّز فراس بحلم الارتقاء المستمر في العلوم. ويضيف سرحان: «كان بعض زملائي يحلم بأن يكون طبيباً أو مهندساً. ضحى البعض بمسيرته العلميّة كي يعيل أسرته، وهؤلاء ما زلت متواصلاً معهم وأحترمهم». وعلى رغم تفوّقه المبكر في الرياضيات والعلوم، إلا أنه اهتم بالأدب أيضاً. وقرأ أعمال ويليام شكسبير وتشارلز ديكنز وطه حسين ومحمود درويش. «انجذبت إلى الكاريكاتور عبر أعمال الرسّام ناجي العلي الذي أشاركه في معاناة العيش في المخيّمات. في مدرسة المخيّم بذل المدرّسون الطيّبون جهوداً خارقة لإيصال العلم إلى طلابهم. أذكر أن صفوفنا كانت مزدحمة، يُرصُّ فيها ما يزيد على 40 طالباً. لكنها أيضاً، كانت مملؤة بروح التنافس العلمي بروح رياضيّة». دخل سرحان الجامعة على وقع الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى وصورة الطفل محمد الدُرّة شهيداً في حضن أبيه. ويقول: «مفارقة أن تلمس يداي الكومبيوتر وفي خيالي هذه الصورة المأسوية. لكن الأمر لم يدم طويلاً، لأن الأجواء السياسيّة المتوتّرة أدت إلى توقف الدراسة». التجربة البريطانية على إيقاع يمزج بين الحلم الطموح بالعلم من جهة، وتعقّد الأوضاع العامة من الجهة الأخرى، وجد سرحان أن المدخل لتحقيق حلمه هو بريطانيا. لم يكن المسار سهلاً، بل فائق التعقيد والتعرّج. «لم أكن أتقن الإنكليزية في شكل كافٍ. فتعلّمتها في جامعة «أوكسفورد»، وأتقنتها في 6 شهور. كانت تلك الخطوة الأولى، بل العتبة التي لا بد من تخطيها. بعدها، لم يكن من مجال مفتوح وعمليّ أمامي سوى تعلّم مهنة التمريض. درست هذه المهنة الطبيّة الرائعة في كليّة «باكنغهام شاير» لثلاث سنوات»، يقول سرحان. انتهت تلك السنوات بتخرّج سرحان في كليّة التمريض بتفوّق، لفت إليه أنظار المستشفى الذي تدرّب فيه. ثم عمل في مستشفى «ستوك ماندفيل» ذي الشهرة العالميّة في إصابات الحبل الشوكي Spinal Cord Injury. عبر سرحان السلم الوظيفي قفزاً قفزاً، بالاعتماد على مثابرته. وبعد التخصّص، انتقل الى العمل محاضراً في جامعة «بيدفورد شاير» ثم استقطبته جامعة «باكنغهام شاير». مثّلت الجامعة الأخيرة باباً لانتقال سرحان من الدراسات الأكاديمية الصرفة، إلى البحوث العلميّة المتقدّمة، خصوصاً بعد نيله الدكتوراه. وتمحورت بحوث سرحان حول إصابات الحبل الشوكي وما يرافقها من أنواع الشلل في أطراف الجسم. ويقول سرحان: «ركّزت بحوثي على المشاكل التي يواجهها من يعاني إصابة في الحبل الشوكي، بعد الخروج من المستشفى. إنها مشاكل الانخراط في المجتمع والعودة الى الدور الفاعل في الحياة. في تلك المرحلة الحسّاسة، لا بد من استمرار العناية بالجسد وتطوير قدراته، إضافة إلى العمل على تجنّب حدوث مضاعفات جانبية أيضاً». أدت بحوث سرحان في هذه المساحة العلمية الحسّاسة التعمّق في إصابات الحبل الشوكي، مع التركيز على استخدام التكنولوجيا الرقميّة وأساليب الطب عن بُعد «تيلي ميدسن» Telemedicine. ويوضح: «عملت على تأسيس مركز للطب عن بُعد في جامعة «باكنغهام شاير». وحصلت على تمويل من الجامعة ووزاره الصحة البريطانيّة. يتولى المركز تطوير مفهوم الطب عن بُعد، مع إعطائه بُعداً اجتماعيّاً عبر التعاون مع المستشفيات والمجالس المحليّة والقطاع الخاص. لعل الشيء الأكثر أهميّة هو تطوير مفاهيم الطب عن بُعد، وابتكار طرق لتطويع التقنيّة ووضعها في خدمة مرضى إصابات الحبل الشوكي، إضافة إلى كبار السنّ ممن يعانون أمراضاً مزمنة». وتقديراً لإنجازاته الكبيرة في الدمج بين المقاربة العلمية لإصابات الحبل الشوكي والطب عن بُعد، حصل سرحان على مجموعة كبيرة من الجوائز العلمية. ويوضح: «حدث إعجاب واسع ببعض التطبيقات التكنولوجية المتّصِلَة بالمجال الطبي، خصوصاً استخدام الصور الفوتوغرافية وأجهزة الخليوي، كأدوات في تقويم مشاكل يوميّة في مرضى إصابات الحبل الشوكي، على غرار التقرّحات التي تأكل جسد من يعاني الشلل». ويضيف: «عملت على تصميم وتطوير نماذج خاصة في هذا النوع من المشاكل الطبيّة. صارت تلك الابتكارات معتمدة ضمن أساليب الطب عن بُعد لدى كثير من الجهات العلميّة والطبيّة في بريطانيا. وكذلك استُخدِمَت في التعامل مع مرضى القلب وأصحاب المشاكل الصدرية المُزمِنَة والمُصابين بتجلّطات في الأوعية الدموية للدماغ. في السياق عينه، ابتكرت تقنيّات في استخدام الإنترنت لمعالجه الآلام المزمنة، واستخدام التكنولوجيا لمساعده الأطفال الذين يعانون من مشاكل التخاطب والتواصل كال «ديسليكسيا» Dyslexia. وطوّرت تقنيّات رقمية اتّصالية للتعامل مع الأطفال الذين يعانون من مشاكل في إدارة أمورهم الحياتية اليوميّة». في تواصل مع العرب بعد أن تعمّق في مجال الطب عن بُعد، انفتح أمام سرحان المجال للبحث عن طرق مبتكرة للربط بين أصحاب الاختصاص الذين ينضوون ضمن فرق علاج إصابات الحبل الشوكي، وهم في العادة متنوّعون ويأتون من مجالات طبيّة متباعدة. ثم انتقل إلى مجال أبعد قليلاً، يتمثّل في إدخال خدمات التواصل مع المريض عبر الإنترنت من دون الرجوع إلى العيادات الخارجية في المستشفيات. وبعد نجاح مقارباته المبتكرة وتطبيقها في عدد كبير من المستشفيات الإنكليزية، عمد سرحان إلى نشر مقالات علميّة متوسّعة في مجلات مختصّة. وأنجز توثيق بحوث متنوّعة في مجال اختصاصه. وكذلك تكرّرت مشاركاته في المؤتمرات العملية محليّاً وعالميّاً. وفي المقابل، ساهم هذا الحضور العلمي النَشِط لسرحان في توسيع دائرة علاقاته علميّاً وعملانيّاً، ما ساعده على إنجاز بحوث مشتركة مع مختصين من القارة الأوروبيّة، خصوصاً الدول الاسكندينافيّة. وكذلك عمل على تصميم برامج تعليمية جامعية وصولاً إلى مستوى الماجستير، في مجال الطب عن بُعد. وتتوجه تلك البرامج إلى العاملين في المجال الصحي والعمل الاجتماعي. واعتمدتها مجموعة من الجامعات البريطانيّة. وبصورة دائمة، حرص سرحان على التواصل مع الوطن العربي، خصوصاً «الرابطه العربيّة للتأهيل والطب الفيزيائي». وبذل جهوداً كبيرة في تنميّة العلاقات مع أطباء في مستشفيات عربيّة مختلفه في الأردن والسعودية ومصر وسورية وفلسطين ودولة الإمارات العربيّة المتحدة. ويقول: «كنت وما زلت راغباً في المساعدة على تعزيز تقنيّات الطب عن بُعد في العالم العربي، خصوصاً أنه مجال جديد يتوسّع باستمرار، ويساعد المرضى على التخلّص من تكرار الزيارات المضنيّة إلى المستشفيات والعيادات، كما تساعد هذه التقنيّات في التعرّف إلى مشاكل المرضى في مراحلها الأولى، ما يسهل التعامل معها والشفاء منها».